تركيا والتحولات الإقليمية.. هل تعود إلى استراتيجية "تصفير المشكلات"؟

تركيا والتحولات الإقليمية.. هل تعود إلى استراتيجية "تصفير المشكلات"؟


24/11/2021

بعد سنوات من العداء مع جوارها العربي، يزداد الانخراط التركي في دبلوماسية مكثفة مع دول مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، مع الإعراب عن الاهتمام بإصلاح العلاقات مع هذه الدول. وهو ما ظهر إلى العلن بدايةً مع اعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في آذار (مارس) 2021 بأن المحادثات قد استؤنفت مع مصر. ومن جاء في آب (أغسطس) 2021، استقبال  أردوغان، مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد، وتبعه الاتصال بين أردوغان وولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، ودعوة الرئيس التركي بن زايد لزيارة تركيا حيث جرى استقباله بحفاوة اليوم. دفع كل ذلك إلى الواجهة السؤال حول عودة تركيا إلى سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار العربي، مع التساؤل عن أبرز المحفزات والدوافع الكامنة وراء هذه العودة؟

العزلة الإقليمية

مع تصاعد أحداث ما عرف بـ "الربيع العربي" عَمَدَت تركيا إلى تبنّي سياسات جديدة لا تقوم على التكامل والتعاون مع دول الجوار، كما كان الحال عليه خلال السنوات السابقة، وإنما على التدخل في التحولات الجارية في عدد من البلدان العربية مع محاولة إحداث تغيير في الأنظمة السياسية بحيث تسهم بإقامة أنظمة حكم جديدة يكون عمادها من أحزاب وجماعات الإسلام السياسي المتحالفة والمُقرّبَة من النظام السياسي الحاكم في تركيا، وهو ما تسبب بمزيد من الاضطرابات في المنطقة وولّد ردّات فعل عربية على هذه التدخّلات، وكانت النتيجة سيادة علاقات التوتر والقطيعة بين تركيا وعدد من الدول العربية.

وزير الدفاع التركي خلوصي أكار (وسط) في زيارة تفقدية للأوضاع العسكرية الميدانية في ليبيا.. تموز 2020

فاستعدت تركيا كُلاً من سوريا والعراق، البلدين اللذين تزايدت تدخلاتها وعملياتها العسكرية المباشرة فيهما، فضلاً عن توفيرها الدعم الواسع للمعارضة المسلحة في سوريا، واصطدمت مع النظام الحاكم في مصر بسبب دعمها وتبنيها لجماعة الإخوان المسلمين، كما واستتبعت تدخلاتها الواسعة في المنطقة العربية، بما في ذلك حضورها العسكري منذ مطلع العام 2020 في ليبيا، علاقات صراع ومواجهة مع دول عربية أخرى ذات تأثير وحضور في المنطقة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

ابتعدت تركيا وتجاوزت سياسة "صفر مشاكل"، الأمر الذي كان له ارتداد سلبي على مستوى العلاقات السياسية الإقليمية لتركيا وانتهى بها في نهاية المطاف إلى حالة من العزلة الإقليمية

ومن جهة الشرق، في القوقاز، تصاعدت التوترات مع جارتها أرمينيا بسبب الدعم العسكري لأذربيجان في حرب إقليم "ناغورني كاراباخ"، أواخر العام 2020. في حين استمرت الخلافات مع روسيا ومواقف التصادم بينهما في كُلٍ من أوكرانيا وسوريا، وكذلك ساد الخلاف مع إيران في كل من القوقاز، والعراق، وسوريا.

اقرأ أيضاً: الديمقراطية الضائعة... ماذا فعل أردوغان وحزبه حتى تغيرت نظرة العالم لتركيا؟

أما مع أوروبا، فتزايدت الخلافات خلال العقد الأخير وبخاصة إثر الاستخدام التركي لورقة اللاجئين وإغراق أوروبا بهم بهدف الضغط وانتزاع المكاسب منها. إضافة إلى بروز خلافات مع دول مثل فرنسا إثر التدخل التركي  في ليبيا منذ العام 2011. كما وأضيف إلى كل ذلك الخلافات المتجددة والمتصاعدة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، مع تصاعد الخلاف حول ترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة فيها، وتصاعد الخلاف بهذا الخصوص مع كل من اليونان وقبرص. وما رافق ذلك من تنديد وتهديدات أوروبية بسبب ما أقدمت عليه شركات تركية من الشروع بالتنقيب واستخراج الغاز قبالة سواحل "قبرص التركيّة".  

