لا تريد الإدارة الأمريكية أن تتعامل مع الدول العربية بمعايير وضوابط قائمة على المصالح المتبادلة، ولا تريد أن تقر بأن النظام الدولي ليس فقط الولايات المتحدة، ومن ثم فإنها تخطط لإعادة ترتيب حساباتها في الإقليم العربي بأكمله وليس فقط في الخليج العربي، حيث مصالحها السياسية والإستراتيجية والاقتصادية الكبيرة، وهو ما جعلها أيضا تتحرك وفقا لإستراتيجيات المصالح من جانب واحد.
في هذا السياق نطرح تساؤلاً مشروعاً حول الحوار الإستراتيجي الذي يجري في واشنطن بين قطر والولايات المتحدة، وبحث قضايا الدفاع والأمن والإرهاب والمصالح المشتركة والملفات الإقليمية.. وهو عنوان لجدول أعمال عام.
واقع ومستقبل الحوار القطري الأمريكي سيرتبط من الآن فصاعداً بحجم ما تقدمه قطر من أموال واستثمارات ومشروعات وسرعة تقبل الإدارة الأمريكية لها، التي لن تغير من نمط تفكيرها أو رؤيتها للعالم، باعتباره ساحة لكسب المصالح وفرض الإرادات والاستراتيجيات ولو من جانب واحد.
يشير توقيت إجراء الحوار الاستراتيجي بين الدوحة وواشنطن إلى مسعى أمريكي لنقل رسائل إلى دول المنطقة؛ بأن الإدارة الأمريكية لا تزال تدعم قطر وبصورة معلنة، وعلى الجميع مراعاة ذلك، حيث تتشابك المصالح والرؤى والصفقات، التي لا تمل الإدارة الأمريكية من التأكيد عليها وتعمل على إنجازها، في ظل ما يتردد من مسعى وزارة الدفاع الأمريكية إلى عقد مزيد من صفقات السلاح في العام الجاري استكمالا لما تم في العام الماضي، وسيدخل حيز التنفيذ خلال الأشهر المقبلة بعد استيفاء الإجراءات والتدابير التشريعية داخل دوائر الكونجرس، والذي منح القبول المبدئي لتمرير سلسلة من الصفقات الكبرى لقطر، وهو ما يشير إلى التوظيف الجيد للمال القطري، وسيبنى عليه توجهات ورؤى في الفترة المقبلة.
يجري الحوار الاستراتيجي في مجالات التجارة والاستثمار والأمن ومواجهة الإرهاب وتنظيم حركة الطيران، إلا أنه سيمتد إلى مجالات أخرى منها أمن الطاقة وأمن المعلومات، ويشارك فيه عدد من الوزارات القطرية منها الاتصالات والعمل والتنمية الإدارية، ومؤسسات متخصصة منها مؤسسة قطر للتربية وجهاز قطر للاستثمار وغيرها، ونظراؤهم من الجانب الأمريكي سيركزون على الدفاع والخزانة والتجارة والدفاع وغيرها، والمعنى أنه ليس حواراً عاجلاً وإنما حوار متكامل، ويُبنى على أسس وقواعد عديدة.
وربما يكون ما أعلن ساترا سياسيا واستراتيجيا لما سيجري من تفاهمات حقيقية ستطول ملفات أخرى في ظل وجود لوبي مؤثر من القطريين في دوائر الكونجرس، ويعمل على تطوير أسس العلاقات وتنميتها تحت مسمى المصالح المشتركة ويتعامل مع الجانب الأمريكي، كما يخطط وفقا للمنفعة والمصلحة المباشرة التي تتعدد منطلقاتها ولا تتوقف على مجال واحد، وهو ما يشير إلى أن الجانبين، القطري والأمريكي، يسعيان إلى بناء شراكة كاملة ربما من منطق أمريكي بحت يقر بدور المصلحة الأمريكية ويتغافل عن مصالح الآخرين.
وهو ما يجري في التوقيت الراهن في منظومة العلاقات الأمريكية العربية التي تتجه إلى خيارات انفرادية في التعامل مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وملف أمن المنطقة العربية وتداعيات الأزمة القطرية، التي لا تقتصر على الطرف العربي وإنما تمتد إلى أقاليم أخرى عبث بأمنها الجانب القطري، وتتطلب مراجعة قطر وإثناءها عن تدخلها السافر في شؤون الدول.
