تنامي الشعبوية يشلّ المشهد السياسي في تونس

تونس

تنامي الشعبوية يشلّ المشهد السياسي في تونس


08/03/2020

صار المشهد أقرب إلى التهريج منه إلى مناقشة القضايا العامة؛ إذ بدا لافتاً تنامي ظاهرة الشعبوية في الساحة السياسية التونسية مؤخراً، كما صار جلياً تحوّل البرلمان التونسي إلى مساحة للمزايدات السياسية والخطابات العاطفية البعيدة عن منطق الواقعية السياسية والإمكانيات الحقيقية للدولة، منذ انطلاق عمله، في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، في ظلّ ما يعيشه المشهد الحزبي من تشتّت وضعفٍ غير مسبوقَين، منذ ثورة كانون الثاني (يناير) 2011.

اقرأ أيضاً: مع التدخل التركي في ليبيا.. معركة تونس ضد الإرهاب تزداد صعوبة
وقد طغى على مداخلات البرلمانيين خطاب وجداني شعبي ملؤه الشعارات الرنانة والمتاجرة السياسية في عذابات الناس، وتخوين الآخر في محاولة لاسترجاع الماضي والحنين إليه، اعتمدوا فيها على عجز النظم السياسية التقليدية في مجابهة الأزمات التي عاشتها البلاد، فيما افتعل البعض من الداعمين للثورة، من ذوي الميول الشعبوية، أعداء على الساحة السياسية، ليبرروا رؤيتهم الإقصائية وميولاتهم إلى الكراهية للآخر والحقد على المنافس.
البرلمان التونسي يتحول إلى ساحةٍ للمزايدات السياسية

صعود منظم
ويرى محللون أنّ صعود التيارات الشعبوية جرى بشكلٍ منظم في تونس، منذ انتهاء الفترة النيابية للمجلس التأسيسي، عام 2014، وأنّ الحملات الشعبوية توسعت وشملت الأحزاب، وعملت على ترذيل العمل السياسي وتنفير الناس منه.
وقد شهدت أغلب الجلسات العامة للبرلمان التونسي فوضى عارمةً، وتراشقاً كبيراً بالتهم بين مختلف الأحزاب، خصوصاً بين الأحزاب الإسلامية والداعمة للثورة من جهةٍ، والأحزاب ذات المرجعية الدستورية، في مقدمتهم الحزب الدستوري الحرّ، الذي تترأسه عبير موسى، التي عُرفت بدفاعها المستميت عن النظام السابق، وعدائها الشديد للثورة والإسلاميين، من جهةٍ أخرى.

اقرأ أيضاً: تونس تستعد لاستقبال "أطفال داعش": ضحايا أم براعم متفجرة؟
وكانت جلسة الأربعاء، 4 آذار (مارس) الحالي، آخر الجلسات التي تم إيقافها قبل استكمال برنامجها، بسبب مشادة كلامية بين رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسى، والنائبة عن حركة الشعب، ليلى الحداد، إلى جانب تعمّد نواب كتلة الدستوري الحر إحداث ضجيجٍ داخل قبة البرلمان، بالضرب على الطاولات، احتجاجاً على عدم تمكين رئيسة كتلتهم من التدخل للتعقيب على زميلتها.
التيارات الشعبوية تسيء للثورة التونسية

نوّاب لا يعترفون بالثورة
ويتوقع محلّلون أن يكون الخطاب السياسي في هذا البرلمان أسوأ من سابقه، خاصّةً في ظلّ وجود نوّاب لا يعترفون بالثورة وإنجازاتها، رغم أنهم وصلوا إلى البرلمان عن طريق انتخاباتٍ ديمقراطية، ونوابٍ لا يعترفون بالاختلاف، وبالرأي المغاير.

محمد صالح زارعي: الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية التي صعدت بعد انتخابات 2019، تمثّل التيار الشعبوي

ويرى البرلماني السابق، محمد صالح زارعي؛ أنّ جميع الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية التي صعدت إلى المشهد التونسي، بعد انتخابات 2019، تمثّل التيار الشعبوي، باستثناء حركة النّهضة التي اعتمدت على الانتهازية السياسية، واستغلّت الجانب الديني للحفاظ على موقعها.
ورأى الزارعي، في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ التيارات الشعبوية التي استحوذت على المشهد التونسي تنمّ بالأساس عن فشل وغياب الرؤية الواضحة لدى التنظيمات السياسية، اعتمدت على دغدغة الشعب في عواطفه ورغباته، وهو ما جسّدته كلّ الأحزاب خلال حملاتها الانتخابية، واعتمده رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، نفسه في حملته الرئاسية، عبر رفع شعار "الشعب يريد"، الذي استعطف به فئةً واسعةً من الشباب التونسي اليائس، رغم أنّه لن يستطيع تحقيق كلّ رغباته، بالنظر إلى الإمكانيات الحالية للدولة.
كما لفت الزارعي إلى وجود مخاطر كبيرةٍ لصعود الشعبويين، منها تفشي السطحية الفكرية التي تعدّ من بين أبرز العوائق أمام الإصلاحات العميقة، وكذلك في الانعكاسات الوخيمة على مستقبل التوازنات السياسية والقدرة على تشكيل الحكومات والحكم، لا سيما أنّهم غير مسنودين سياسياً، حتى إنّ تجلياته بدأت تظهر في تونس، بعد تعثّر جهود تشكيل الحكومة الأولى، وصعوبة تمرير الحكومة الثانية، التي رجّح سقوطها بعد أشهرٍ قليلةٍ من انطلاق عملها.
5 أعوام من الانسداد السياسي
ومن المنتظر أن تكون الأعوام القادمة صعبة سياسياً، في ظلّ المشهد البرلماني المشتّت، الذي طغت عليه التيارات الشعبوية، على غرار ائتلاف الكرامة، والحزب الدستوري الحر، وحزب الرحمة، وقلب تونس، وهو ما يثير مخاوف لدى كثيرين من عودة البلاد إلى مربع التجاذبات السياسية والأيديولوجية.

اقرأ أيضاً: الانسداد السياسي يدفع تونس إلى السيناريو الأصعب. ما هو؟
ويعتقد رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية حول المغرب العربي عدنان منصر؛ أنّ ما يحدث داخل قبة البرلمان التونسي منذ انطلاق أشغاله، يدعم وبشكلٍ كبيرٍ، فكرة هيمنة التيارات الشعبوية على المشهد التونسي، ويؤكد أنّ الديمقراطية الكلاسيكية في تونس ما يزال أمامها كثير من المصاعب لتترسّخ في الممارسات السياسية.
وقال منصر، لـ "حفريات": "من الصعب أن تتواصل الأمور على ما هي عليه لخمسة أعوام مقبلةٍ، دون تسجيل انعكاسات وخيمة جداً على مستوى ما سيحققه البرلمان من إنجازات منتظرة منه خلال المدة النيابية المقبلة، أو على صورة البرلمان، وقدرة الأحزاب على تنفيذ برامجها التي وعدت بها ناخبيها، خلال الحملات الانتخابية".

فوضى وتراشق بالتهم ترافق أغلب جلسات البرلمان التونسي

نظام التمثيلية الحالي فاشل
وشدّد رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية حول المغرب العربي؛ أنّ ما رافق مداولات البرلمان في الجلسات القليلة التي عرضها، يؤكّد أنّ نظام التمثيلية الحالي فاشل، وسيدفع التونسيين إلى المطالبة بإجراء تحويراتٍ عميقةٍ في النظام السياسي، وفي الدستور، وهو ما سيسيء إلى مصلحة البلاد.

عدنان منصر: الديمقراطية الكلاسيكية في تونس ما تزال أمامها مصاعب كثيرة لتترسّخ في الممارسات السياسية

من جانبه، حذّر فتحي العيادي الذي شغل منصب نائب شعبٍ، منذ عام 2011، من خطورة تواصل الفوضى داخل قبّة البرلمان، وتعمّد نواب بعينهم، تعطيل مداولات الجلسات العامّة، وهو ما سيضع البرلمان في موضع استهداف، عبر تشويه سمعته باعتباره مركز السلطة في تونس، وبالتالي ضرب التجربة التونسية ككل.
وأبلغ العيادي "حفريات"؛ أنّ ما يحدث داخل البرلمان منذ انطلاق المدة النيابية الحالية غير معقول، وغير مقبولٍ، ولم يحصل أن وصل الوضع إلى هذا الانسداد خلال الأعوام التسعة الماضية، رغم الاختلاف الشديد الذي كان يطبع علاقة حركة النّهضة بالجبهة الشعبية اليسارية.

أسباب صعود الشعبويين
أسباب صعود الشعبويين في تونس تعود بالأساس، وفق الكاتب الصحفي والمحلل السياسي، عبد الجبار المدوري، إلى فشل المنظومة الحاكمة في الاستجابة لحاجيات المواطنين، وضعف آليات الاتصال المباشر معهم، مما دفع ببعض السياسيين لاستغلال ذلك لمحاولة ملء الفراغ بخطاب عاطفي لاستمالتهم.
وأضاف المدوري، في تصريحه لـ "حفريات": "فشل الأحزاب التقليدية، على غرار اندثار حزب نداء تونس، الذي أسّسه الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي، وحزب الجبهة الشعبية (ائتلاف ضمّ 11 حزباً يسارياً)، اللذين شهدا خلافاتٍ داخلية أنهتهما وساهمت في تراجع شعبيتهما، وساعد أيضاً وبشكلٍ كبيرٍ في تطوّر التيارات الشعبوية".

اقرأ أيضاً: تونس: هل يصنع الخوف تحالفات "النهضة"؟
المدوري أرجع أيضاً سيطرة الشعبويين على المشهد التونسي، إلى تدني الوعي الشعبي والجماهيري، فضلاً عن تراجع الأحزاب الوسطية، ما فتح الباب واسعاً أمامهم لملء هذا الفراغ الذي تركته هذه الأحزاب، ولفت إلى أنّ ذلك يبدو جلياً بظهور حزبيْ قلب تونس الذي أسّسه قطب الإعلام ورجل الأعمال، نبيل القروي، وحزب عبير موسى، المعادية للثورة التونسية، بعد حصولهما على مساعداتٍ مالية ولوجيستية وإعلامية ضخمة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية