لا ينفكّ الرئيس التركيّ، رجب طيّب أردوغان، يهدد باستخدام الأكراد كورقة للضّغط، على محيطه الإقليميّ والدوليّ، دون الالتفات إلى المتغيّرات السياسية على الساحة العالمية، والتي، بالطّبع، ستّتخذ طابعاً مختلفاً بعد تنصيب الرئيس الأمريكيّ الجديد، جو بايدن، في العشرين من الشهر الجاري الذي يواجه تحديات من إيران وتركيا على حد سواء.
ومع توسع القبضة الأمنية وحالة الاستبداد السياسي التي تعيشها تركيا في الداخل، والتي تنعكس على سياساتها الخارجية، فإنّ الموقف الكردي يظلّ مأزوماً
وبعد سنوات من استباحة النظام التركيّ للأكراد، سواء في سوريا والعراق، أو أكراد تركيا، الذين عاشوا حالة قمعيّة غير مسبوقة، تحت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، فإنّ تركيا، الآن، في حالة تخبّط مستمرّ، دفعتها مؤخراً للتلويح بعملية عسكرية جديدة في سنجار العراقية؛ فهل تحاول تركيا ابتزاز الولايات المتحدة بورقة الأكراد؟
بايدن وأوباما والتحالف الكردي
عمِل الرئيس الحاليّ، جوزيف بايدن، في إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، المتحالف مع الجانب الكردي، وهو ما سعى لمحوه الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي تخلّى عن أكراد سوريا وتركهم في مواجهة الزحف التركيّ، المستمر منذ عام 2016، ولطالما تمنّى الأكراد زوال حكم ترامب، والآن يعلّقون آمالهم على بايدن، الذي يتصيّد الأخطاء لأردوغان، خاصة بعد أن كشرّت إدارة ترامب عن أنيابها في أواخر العام الماضي، وفرضت عقوبات على منظومة الدفاع التركية، على خلفية شراء منظومة الدفاع الروسي "إس 400"، وتسعى الإدارة الأمريكية الجديدة، لفرض المزيد من العقوبات الرادعة على النظام التركي، على خلفيّة انتهاكاته لمحدّدات القانون الدولي.
بنظرة سريعة على التطورات الأخيرة في كردستان العراق، فإنّ المنطقة لم تتطوّر في العقود الأخيرة إلى فضاء متميّز سياسياً واقتصادياً بشكل متزايد عن بقيّة العراق، كما أنّ الاختلافات المكانية الشاسعة بين المناطق التي يسكنها الأكراد في تركيا والعراق تظهر لأيّ مراقب عرضي، وهو ما يتعارض مع الخوف التركيّ من إقامة دولة كردية بين أكراد دولتها والدولة العراقيّة، كما أنّ الاختلافات الاقتصادية والسياسية الأكثر تجريداً واضحة لا تحتاج إلى تنظير؛ إذ إنّ جنوب شرق تركيا، أو شمال كردستان، هو جزء لا يتجزّأ من الاقتصاد التركي النيوليبرالي الموجَّه نحو السوق الدولية، والذي شهد سنوات من النموّ المستمر، لا سيما في الصناعة والبناء، وهو، على النقيض من كردستان الجنوبية أو العراقية، والتي تعدّ منطقة مستقلة سياسياً، ومتكاملة جزئياً اقتصادياً فقط في العراق، وهي منطقة ذات اقتصاد ريعيّ، يعتمد على نشاط زراعيّ أو صناعيّ ضئيل، وبيروقراطية متضخّمة، وتعتمد بكثرة على العمالة الوافدة.
ومن هنا، يبرز الخوف التركي من إقامة الدولة الكردية كحجّة واهية، والحرب الشعواء التي تشنّها أنقرة على حزب العمال الكردستانيّ، كمنظمّة إرهابية، يبدو محض هراء، تبرّر به تركيا انتهاكاتها الحقوقية والإنسانية في سوريا والعراق، المستترة بالإرهاب كغطاء على الانتهاك الخارجي، والقمع الداخلي الذي يتعرض له أكراد الداخل، والذي لا يتوانى النظام التركيّ عن ممارسته بحقّ كلّ المعارضين وغير المعارضين من الأكراد، منذ الانقلاب المزعوم، عام 2016.
لعبة الحرب
بدا التصريح الذي أدلى به أردوغان، يوم الجمعة الماضي، اعتداءً صريحاً على السيادة العراقية، فحديثه قائلاً: "قد نأتي على حين غرّة ذات ليلة"، يعكس مدى التهاون الذي تتعامل به تركيا مع الحرب كأنّها لعبة، والحجّة بالطبع هي طرد مقاتلي حزب العمّال الكردستاني "PKK"، الذين يتّخدون من سنجار وجبال قنديل معاقل تقليدية لهم، منذ تسعينيات القرن الماضي، وتمثّل عملية التصعيد ضدّ أكراد العراق حلقة جديدة ضمن مسلسل طويل بدأ من عقود، لكنّه تعمّق جراء الفراغ السياسيّ الذي شهده العراق بعد الغزو الأمريكي، عام 2003، ما جعل تركيا تنقضّ بكلّ أذرعها السياسية على إقليم كردستان العراقي، وتخلق تحالفات جديدة مع الحكومة الكردية، وبذلك أوجدت أنقرة مكاناً لنفسها كقوّة إقليمية، خاصة بعد التعمّق في السياسية الخارجية، التي يطلق عليها بعض المحللين "العثمانيّة الجديدة".
جراء هذا التفكّك ومحاولة السطو التركي، تلعب الإدارة الأمريكية دوراً بارزاً في عملية التوازن بين القوى الكردية والنظام التركيّ، الذي تمادى كثيراً في انتهاكاته ضدّ الأكراد، ومع قدوم إدارة بايدن؛ فإنّ محددات العلاقة التركية الأمريكية ستتخذ منحى مغايراً، لا سيما في القضية الكردية، وهو ما يراه الكاتب الصحفي والمحلل السياسي المتخصص في الشأن الأمريكي، طارق الشامي، صحيحاً؛ حيث إنّ العلاقة بين ترامب وأردوغان كانت شخصيّة إلى حدّ كبير، وجمعت الثنائي صداقة لم يخفها الأول في لقاءاته الصحفية.
المحلل السياسي طارق الشامي لـ"حفريات": الإدارة الأمريكية تحتاج إلى تركيا في مواجهة روسيا في الداخل السوري، لكنّها لن تكرّر أخطاء الماضي
وفي تصريحه لـ "حفريات" يقول الشامي إنّ "العلاقة الشخصيّة بين الرئيسَّين حالت دون اتخاذ موقف حاسم تجاه تركيا، لكنّ إدارة بايدن لن تقع في الخطأ نفسه، صحيح أنّ الإدارة الأمريكية تحتاج إلى تركيا في مواجهة روسيا في الداخل السوري، وملفّات أخرى، لكنّها لن تكرّر أخطاء الماضي، كما أنّ الإدارة الحالية تدرك جيداً أنّ المساحة التي أخذتها تركيا في عهد ترامب أضرّت بالوجود الأوروبي والأمريكي في المنطقة، ودخلت في حروب مع الاتحاد الأوروبي، وفي مقدّمته فرنسا واليونان؛ لذلك فإنّ الولايات المتحدة، الآن، ستكون أكثر حسماً تجاه الملفّات العديدة العالقة بين الدولتين، وعلى تركيا، إذا أرادت تفادي المزيد من العقوبات، أن تتراجع عن سياسة التصعيد في كافة القضايا الخلافيّة بينها وبين أمريكا".
ماذا تريد تركيا من العراق؟
تقدَّر الأقليّة التركيّة في العراق بنحو 20% من السكان؛ أي ما يزيد عن 15 مليون مواطن، ومنذ الستينيات من القرن الماضي، نشأ تعاون كبير بين بغداد وأنقرة، لكبح التقدّم الكردي، والانقضاض على حلم دولتهم المستقلّة، تضافرت هذه الجهود بشكل كبير بعد الحرب العراقية الإيرانية، والتي استغلّها النظام العراقي، تحت إدارة صدّام حسين، في شنّ هجمات دموية على سكانه الأكراد، وبحلول منتصف العام 2009؛ وقعّت الحكومة التركيّة اتفاقيات مع الأكراد العراقيين، في ظلّ الفراغ الأمني والسياسي الذي تسبّب به الاحتلال الأمريكي للعراق، اشتملّت هذه الاتفاقيات على عدة بنود، أهمها كان استيراد النفط، وبمقتضى هذه الاتفاقيات بدأت أنقرة حواراً رسمياً مع حكومة إقليم كردستان، وخفّضت تعاونها مع الجبهة التركمانية العراقية.
وبحلول عام 2010؛ كانت تركيا قد خفّضت بالفعل دعمها للتركمان، وبدأت بالاقتراب من العراق بشكل كامل، وذلك بالتعاون مع إدارة أوباما، لأغراض عديدة، أبرزها التأثير في عملية الانتقال السياسي التي كانت تمّر بها الدولة العراقية آنذاك، لكنّ السبب الحقيقي الذي يفسّر تغيير سياسة تركيا تجاه العراق غير واضح، إلّا أنّه يبدو كمزيج من التطورات الإقليمية والدولية، ومحددات الجغرافيا السياسية الجديدة، التي تشكّلت بالفعل بعد قرار الولايات المتحدّة الأمريكية بالانسحاب من العراق، إضافة للنهج الجديد في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي يتطلع إلى جعل تركيا إمبراطورية، وتعيد أمجاد العثمانية البائدة.
اقرأ أيضاً: الأكراد لتركيا: أي هجوم جديد يعني حرباً بلا نهاية... ما القصة؟
ومع حالة الاستبداد السياسي التي تعيشها تركيا في الداخل، والتي تنعكس على سياساتها الخارجية، فإنّ الموقف الكردي يظلّ مأزوماً، لا سيما بعد السيطرة والقبضة الأمنية المحكمة للأتراك في شمال سوريا، ما يعرقل عملية سلام محتملة، وكذلك الملفات الأخرى بين العراق وتركيا، وأهمها ملفّ المياه الذي تستخدمه أنقرة كورقة ضغط وابتزاز للإدارة العراقية؛ لذلك فإنّ مآل ما تمارسه تركيا في العراق ما يزال مرهوناً بالموقف الأمريكي المنتظر من إدارة جوزيف بايدن.