اعتمدت تركيا على فروع جماعة الإخوان كأداة لاكتساب النفوذ داخل الأنظمة السياسية العربية

كُلّ ذلك عنا أنّ سنوات من التقلّب السياسي في الأقاليم المجاورة، صاحبها انخراط وتدخلات تركيّة مباشرة فيها، مع ابتعاد وتجاوز لسياسات التعاون وسياسة "الصفر مشاكل"، كان لها ارتداد سلبيّ على مستوى العلاقات السياسيّة الإقليميّة لتركيا، ما انتهى بها في نهاية المطاف إلى حالة من العزلة الإقليمية، فضلاً عن تفاقم القلق التركي من تطور علاقات تقارب بين خصومها، كما حصل في حالة التقارب اليوناني مع كل من مصر، والسعودية، والإمارات. وكان لهذه العزلة تداعيات وانعكاسات اقتصادية متصاعدة، وهو ما بات يدفع صانع القرار التركي نحو العودة خطوات إلى الوراء لتبني - من جديد - سياسات أكثر اعتدالاً.

نهاية ورقة وأداة جماعات الإسلام السياسي

كان التدخل التركي في المنطقة العربية قائماً على أساس دعم حركات الإسلام السياسي وفروع جماعة الإخوان المسلمين في الدول العربية. إلا أنه وبعد مرور عقد كامل من اضطرابات "الربيع العربي"، انتهى  - أو انخفضت حدّة - جُلّ هذه الاضطرابات، وكانت إحدى أهم النتائج هي الضربات الجسيمة التي لحقت بالحركات الإسلامية، إذ انحسرت مساحات حضورها في الحكم بمختلف البلدان العربية، من مصر إلى تونس والمغرب، وحتى سوريا والسودان، وهو ما ولّد قناعة تدريجية لدى صانع القرار التركي بعبثية وعدم جدوى استمرار المراهنة على توظيف هذه الورقة والاعتماد عليها كرافعة للتدخل واكتساب النفوذ داخل الأنظمة السياسية العربية، وجاءت هذه القناعة الجديدة مع تزايد الحاجة لمدّ جسور العلاقات والاتصال مع الدول العربية المختلفة، في ظل الحاجة المُلحّة لكسر حالة العزلة الإقليمية، وإعادة تدعيم الاقتصاد التركي المتراجع عبر تعزيز علاقات التعاون الثنائي مع دول الجوار.

التواؤم مع التغييرات على مستوى السياسة الأمريكية تجاه المنطقة

بعد وصول إدارة بايدن والانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وما برز من مؤشرات متزايدة على التغيرات في دور الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط وتوجهها لإيلاء التركيز الأكبر على المواجهة مع الصين وروسيا، دفع ذلك إلى زيادة التقارب بين القوى الإقليمية بسبب شعور دول المنطقة بعدم جدوى استمرار الاعتماد على الولايات المتحدة كضامن أساسيّ لتعزيز الأمن والاستقرار بالمنطقة مستقبلاً.

وعلى صعيد العلاقات العربية - التركية تبرز تحديداً المخاوف من احتمالية أن يُملأ أيّ فراغ أمريكي قد ينشأ من قبل قوى إقليمية مثل إيران، أو دولية مثل روسيا، وهو ما يدفع الدول العربية وتركيا إلى ضرورة التقارب وتعزيز مستويات التعاون بينها تجنب أيّ من هذه السيناريوهات.

اقرأ أأيضاً: الإمارات وتركيا.. تطورات إيجابية تعيد للعلاقات زخمها

وكانت دول مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، قد وقعت "اتفاقية العُلا" في مطلع العام 2021، بالتزامن مع وصول إدارة بايدن إلى الحكم في واشنطن، منهية بذلك الأزمة السياسية مع قطر. ومن ثُمّ ساعدت هذه المصالحة على تعزيز جهود التقارب التدريجي بين الدول العربية وتركيا.

تراكم أعباء الصراعات والشعور بالاستنزاف

بعد مرحلة عشر سنوات من الأزمات والصراعات يتزايد الشعور بين الدول والقوى المختلفة في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا، بالشعور بالاستنزاف، وذلك دون الشعور بتحقيق مكاسب موازية ومساوية لما تم بذله وإنفاقه من جهود ومقدرات على الصراعات، والتي كان بالإمكان تحقيق مكاسب هامة في ما لو أنفق على التعاون والبناء. وبالتالي تتعزز القناعة لدى صُناع القرار بضرورة العودة لبناء وإرساء مرحلة جديدة من الاستقرار ونزع فتيل التوترات والتوصل إلى تسويات شاملة على مستوى الإقليم. وذلك في سبيل وقف الاستنزاف لدول المنطقة والتركيز على جهود الإعمار والبناء، مع التركيز على تعزيز الاقتصاد، الذي ازدادت المعاناة التركية من تراجعه المتزايد مؤخراً.

تعززت القناعة لدى صانع القرار التركي بعبثية وعدم جدوى استمرار المراهنة على توظيف ورقة جماعات الإسلام السياسي

ويأتي ذلك مع الشعور بهدر الموارد وما ينجم عن ذلك من إضعاف للدول المنخرطة في الصراعات، في حين أن الدول المنافسة الأخرى تحقق مزيداً من المكاسب تدريجياً، وهو ما ظهر ويظهر مع إثيوبيا في حالة مصر، التي استغلّت فترة الاضطرابات بمصر للمضيّ بمشروع "سد النهضة"، أو مع اليونان في حالة تركيا، التي بدأت شيئاً فشيئاً تأخذ وتسحب أدواراً أمنيّة إقليمية من تركيا، عبر توسيع تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة.

