تواتر في العراق خلال الفترة الأخيرة، الإعلان عن غلق “مقرات وهمية” ينتحل القائمون عليها صفة الانتماء إلى هيئة الحشد الشعبي، في ظاهرة أثارت تساؤلات الملاحظين، وفضول أهالي عدد من أحياء العاصمة بغداد وتساؤلاتهم بشأن “الاكتشاف المفاجئ” لتلك المقرّات المعروفة من قِبَل الجميع منذ سنوات، ويرتادها أشخاص بأزياء مدنية وأخرى عسكرية، ويمارسون جميع أنشطتهم بما في ذلك ما يتعلّق بجلب الأسلحة والذخائر إلى المقرات ونقلها منها تحت مرأى الجميع بما في ذلك القوات الأمنية التي كانت تعاملهم بتبجيل واحترام وتفسح الطريق لعرباتهم رغم أنّ جلّها لا يحمل أرقاما، عدا بعض الكتابات والرموز التي تشير إلى تبعيتها للحشد.
وحاولت جهات عراقية ربط خطوة إقفال “المقرّات الوهمية” بضبط فوضى السلاح في البلد وحصره بيد الهيئات الرسمية للدولة ومؤسساتها الأمنية بما في ذلك هيئة الحشد الشعبي التي تمّ ترسيمها شكليا باعتبارها جزءا من القوات المسلّحة الخاضعة لإمرة القائد العام الذي هو رئيس الحكومة نفسه، لكنّ مصادر عراقية متعدّدة نفت ذلك وربطت الظاهرة بعملية تطهير واسعة النطاق للحشد الشعبي من الدّاخل بعد ظهور تيار ضمنه يدعو إلى ربط هذه القوّة التي نشأت في الأصل لمواجهة تنظيم داعش حين غزا ثلث مساحة العراق سنة 2014، بالدولة العراقية وفكّ ارتباطها بإيران وإنهاء خضوعها لأوامر قائد فيلق القدس ضمن الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.
وتأسّس الحشد الشعبي في السنة المذكورة استنادا إلى فتوى دينية أصدرها المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، ويتألّف بشكل أساسي من عشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة، وتمثّل أقوى الميليشيات الشيعية نواته الصلبة.
وساهم الحشد بفاعلية في الحرب على تنظيم داعش وإنهاء سيطرته على المناطق التي احتلها في شمال وغرب العراق، إضافة إلى مساحات محدودة بجنوب العاصمة بغداد.
وأصبح الحشد بفعل ما حصل عليه من تسليح وتمويل وما اكتسبه من خبرات قتالية، قوّة وازنة ليس فقط لجهة السيطرة على الأرض ولكن أيضا لجهة التأثير السياسي والضغط لتوجيه القرار العراقي، إذ أنّ كتلة كبيرة من النواب تمثّله اليوم تحت قبّة البرلمان، بعد أن كان أعضاؤها قد خاضوا انتخابات مايو من العام الماضي كممثلين للحشد ضمن ائتلاف عرف باسم “تحالف الفتح”.
ورغم صدور تشريع يُلحق الحشد بمؤسسات الدولة العراقية، إلاّ أنّ الأمر بدا شكليا لأغلب المطّلعين على الشأن العراقي، إذ ليس من المعقول أن تفكّ ميليشيا كبرى مثل “بدر” ارتباطها بزعيمها القوي هادي العامري، وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الميليشيات مثل “عصائب أهل الحق” التي يقودها قيس الخزعلي، أو “سرايا السلام” التابعة لرجل الدين النافذ مقتدى الصدر.
ومعروف عن أغلب كبار قادة الميليشيات الشيعية في العراق ارتباطهم العضوي عقائديا وسياسيا، بإيران، وهم بذلك يعتبرون حرّاسا لنفوذها ورعاة لمصالحها في البلد بكل الوسائل، وأقواها في الوقت الحالي الحشد الشعبي الذي أصبح بمثابة جيش رديف تحتاج إليه طهران أكثر من أي وقت مضى مع اشتداد الضغوط عليها من قبل الولايات المتحدة وعدد من حلفائها الإقليميين والدوليين.
ولا يخلو الوسط الشيعي في العراق من تيار سياسي يرفع شعارات استقلالية القرار العراقي، ويوسّع مطالباته لتشمل الاستقلال عن دائرة التأثير الإيراني، ويعتبر الصدر من رموز ذلك التيار.
وظهر في الآونة الأخيرة أنّ الميليشيات المسلّحة نفسها بدأت تردّد أصداء تلك المطالبات، وهو ما اتّضح مع تفجّر قضيّة أوس الخفاجي الذي قُبض عليه ضمن عملية غلق “المقرات الوهمية” ومعاقبة “منتحلي صفة الحشد”.
وأجمعت الأوساط التي تابعت القضية، على ارتباطها بانتقادات مباشرة وجّهها الخفاجي لإيران وبعض الموالين لها في العراق. وأكّد المحلل السياسي حسين الموسوي وجود “إرادة متنفذة ضمن تشكيلات الحشد الشعبي لها ارتباط خارجي بإيران وتحاول على الدوام إضعاف وتقليص الإرادة الداخلية”.
وقال في تصريح نقلته عنه شبكة رووداو الإعلامية إنّ قادة الحشد “في حال انتقادهم لواقعه سيواجهون التهميش والإبعاد عن صفوفه وستُغلق مقراتهم”.
وكان الموسوي يتحدّث معلقا على قضية الخفاجي قائلا “داخل الحشد الشعبي توجد إرادتان، الأولى وطنية بحتة والتي جاءت على أساس فتوى المرجعية في النجف أما الإرادة الثانية فتنتمي لما وراء الحدود وترتبط بفتوى خارجية من إيران”، مبينا أن “هذا الواقع ينعكس حتى على تشكيلات الحشد الشعبي. والجهة الأخرى التي لها ارتباط خارجي هي الجهة المتنفذة أكثر وتحاول تقليص حجم الجهة الداخلية”.
وأوضح المتحدّث ذاته أن “بعض الأسماء أو بعض التشكيلات بدأت تنتقد واقع الحشد الشعبي وحتى قيادات متنفذة فيه. وهذه الانتقادات تساهم في تهميشها وإضعافها وإبعادها عن الحشد الشعبي كما حصل مؤخرا مع أوس الخفاجي، حيث أنه من الواضح أن التصريحات والمواقف الأخيرة التي تبناها هي التي دفعت باتجاه استهدافه سياسيا وأمنيا”.
ولم يشفع للخفاجي وجوده على رأس أحد أبرز الفصائل الشيعية المسلحة “لواء أبوالفضل العباس” وقتاله في سوريا المجاورة لسنوات عديدة، حيث داهمت قوة أمنية تابعة للحشد الشعبي مقره الأسبوع الماضي في منطقة الكرادة ببغداد وعبثت بمحتوياته واعتقلته من داخله.
وتقول مصادر عراقية إنّ خلافات طرأت بين الخفاجي وقائد فيلق القدس قاسم سليماني المشرف الفعلي على الميليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا والعراق.
وقُبيل اعتقاله ظهر الخفاجي على إحدى الفضائيات معلّقا على اغتيال الروائي علاء مشذوب في مدينة كربلاء، قائلا إنّ القتيل من أقربائه وإنّه جرت تصفيته “إكراما لإيران” لأنه كان ينتقد نفوذها في العراق.
وبدا أن قائد لواء أبوالفضل العباس قد تجاوز كل الخطوط الحمر الإيرانية حين اعتبر أن سلوكا مثل قتل مشذوب يدفع العراقيين الى الاصطفاف بجانب القوات الأميركية التي يثار في الوقت الراهن جدل حادّ بشأن شرعية وجودها في العراق وبقائها على أراضيه.
ورغم أن خلاف الخفاجي مع إيران وكبار حلفائها في العراق، بدا سياسيا هذه المرّة، إلاّ أنّ أوساطا عراقية تنبّه إلى أنّ الخلافات بين قادة الفصائل الشيعية في العراق لا تنفصل في كثير من الأحيان عن التنافس على النفوذ والمكاسب المادية، ومن ضمنها في الوقت الحالي تصنيفات قادة الحشد ورتبهم في سلّم القيادة وهي مهمّة في تحديد من يتحكّم في الأموال المخصصة من قبل الدولة لهيئة الحشد الشعبي وتوزيعها.
وقال نائب سابق في البرلمان العراقي إنّ الميليشيات الشيعية، حققت من خلال انتمائها إلى الحشد الشعبي ومشاركتها في الحرب ضدّ داعش مكاسب عسكرية وسياسية كبيرة، فاقت تصوّرات قادتها وطموحاتهم، وإنّ ما يجري اليوم وسيتعاظم في المستقبل هو صراع حتمي على “مغانم الحرب” بشقّيها المادي والمعنوي.
عن "العرب" اللندنية