تونس: هل قطع راشد الغنّوشي الأغصان التي كان يقف عليها؟

تونس

تونس: هل قطع راشد الغنّوشي الأغصان التي كان يقف عليها؟


05/12/2019

دخلت حركة النّهضة الإسلامية التونسية، للمرة الأولى، منذ خريف العام الحالي في دوامةٍ من الخلافات والانشقاقات، التي أدّت إلى تتالي الاستقالات من هياكلها، وخروج العديد من القيادات الحالية على واجب التحفظ الذي كان يميّزها، فتحوّل استقرارها الذي عاشته على مرّ الأعوام الماضية، إلى تصدّعٍ أدخلها في مناخٍ حزبي متحرّكٍ سمتُه التفكك والانقسام.

اقرأ أيضاً: تونس: رئيس الحكومة الجديد مستقل فعلاً أم واجهة لحركة النهضة الإخوانية؟‎
قدّم مؤخّراً الأمين العام للحركة زياد العذاري، الذي يوصف بـ "الابن المدلّل" لراشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، استقالته من أمانتها العامة، ومن كلّ الهياكل القيادية فيها، لتُسجّل بذلك أوّل حالة انشقاقٍ منذ انتهاء الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس، وبرّر العذاري استقالته في رسالة نشرها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، بكونه "غير مرتاح للمسار الذي أخذته البلاد منذ مدة، خاصّة عدداً من القرارات الكبرى للحزب في الفترة الأخيرة".


وأرجع قراره بالاستقالة، بحسب ما نشره للعموم، إلى "الفشل في إقناع مؤسسات الحزب في قضايا أراها مصيرية، وفي لحظة مفصلية بتفادي خيارات لا أراها (باجتهادي البسيط) جيدة للبلاد، كما لم أقتنع من جهتي بخيارات أخذتها مؤسسات الحزب (آخرها كان ملف تشكيل الحكومة القادمة)، أرى أنّها لا ترتقي إلى انتظارات التونسيين، ولا إلى مستوى الرسالة، التي عبروا عنها في الانتخابات الأخيرة، بل إنّني أحسّ وكأنّنا بصدد استعادة أخطاء الماضي نفسها"، وأضاف أنّه ما يزال يعتقد بأنّ الحكومة القادمة ربما تكون الفرصة الأخيرة للبلاد، وأنّه لم يعد لدى الحركة هامش للخطأ.
استقالات متتالية سببها الغنوشي
وتعدّ استقالة العذاري الثانية من الأمانة العامة لحركة النهضة بعد الثورة، بعد استقالة رئيس الحكومة الأسبق، حمادي الجبالي، ومن الحركة برمّتها أواخر العام 2013، وقد جاءت ضمن موجةٍ من الاحتجاجات والاستقالات، وتجميد العضوية في المكاتب الجهوية بالحركة، بما في ذلك استقالة القيادي التاريخي بالحركة، لطفي زيتون، من منصب المستشار السياسي لرئيس الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، وهو الذي أدار مكتبه لأعوام في لندن، وكان كاتم سرّه إلى وقتٍ قريبٍ.

حركة النهضة الإسلامية دخلت للمرة الأولى منذ خريف العام الحالي في دوامة من الخلافات والاستقالات والانشقاقات

ويُعدّ زيتون الصوت التقدمي الأكثر بروزاً داخل الحركة، حتى إنّ مواقفه كانت جليّةً من بعض المسائل التي كانت تعدّ محرماتٍ في تلك الفترة في التيار السياسي الذي ينتمي إليه، كما عُرف بنقده الحاد لرئيس الحكومة يوسف الشاهد، الحليف السابق للنّهضة، وهو ما أحرج قيادتها، خاصةً راشد الغنوشي، وقد أرجع مقربون منه آنذاك، استقالته، إلى هذه الأسباب فضلاً عن تخلّي الغنّوشي عنه وتعويضه بنجله معاذ وصهره رفيق عبد السلام، وبعض القيادات الأخرى.
وأعلن زبير الشهودي، المدير السابق لمكتب راشد الغنوشي، في وقت سابق، إنهاء كلّ مهامه القيادية، عقب نتائج الانتخابات الرئاسية، التي فشل فيها مرشح النهضة، عبد الفتاح مورو، وخرج من السباق الرئاسي من دوره الأوّل، ووجّه الشهودي، في تدوينةٍ نشرها على حسابه على فيسبوك، رسالة اعتذار عن "تقصيره في المساهمة في تحقيق أهداف الثورة في التنمية، والرفاه، والعدالة الاجتماعية"، وأخرى للصفح والعفو من والديه بعد معاناتهما من خياره السياسي طيلة 33 عاماً، قضى نصفها في سجون بن علي.


ودعا الشهودي راشد الغنّوشي إلى "اعتزال السياسة، وإبعاد صهره، رفيق عبد السلام، وكلّ القياديين الذين دلّسوا إرادة كبار الناخبين في إقصاءٍ مباشرٍ لكلّ المخالفين في الرأي من نساءٍ وشبابٍ وقياداتٍ تاريخيةٍ"، وهو ما عدَّ خروجاً عن واجب التحفّظ الذي تربّت عليه الحركة.