وقد عززت وطأة جائحة كورونا وما خلفته من أعباء وأضرار من إدراك الدول بضرورة التهدئة وتجنب العلاقات المتوتر التي تسفر عن مزيد من التكاليف، والتوجّه عوضاً عن ذلك إلى خيار التنسيق والتعاون.

العامل والبعد الاقتصادي

في ظلّ التراجع المستمر لقيمة الليرة التركية وتخطيها حاجز الأحد عشر ليرة أمام الدولار الواحد، ومع ارتفاع مستويات التضخم بنسب قياسيّة وصلت إلى نحو الـ (20%)، يزداد دور وحضور العامل والدافع الاقتصادي في تحريك عجلة التقارب على مستوى العلاقات العربية - التركية، إذ ينتظر تحقق مصالح اقتصاديّة عدّة من وراء تحقيق هذا التقارب، وهو ما يزيد من التوجه التركيّ نحو إرساء التوازن في العلاقات مع الدول العربية في المرحلة القادمة، وذلك مقابل تقديم تنازلات أهمها التراجع عن مختلف أشكال التدخلات المباشرة وغير المباشرة في الدول العربية، وفي مقدمة ذلك التراجع عن استخدام ورقة دعم جماعات الإسلام السياسي، إضافة إلى التراجع عن الحضور العسكري في كل من سوريا وليبيا.

اقرأ أيضاً: زيارة ولي عهد أبوظبي إلى تركيا.. ما السياقات والدلالات؟

وقد بدا الهدف الاقتصادي من وراء التقارب المتوقع في حديث الرئيس أردوغان عند تعقيبه على لقائه بالشيخ طحنون بن زايد، في آب (أغسطس) 2021، حين قال إنهما ناقشا خلال اللقاء مجالات ونوع الاستثمارات الممكن إقامتها. في حين أشارت وكالة الأنباء الإماراتية، إلى أنّ الجانبين "بحثا خلال اللقاء سُبُل تعزيز العلاقات الثنائية بين الإمارات وتركيا، خاصة التعاون الاقتصادي والتجاري، والفرص الاستثمارية في مجالات النقل والصحة والطاقة، بما يحقق المصالح المشتركة".

جاء لقاء أردوغان وطحنون بن زايد في آب 2021 تحت عنوان بحث سبل تعزيز التعاون الاقتصادي

وعلى صعيد التعاون الاقتصادي أيضاً، يبرز الحديث عن مشاريع تعاون مستقبلية هامّة بين الدول العربية وتركيا، كما في مشروع محور النقل (الشارقة - مرسين)، والذي يمر باتجاه تركيا عبر الأراضي الإيرانية، ويستغرق وصول البضائع عبره من الشارقة إلى مرسين (في تركيا) ما بين 6 إلى 8 أيام، الأمر الذي يجعله مفضلاً على المسار الذي يمرّ عبر قناة السويس والذي يحتاج وصول البضائع عبره إلى 20 يوماً بالمعدل. كذلك تبدو استفادة مصر وتركيا من أيّ تقارب سياسي محتمل جليّة مع ازدياد فرص عودة حركة السياحة بين البلدين وتعزيز مستويات التبادل التجاري الثنائي، ويُضاف ذلك إلى بحث الاستثمارات الخليجية عن سوق وميادين لها للاستثمار في تركيا، وحاجة تركيا الماسّة لهذه الاستثمارات، إلى جانب حاجتها إلى السياح القادمين من دول الخليج العربي.

في ظلّ التراجع المستمر للاقتصاد التركيّ، يزداد دور وحضور العامل والدافع الاقتصادي في تحريك عجلة التقارب على مستوى العلاقات العربية - التركية

وبذلك فإنّ التقارب التركي العربي في حال تطوّره فإنه يأتي بالأساس في إطار تبلور القناعة التركية بأنه لا يمكنها الاستمرار في علاقة الصدام لانهائية مع محيطها وجوارها العربي، مع الإدراك بأنّ تطوير علاقات تعاون وتكتّل اقتصادي مع هذا المحيط هو شرط لا يمكن تجاوزه لضمان الاستقرار والازدهار الاقتصادي في تركيا، وذلك عبر بناء تكتلات اقتصادية إقليمية تضمن تبادلاً تجاريّاً واسعاً بي دول المنطقة، كما هو الحال في النموذج الأوروبي.

كلّ ذلك يدفع باتجاه تعزيز القناعة لدى صناع القرار في تركيا بأنه لا فائدة من الاستمرار في المراهنة على خيارات وأدوات التوتر والصدام مع الجوار العربي، وأنه لا بد لتركيا من العودة لتطوير علاقات إيجابيّة مع محيطها العربي، والعودة تدريجياً إلى سياسة "صفر مشاكل" مع الجوار والتي كانت قد حققت عوائد اقتصادية كبيرة في العقد الأوّل من الألفيّة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية