إيمان الزيات
“الست” كما يلقّبها المصريون والعرب، غنت في مثل هذا السياق أكثر من مرة، فتركت لجمهورها قائمة لا بأس بها من الرسائل الروحية تضم أعمالا من قبيل؛ سلوا قلبي، نهج البردة، لغيرك ما مددت يدا، الرّضا والنّور وغيرها من الأعمال الفنيّة. ولكن رغم هذا كلّه، تظلّ “الستّ” حتى بعد مرور أربع وأربعين سنة على رحيلها محل انتقاد من معسكر الإسلاميين وكأنّنا بها عدوة لدودة لمشروعهم وظاهرة إنسانية لم يفلحوا في هزيمتها والحد من تأثيرها على قلوب الناس.
فما سرّ هذه المعاداة؟ وهل هي فعلا قضية دين وتقوى أم هي ترجمة لمخاوف الإسلاميين من أي شكل من أشكال التأثير على المجتمعات العربية التي يريدونها قاحلة ومفرغة من ثقافتها وحسها وشعورها؟
بداية، أم كلثوم هي خطر فعلي على الإسلام السياسي كمشروع يستهدف الأمة العربية. وإن أمعنا البحث في أعمالها فسنرى بوضوح أنها كانت قد قدمت بفنها بديلا عما يروجه الإخوان المسلمون وغيرهم من المتشددين الطامعين في السلطة. وبديل أم كلثوم هو بديل روحي ينأى بالناس عن المطامع السياسية والرغبة في الحكم ويرتقي بهم إلى عالم غير مادي قد لا تكون فيه محبة الله مقترنة برغبات دنيوية بل خالصة وصادقة.
والبديل الكلثومي هو أيضا بديل وطني لا يدين بالولاء لمرشد أو لرئيس حركة أو لشيخ من شيوخ الدين، بل يدين بكل الولاء للوطن و للشعب الذي على بابه “تدق الأكف ويعلو الضجيج” فيجيب على الطارق في رائعة الست من كلمات كامل الشنّاوي بـ“أنا الشعب لا أعرف المستحيلا”.
ومنذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928، تجلى للرأي العام أن الوطنية لم تكن يوما من ركائز فكر الجماعة ولا من أولويات طرحها الذي يقول بجواز القتل والتخريب وإثارة الفتنة في سبيل فرض مشروعهم السياسي بالقوة. وهذا ما قد يفسر السرعة التي كان قد تم بها إسقاط حكم الإخوان في العام 2013 بعد أن خرج الملايين من الشعب المصري في ثورة على سياسات كانت قد وضعت مستقبل مصر بأسره على المحك.
وللإخوان صراع مقيت مع الفن ومع أم كلثوم بالذات، ففي عام 2012 في مدينة المنصورة وفي أوج حكم الإسلاميين فوجئ الأهالي بتمثال “الست” مرتديا نقابا قبل أن ينزعه بعض الشباب من على وجهها. وفي عام 2013 وعقب ثورة 30 يونيو التي أطاحت بحكم الإخوان ألبس المتظاهرون تمثال “الست” علم مصر في رد صريح على المتشددين وفي دعم واضح للمشروع الوطني في مصر.
سقط حكم الإخوان وسقطت معهم ورقة التّوت وذلك بعد أن انفضح مشروعهم وبالغوا في العنف لخدمة تنظيمهم وكسر إرادة الوطنيين في مصر وفي العالم العربي. وبعد سقوطهم بقيت أم كلثوم وبقي صوتها الذي يصدح اليوم من كلّ مكان: من المذياع، وفي سيارات الأجرة، ومن محلات الكشري ومن أكشاك الصحف والمجلات. وإن كانت أم كلثوم شوكة قد انغرست منذ البداية في خاصرة الإخوان المسلمين وغيرهم من تيّارات الإسلام السياسي، فهي ليست شخصية مؤثرة في مصر فقط بل هي أيضا رمز وأيقونة لها تأثيرها في العالم العربي بأسره.
وأم كلثوم التي راوحت بين الغناء بالعامية والفصحى في مسيرتها الفنيّة، كانت قد حققت غايتين اثنتين: الأولى الانتصار للعامية المصرية وترويجها في العالم العربي بطريقة تخدم المصريين جميعا وتجعل لهم حظوة في قلوب العرب من شمال أفريقيا إلى حدود آسيا. أما الغاية الثانية فكانت الترويج للغة الفصحى وذلك من خلال تأدية القصيد. وهنا من الطبيعي اعتبار “الست” السفيرة الأولى عن اقتدار في خدمة اللغة العربية الفصحى وهي التي غنت على مدى مشوارها الفني أكثر من سبعين قصيدة فصيحة لقرابة ثلاثين شاعرا من مختلف الدول والمدارس الشعرية.
وعلى سبيل الذكر فإن أم كلثوم كانت قد غنت من القصيد العربي القديم لقامات كبكر ابن النطاح وأبي فراس الحمداني والشريف الرضي وصفي الدين الحلي وغيرهم. أما من الشعر الحديث المصري، فإن الست كانت قد أطربت جمهورها بكلمات أحمد رامي، شاعر الشباب، وأحمد شوقي، أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم شاعر النيل، وغيرهم من فرسان الكلمة كعلي الجارم وكامل الشنّاوي والقائمة تطول.
وأم كلثوم تحدت الحدود الجغرافية في تأديتها للقصيد الذي انتقته من أكثر من دولة، عندما صدحت بكلمات الهادي آدم من السودان وجورج جرداق من لبنان وعلي أحمد باكثير من اليمن ونزار قباني من سوريا وأحمد مشاري العدواني من الكويت والأمير عبدالله الفيصل من المملكة العربيّة السعودية.
ولعل ما سبق يمثل أيضا جزءا من الأمور التي تثير حفيظة الإخوان المسلمين وأنصارهم. فمشروع “كوكب الشّرق” وإن كان في صميمه وطنيا، فهو بالإضافة إلى ذلك مشروع وحدة تنبني على التنوع والاختلاف الثقافي. فالست بعكس غيرها من مطربي عصرها كانت ترى في الاختلاف والتنوع ثراء وقوة ترتقي بالعالم العربي إلى مرتبة تسمح له بأن يكون مصدرا للثقافة ومتفاعلا مع غيره من شعوب العالم على الساحة الفنية.
وأم كلثوم هي من القلائل الذين لم يصدقوا كذبة اللون الواحد والنمط المثالي والهوية المتجمدة، وهي من القلائل الذين كانوا يعلمون أن الاختلاف لا يؤدي ضرورة إلى الانقسام، بل لعله يجمع بين النّاس وينشر بينهم قيما إنسانية نبيلة كالتسامح والتعايش والتعاون في سبيل الأفضل وبما يسمح بارتقاء ثقافي لكل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
أما رؤية الإسلاميين فالكل يعرفها وهي في أساسها تنبني على تهميش الآخر وضرب الاختلاف بغاية فرض شكل واحد ولون واحد. وهذا قد يؤدي بنا إلى تدافع اجتماعي لن يحقق للشعوب العربية سوى الانقسام والضعف وعدم القدرة على بناء دول قوية ومجتمعات منسجمة لما فيه صالح الأمة جمعاء.
وفي النهاية لا ننسى أن أم كلثوم امرأة عربية مسلمة وهذا أيضا قد يكون تفسيرا للضغينة التي يكنّها الإسلاميون لها متى أتى ذكرها، فهم في تقاليدهم يستنقصون المرأة ويعملون عادة على تحجيم دورها وإخماد صوتها. وقد يستشهد البعض منهم اليوم بإشراك بعض النّساء في أحزابهم الإسلاميّة وقوائمهم الانتخابية، إلا أننا نعلم أنها مجرد محاولة لتحسين الصورة واسترضاء الدّاعمين لهم في الغرب.
فكما غنت أم كلثوم قائلة “أنساك ده كلام”، كيف ننسى طرح الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النّهضة، في كتابه “المرأة بين القرآن وواقع المسلمين” حين قال إن “ميزات المرأة تتمحور حول وظائفها الجنسية”، مستخلصا في النهاية أن “الوظيفة الجنسية هي جوهر الأنثى؟”.
بات من الواضح في السنوات الأخيرة أن كل محاولات الإسلاميين لتجميل أفكارهم الرجعية هي محاولات فاشلة كما بات من الواضح أيضا، بالنظر لمسيرة أم كلثوم وغيرها من النساء العربيات، أن دور المرأة محوري لمجابهة الأفكار الظلامية ولحفظ مكانة بناتنا وسيداتنا في مستوى أرقى من الذي ترتضيه لهن مدارس الإسلام السياسي.
عن "العرب" اللندنية