جمعي القاسمي: حركة النهضة محكومةٌ بشقين أحدهما متشدّد يُطلق عليه جناح الصقور، وآخر يدعو للتغيير يُطلق عليه جناح الحمام

هذا وقد خرجت بعض القيادات الحالية عن هذا المبدأ، وكشفت عن جوانب مهمّة من الخلافات التي تحكم أروقة الحركة، منهم: القيادي عبد اللطيف المكي، ومحمد بن سالم، بعدما كشفا رفضهما إلى جانب عدّة قياداتٍ أخرى، لبعض قرارات الغنّوشي، المتعلقة بتشكيل القائمات الانتخابية، والترشّح لرئاسة البلاد، فضلاً عن ترشيح شخصيةٍ نهضويةٍ لرئاسة الحكومة.
وتعليقاً على ذلك؛ لفت المحلّل السياسي، جمعي القاسمي، في تصريحه لـ "حفريات"، إلى أنّ زعيم الحركة، راشد الغنّوشي، الذي تولى زعامة النهضة خلال المؤتمرين الماضيَين، ما يزال يحاول السيطرة على الوضع الداخلي، وأنّ تمسّكه بالمشاركة في الحكومة بهذه الطريقة، خاصّةً بعد أن حاول سابقاً الترشّح للانتخابات الرئاسية، ثم ترشّح لمنصب رئيس البرلمان، يؤكّد محاولاته اليائسة في تأجيل الانقسام داخل النهضة، وتقديم مزايا للغاضبين، من أجل البقاء داخل الحركة.
لأول مرة تتالى الاستقالات داخل حركة النهضة

صراع أجنحة
ويرى مراقبون أنّ استقالة العذاري ستفتح الباب أمام استقالاتٍ أخرى داخل النهضة؛ لأنّ الصراع بداخلها يتوزع بين صراعٍ على خلافة الغنوشي، الذي سيغادر رئاسة الحركة في مؤتمرها القادم، المقرر في أيار (مايو) المقبل، وصراعٍ آخر قديمٍ طفا حديثاً على سطح الأحداث والمتمثّل في صراع الأجنحة التي تحكم الحركة.

إبراهيم العمري: استقالة عناصر متنفّذة داخل حركة النهضة يؤشّر إلى خلافات حادّة وتباين في وجهات النظر

ويوضح المحلل السياسي، جمعي القاسمي؛ أنّ هذه الحركة الإسلامية تتكوّن من شقّين؛ شقّ داخلي يطلق عليه جناح الصقور، ويتكوّن من قيادات الحركة الذين رابطوا في سجون البلاد، لدى معارضتهم نظام بن علي السابق، وهو الشقّ المتشدّد، وشقّ خارجي يُطلق عليه جناح الحمام، ويتكوّن من القيادات التي مارست معارضتها لبن علي من خارج البلاد في مقدّمتهم، راشد الغنّوشي، وهو الشقّ الذي يدعم إحداث تغيير في توجّه الحركة، ويدعم الفصل بين الدعوي والسياسي.


ويقول القاسمي لـ "حفريات" إنّ شقّ القيادات التي عانت ويلات السجن وجدت نفسها بعيدةً عن مواقع القرار، لفائدة شقّ القيادات التي عاشت خراج البلاد، وهو "ما فجّر الخلاف، وتسبّب في تتالي الاستقالات صلب الحركة"، مرجّحاً أن يتفاقم هذا الخلاف، خلال مؤتمر الحركة القادم، وفق توازنات الحركة، وحسابات السياسة.
خلافة الغنّوشي تهدد وحدة جماعته

لعنة الحكم
في سياقٍ متّصل؛ يرى مراقبون للشأن التونسي أنّ منهجية حركة النهضة لا تبدو واضحة المعالم في تعاملها مع المشاورات الحكومية، وأنّ مواقفها باتت متخبطةً بين الاقتراب من حزب "قلب تونس" العلماني أحياناً، وأحياناً أخرى مغازلة الأطراف المتشدّدة دينياً على غرار ائتلاف الكرامة، وبين مغازلة الأطراف الوسطية على غرار حزب التيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وهو ما يفسّر ولادة صراعاتٍ جديدةٍ داخلها، مرتبطة بإيجاد التوازنات وتشكيل تحالفات تضمن بقاءها في مواقع القرار، ومواصلة التموقع في الحكم، في وقتٍ ترى قيادات من داخل الحركة توجهاً آخر للحركة تبقى من خلاله في الحكم، دون تقديم تنازلات، حسبما أكّده الأستاذ في العلوم السياسية، إبراهيم العمري، الذي شدّد على أنّ الاستقالات المتواترة من النّهضة مرتبطة بالوضع السياسي المتحرّك في البلاد بصفةٍ عامّةٍ، وبسياسات الحركة المرتبكة بشكلٍ خاصٍ.

اقرأ أيضاً: انقسام في "النهضة" بين قيادة الحكومة أو الحكم من وراء ستار
ويقول العمري، في حديثه لـ "حفريات" إنّ استقالة عناصر متنفّذة داخل الحركة، يؤشّر إلى وجود تباين في وجهات النظر، وخلافاتٍ حادّةٍ، يرى خلالها المستقيلون أنّه على حركتهم ألّا تقدم تنازلاتٍ كبيرة لباقي الأحزاب، وأنّها لا يجب أن تنبطح لتياراتٍ سياسيةٍ أخرى لا تتماشى مع خطّها الحزبي، وربّما يريدونها أن تتجّه إلى توجّهٍ راديكالي.
ويرى العمري أنّ حركة النّهضة تمارس سياسة الارتهان للتوازنات السياسية، التي تفرضها المصالح الحزبية، والوضع الراهن للبلاد، التي تتطلّب نوعاً من الحكمة، والحنكة السياسية، لإيجاد أرضية تلتقي عليها، أكثر من تيارٍ، وتقبل تباين وجهات النظر.

الصفحة الرئيسية