الذين يحاولون رد أزمات الأردن الاقتصادية، وبخاصة الاحتجاجات الأخيرة، إلى نظرية المؤامرات الخارجية، يمارسون نوعاً من الخرافة السياسية والسحر الأسود؛ لأنّ كل مطلع على الأزمة الاقتصادية في الأردن يعلم أنها مشكلة بنيوية قديمة بسبب ظروف الأردن الجيوسياسية التي فرضت عليه أعباء نتجت عن الحروب والمآسي التي حدثت في جواره.
السياسيون أو هواة اللعب على حبال الأجندة الخاصة، يستثمرون الآن في الأوضاع الشعبية الأردنية الصاخبة، ليفيضوا بما في أجوافهم من حسابات، ويقدموا "نصائحهم" لصانع القرار في الأردن من أجل حرف البوصلة باتجاه معسكر سياسي بعينه تشكل قطر وإيران وتركيا أضلاع مثلثه، في مقابل قلب ظهر المجنّ لدول الخليج الأساسية وفي طليعتها السعودية والإمارات، على اعتبار أنّ الأخيرتين كما يزعم أنصار المؤامرة وأتباع محور "المقاومة والممانعة" تمثلان حلفاً عدائياً لتركيع الأردن وجره إلى إكراهات سياسية ستودي به إلى التهلكة.
الأرقام تتحدث عن نفسها والحقائق ماثلة فيما يتعلق بالدعم الموصول والذي لن ينقطع للأردن من قبل السعودية والإمارات
وثمة من رأى من سياسيين، وبعضهم، وازن، أنّ الاحتجاجات الشعبية تمت بفعل فاعل خارجي، من أجل معاقبة الأردن على مواقفه من القضية الفلسطينية والعلاقة مع قطر وإيران وتركيا، وأنّ الأردن يرفض، بحسب عقلية المؤامرة، أن يتنازل عن استقلالية قراره الوطني.
هؤلاء ينطلقون من وهم أنّ ثمة اختلافاً أو تنافراً بين الأردن والإمارات والسعودية، وهو أمر لا أساس له من الصحة والمنطق، وينفيه في كل مناسبة القادة السياسيون المعنيون بالأمر والمشرفون على الملفات الحساسة التي تثير حفيظة الذين يحلو لهم الصيد في المياه الوسخة.
وليس من داع للتذكير بحجم المساعدات التي قدمتها السعودية والإمارات بشكل خاص للأردن، على شكل مساعدات مالية أو قروض أو تمويل مشاريع أو دعم مؤسسات، وهو دعم لم ينقطع، ولن ينقطع؛ لأنّ الأردن يحتل موقعاً أساسياً ومتميزاً في سلم صانع القرار في هاتين الدولتين اللتين تحتضنان أكبر نسبة من العمالة الأردنية في الخارج، ويحظى الأردنيون في هذين البلدين بأفضلية ملموسة، ويتمتعون بترحيب واسع، وحفاوة لا تخطئها العين.
الاختراق الإيراني والقطري للساحة الأردنية أيضاً لا تخطئه العين، ومن يرصد التقارير التي تفيض بها المنصات التابعة لقطر ولتنظيم الإخوان المسلمين، يلمس حجم التحريض الذي يستهدف زعزعة البناء الداخلي للدولة الأردنية، وسكب الزيت على نار الاحتجاجات، والترويج بأنّ سبب الغضب الأردني، هو انكفاء الأشقاء عنه، وأنّ من مصلحة حلفاء الأردن في الخليج أن يشتعل البلد، كي يكون ذلك درساً قاسياً لقيادته السياسية من أجل الرضوخ لما يتمليه عليه الرياض وأبوظبي، وهذا أشبه بتداعيات رجل مهووس بالمؤامرة، عاطل عن التفكير والتحديق في أسباب الأزمة الاقتصادية في الأردن، وفشل الحكومات السابقة في وضع حد لحالة الاستنزاف في الموارد، والأنفاق على مشاريع لا طائل منها، وسوى ذلك من أسباب لا علاقة للإمارات والسعودية بها لا من قريب ولا من بعيد.
التحريض الذي تمارسه منصات قطر الإعلامية وجماعة الإخوان بلغ حد الكذب والتدليس، فقد ترجم موقع "عربي 21" تقريراً مترجماً لكاتب يدعى "شون يوم" من صحيفة "ميدل إيست آي" مليء بالمواقف الموجهة لمصلحة توجهات قطر وحلفائها الجدد؛ إذ يخلص الكاتب إلى أنّ "احتمال توسع حركة الاحتجاج الاجتماعي وزيادة القلاقل يجعل البحث عن قناة جيوسياسية جديدة لضمان البقاء، أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى" وهو يقصد بلا ريب بهذه القناة: قطر وإيران وتركيا، وهناك من يضيف إلى ذلك: إعادة الاعتبار للإخوان المسلمين والتصالح معهم لأنهم، كما يزعمون "صمام الأمان" في الشارع.
وقد شكا مسؤولون أردنيون مما اعتبروه تدخلاً فاضحاً من إعلام بعض الدول، من دون أن يسموها، ويقصدون قطر بلا ريب، فقد أضحى مكشوفاً ومفضوحاً إذكاءُ الاحتجاجات والنفخ في نارها، من أجل تزوير الحقائق، وتوجيه الرأي العام، باتجاه الضغط على القيادة السياسية، لترتمي في أحضان طهران وأنقرة والدوحة، والشيخ يوسف القرضاوي!
الاختراق الإيراني والقطري للساحة الأردنية لا تخطئه العين ويتجلى في تقارير الإعلام التابع لقطر و الإخوان
وكتب أحد عتاة "المقاومة والممانعة" مقالاً رأى فيه أنّ "طوق النجاة للملك والأردن" يتمثل في "تموضع سياسي جديد"، قائلاً إنّ "قطر أذكى منا"؛ إذ يرى أنّ "ذكاء قطر" يتجلى في أنّ "قطر واجهت خطر الاستهداف وتصرفت بكل ذكاء وشجاعة لحماية نفسها.. وأسقطت الابتزاز حين سارعت وحمت نفسها بإيران وتركيا، الدولتين اللتين تمدان يديهما للأردن، وتتحملان صد الأردن لهما".
هكذا يستثمر هواة اللعب على الحبال آلام الشعب الأردني، من أجل الضغط عليه، والتشويش على صانع القرار، وإثارة الزوابع من حوله، من أجل تشويه صورة الحلفاء الحقيقيين، وامتداح أطراف سياسية يعلم القاصي والداني في الأردن أجندتها في الهيمنة ونشر التشيع، ودعم الميليشيات المسلحة من أجل نشر الفوضى، وتحقيق ما حذر منه قبل سنوات الملك عبدالله الثاني بخصوص "الهلال الشيعي".
الأرقام تتحدث عن نفسها، والحقائق ماثلة لكل ذي عينين وعقل ثاقب، فيما يتعلق بالدعم الموصول والذي لن ينقطع للأردن من قبل السعودية والإمارات. ولن تؤثر في هذه العلاقات الراسخة أية أصوات تثير زوابع الوهم والمؤامرة الركيكة، فالأردن وأشقاوه في الرياض وأبوظبي في مركب واحد، وعمّان لها من الحكمة والحنكة ما يؤهلها لتمييز الغث من السمين، وهي لا تخلع أصدقاءها.