تتعامل الإدارة الأمريكية مع الحالة القطرية على أنها حالة متعددة المصالح والاستراتيجيات، التي لا تتوقف على إبرام الصفقات فقط، بل أيضا على قاعدة توظيف الدور الاستراتيجي على أسس نفعية، ولهذا لم تسعَ الولايات المتحدة بجدية في رأب الصدع التي تمثله قطر في الإقليم وخارجه، وتعاملت من منطق أن التعايش مع الحالة القطرية قد يكون المطروح، مع عدم السعي الجدي إلى التوصل لمساحات من التقارب السياسي والاستراتيجي بين دول المنطقة وقطر، بل تركت الأمور على ما هي عليه، وبعد أن اكتفى الرئيس ترامب بسلسلة تغريداته ثم اختفى كما رحل عن إدارة الأزمة القطرية وزير الخارجية ريكس تيلرسون من المشهد، واستمرت الأزمة حتى بعد أن ذهب أمير دولة الكويت سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح لمحاولة إحداث اختراق في الموقف القطري بدعم أمريكي، حيث لم تنجح كل الضغوطات العربية والخارجية لمراجعة السياسات القطرية المراوغة.
إن الإقرار بفكرة الحوار الاستراتيجي بين الدوحة وواشنطن يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول ما تخطط له السياسة القطرية، التي لا تزال تمارس خطة الإشغال السياسي، بدليل إعلان وزير الخارجية القطري أنه لا مصلحة في استمرار الخلاف مع مصر، وأنها ساعية إلى تقليل مساحات التجاذب، ولا نعرف كيف ومتى، وتكرار الدعوات للحوار الشكلي، وحسنا ردت السعودية بأنه لا تصالح مع قطر خاصة مع الاتفاق الأخير للدول الأربعة المقاطعة باستمرار موقفها السياسي والاستراتيجي إزاء قطر.
وهو ما يدفعنا للسؤال عن أحد أهم القضايا في برنامج الحوار الاستراتيجي بين قطر والولايات المتحدة، وهو مواجهة الإرهاب والتعامل مع تداعياته، وماذا إذن عن اتفاقية مكافحة الإرهاب بين البلدين التي تم توقيعها في مارس الماضي ولم تنشر بنودها التفصيلية؟.. هل سيدخل هذا البند الشائك في الحوار؟ وما الإطار الذي ستعمل من خلاله الاتفاقية التي جاءت ترضية للجانب العربي المقاطع؟ فهل ستسعى الإدارة الأمريكية للتعامل بجدية مع ملف الاتهامات التي توجه لقطر بدعم التطرف، أم أن توقيع البلدين صفقة السلاح -التي قضت بشراء طائرات مقاتلة من طراز اف15، والتي تكلفت 12 مليار دولار، وستوفر 60 ألف فرصة عمل في أمريكا- ستكون دافعا لغلق ملف الاتهامات العربية لقطر بدعم الإرهاب وتمويل تنظيماته؟ كما سيطغي حديث التجارة والاستثمار والمنافع، الذي وصل في حجم التعاملات القطرية الأمريكية وفقا لميزان التبادل التجاري بين البلدين استيرادا وتصديرا إلى ما يقارب الـ6 مليارات دولار.
كما أن مشاركة جهاز الاستثمار بكل إمكانياته في الحوار الاستراتيجي يشير إلى حرص قطري للتحدث مع الإدارة الأمريكية بمنطق المنفعة البحتة، وتوظيف المال السياسي عبر شبكة هائلة من المليارات التي توجه إلى مجالات عديدة ليس في الولايات المتحدة فقط وإنما في بقاع عدة من العالم، حيث تتقاطع المصالح القطرية مع المصالح الأمريكية، وهو ما يقر بالفعل بحوار استراتيجي على قاعدة جديدة في المرحلة المقبلة؛ حيث تسعى أيضا قطر إلى الاستثمار في العلاقات مع الإدارة الأمريكية وفقا لتوجهات أمنية واستراتيجية واستثمارية، بل إنسانية أيضا، لاكتساب الحضور متعدد المسارات في الساحة الأمريكية بـ.. هل أذكر هنا بواقعة تقديم قطر 100 مليون دولار لإعادة إعمار مدينة نيواورليانز التي واجهت إعصارا مدمرا؟
إن واقع ومستقبل الحوار القطري الأمريكي سيرتبط من الآن فصاعداً بحجم ما تقدمه قطر من أموال واستثمارات ومشروعات وسرعة تقبل الإدارة الأمريكية لها، التي لن تغير من نمط تفكيرها أو رؤيتها للعالم، باعتباره ساحة لكسب المصالح وفرض الإرادات والاستراتيجيات ولو من جانب واحد، مهما تكلف الأمر من تبعات وتداعيات.
فعقلية الرئيس الأمريكي ترامب تنطلق وفق نسق فكري يستند على أسس الربح، حيث لا مكان لخسارة سياسية أو اقتصادية، وأن ما ينطبق على قطر سينطبق على الفلسطينيين، وأن ما يربط الولايات المتحدة ومصر مصالح استراتيجية وليست مبادئ، مثل الديمقراطية أو الليبرالية، وحيث لا مكان للحديث عن دعم بلا حدود أو تأييد بلا تحفظات أو دون مقابل.. هل وصلت الرسالة؟.
د. طارق فهمي- عن صحيفة "العين"