لا يسع المرء سوى الاستغراب إزاء اعتقاد الأغلبية أنّ الإسلام قد دخل إلى مدينة القسطنطينية مع الفتح العثماني للمدينة صباح الثلاثاء 29 أيار (مايو) 1453م، وتحويل السلطان محمد الفاتح كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد من أجل إقامة صلاة الجمعة التالية مباشرة. فقد دخل الإسلام إلى مدينة القسطنطينية - التي كانت تحمل أيضاً اسم إسطنبول eis ten polin في العصر البيزنطي - قبل دخول العثمانيين إليها بعدة قرون. وهو الأمر الذي لا يدركه كثيرون أيضاً.
ظل حلم القضاء على دولة الروم يراود الخلفاء الراشدين دون محاولة جدية لتحقيقه، حتى انتقل إلى حيز الواقع الميداني على عهد الخلفاء الأمويين الذين قاموا بإرسال عدة حملات عسكرية خلال الأعوام 674-680 م، 717 – 718م من أجل حصار مدينة القسطنطينية. وكانت الحملة الأخيرة التي قادها مسلمة بن عبد الملك هي الأهم بين تلك الحملات؛ حيث قام المسلمون بضرب حصار بحري حول المدينة لمدة عام كامل. غير أنها فشلت أيضاً في اقتحام القسطنطينية لعدة أسباب أهمها قوة الاستحكامات البيزنطية، ومعاناة المسلمين من شتاء القسطنطينية القارس، والأمراض التي تفشت بين جنود الحملة، فضلاً عن مهارة البحرية البيزنطية.
لا يسع المرء سوى الاستغراب إزاء اعتقاد الأغلبية أنّ الإسلام قد دخل إلى مدينة القسطنطينية مع الفتح العثماني للمدينة عام 1453م
وعلى الرغم من الفشل العسكري الذي لحق بتلك الحملة، فقد نجحت في تحقيق نصر معنوي بعد أن اشترط القائد مسلمة على القائد البيزنطي ليو الثالث الإيسوري عام 718م ضرورة بناء مسجد للمسلمين داخل أسوار مدينة القسطنطينية / إسطنبول مقابل انسحاب قواته والعودة الى بلاد الشام.
واضطر ليو الى الموافقة على ذلك بعد أن أنهكته عملية الدفاع عن المدينة. وهكذا تمكن العرب من فرض المسجد الإسلامي الأول في القسطنطينية عاصمة دولة الروم منذ الربع الأول من القرن الثامن الميلادي.
اقرأ أيضاً: جامعة إخوانية في إسطنبول: للعلم أم لتدريب ميليشيات إلكترونية؟
تناولت العديد من المصادر التاريخية البيزنطية والعربية وجود هذا المسجد داخل القسطنطينية. ولعل أهم وأقدم من تحدث عن ذلك هو الإمبراطور ميخائيل السابع (913 - 959م) في كتابه "إدارة الإمبراطورية البيزنطية" حيث ذكر "أن مسلمة بن عبد الملك هو الذي أمر ببناء مسجد للمسلمين أمام المعسكر الإمبراطوري داخل القسطنطينية"، كما يذكر القاضي ابن عبد الظاهر أيضاً أنّ المسلمين قد اتفقوا مع البيزنطيين على بناء المسجد داخل أسوار القسطنطينية، وتم الاتفاق بين الطرفين أن تكون مساحة المسجد "قدر جلد بعير".
وفي حيلة ذكية من المسلمين من أجل زيادة رقعة مساحة المسجد أحضروا جلد بعير بعد تقطيعه على هيئة سيور جلدية مما جعل مساحة المسجد أكثر طولاً وأكبر اتساعاً، وهو الأمر الذي اعترض عليه البيزنطيون، ورد المسلمون على ذلك بأنه مجرد جلد بعير واحد كما سبق الاتفاق على ذلك. ومرة أخرى اضطر البيزنطيون الى الموافقة.
ويعتبر الباحثون أنّ مسجد مسلمة بن عبد الملك، وكذلك المبنى الذي عرف في المصادر الاسلامية باسم "دار البلاط" الذي كان مخصصاً من أجل احتجاز كبار أسرى المسلمين هما نواة الحي الإسلامي بالقسطنطيينية منذ القرن الثامن الميلادي.
اقرأ أيضاً: وفاة محامية معتقلة في إسطنبول: أردوغان يذبح العدالة
على أية حال استمر مسجد المسلمين بالقسطنطينية يقوم بوظيفته الدينية، ويرتاده المصلون والمسافرون من التجار والرحالة المسلمين حتى القرن العاشر الميلادي. وهو ما ظهر من خلال طيات الرسالة التي بعث بها بطريرك القسطنطينية نيكولاس مستيكوس إلى الخليفة العباسي المعتز بالله (908 -932م) التي أشار فيها إلى حسن رعايته لمسجد القسطنطينية / إسطنبول.
ونتيجة للمكانة التجارية الكبرى لمدينة القسطنطينية طوال العصر الوسيط، فقد توافد عليها العديد من التجار المسلمين والأجانب من الروس والبلغار والألمان والفرنسيين، فضلاً عن التجار اليهود الراذانيين. ولدينا إشارة في أحد أهم المصادر البيزنطية، وهو كتاب والي مدينة القسطنطينية، المنسوب إلى الإمبراطور ليو السادس (886 - 912م)، تتحدث عن تدفق أعداد التجار المسلمين ومكوثهم لفترة طويلة تبلغ العشر سنوات متصلة بالقسطنطينية، على عكس التجار الأجانب الذين لم تسمح لهم القوانين البيزنطية بالمكوث في المدينة أكثر من ثلاثة أشهر.
هكذا عاش التجار المسلمون في أماكن قريبة من المسجد الاسلامي الأول، مما يشير الى بداية تكوين حي إسلامي صغير بالمدينة، وهو ما يفسر استقرارهم وممارستهم لشعائرهم الدينية لفترات طويلة داخل بالقسطنطينية / إسطنبول في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين.
كما تخبرنا المصادر الإسلامية بعد ذلك أنه بعد التهديد المتواصل للأراضي البيزنطية من قبل السلطان السلجوقي طغرل بك (1029 - 1063م) اضطر الإمبراطور قسطنطين مونوماخوس (1042 - 1055م) ، اضطر الأخير إلى خطب وده، كما توسل إليه من أجل إطلاق سراح ملك الأبخاز. فلما أطلق طغرل بك سراحه قدم له الإمبراطور البيزنطي الهدايا، كما قام بإعادة تعمير مسجد المسلمين بالقسطنطينية من أجل السكان المسلمين بها، وأقيمت فيه الصلاة والخطبة للسلطان السلجوقي المسلم طغرل بك عام 1049م.
اقرأ أيضاً: آيا صوفيا: هل تعاني إسطنبول من نقص في المساجد؟
كما زار الرحالة العربي أبو الحسن الهروي بعد ذلك مدينة القسطنطينية في القرن الثاني عشر الميلادي، حيث وصف المدينة وذكر وجود المسجد الإسلامي بها، ولاحظ استمرار السكان والزوار المسلمين في ممارسة شعائرهم الدينية به.
كما استمر اهتمام الأباطرة البيزنطيين بمسجد القسطنطينية كلما كانت العلاقات جيدة بينهم وبين الحكام المسلمين. مثلما كان حال العلاقة الحسنة بين الإمبراطور اسحق إنجيلوس (1185 - 1195م) والسلطان صلاح الدين الأيوبي. حيث أرسل الأخير إلى مسجد المسلمين بالقسطنطينية خطيباً وعدداً من القراء والمؤذنين، وكان في استقبالهم بالمدينة العديد من السكان المسلمين والتجار المقيمين بها تحت الحكم البيزنطي. وعلاوة على التجار المسلمين الشوام فقد مارس التجار الأتراك السلاجقة أيضاً تجارتهم بالقسطنطينية، وأقاموا في الحي الإسلامي بها وارتادوا المسجد الموجود به. كما تعرضوا للاضطهاد أحياناً، من ذلك قيام الإمبراطور البيزنطي الكسيوس أنجليوس (1195م - 1203م) بالقبض عليهم وسجنهم عام 1189م نتيجة التوتر في علاقته مع سلاجقة قونية المسلمين.
اقرأ أيضاً: هل يقضي مشروع "قناة إسطنبول" على أردوغان؟
علي أية حال كان الحي الإسلامي في القسطنطينية يتصف بالاتساع في بدايات القرن الثالث عشر للميلاد ويقع غربي بوابة الحرس وإلى جوار الحي الذي سكنه تجار مدينة البندقية الإيطالية. كما لوحظ تعاظم دور المسجد الاسلامي داخله، واستقرار عدد كبير من السكان والتجار المسلمين حوله بشكل دائم من أجل الإقامة وكذا ممارسة دورهم التجاري، فضلاً عن استقبال زملائهم من التجار المسلمين الجدد الوافدين الى أسواق المدينة. وهو الأمر الذي جعل المصادر البيزنطية تطلق على الحي الإسلامي بالقسطنطينية/ إسطنبول اسم حي (الهاجريين)، أو حي أبناء هاجر Agarentes)).
كان هذا الحي الإسلامي من أوائل الأماكن التي تعرضت إلى هجوم الحملة الصليبية الرابعة علي القسطنطينية عام 1204م، و هو ما أدى إلى تدمير المسجد القديم بعد إضرام النيران فيه. ومن الجدير بالذكر أن السكان البيزنطيين المجاورين للحي الإسلامي قد مدوا يد المساعدة الى السكان المسلمين في محاولة صد الهجوم اللاتيني الوحشي الذي تمكن أيضاً من تدمير وحرق أربعة مساجد إسلامية أخرى بالقسطنطينة.
اقرأ أيضاً: بعد لقاء إسطنبول.. كشف الهيكل التنظيمي للإخوان بإيران
وبعدما استطاع البيزنطيون استرداد مدينتهم من الصليبيين الكاثوليك العام 1261م، كانت الإمبراطورية تعاني من التدهور الشديد. حدث ذلك إبان رحلة صعود العثمانيين في آسيا الصغرى، الذين استغلوا فرصة الحرب الأهلية حول العرش البيزنطي في القرن التالي، واستنجاد الإمبراطور كانتاكوزينوس بالأمير أورخان، فأرسل له فرقة عسكرية عبرت إلى قارة أوروبا وساهمت في تثبيته على العرش في القسطنطينية مقابل الزواج من ابنته الأميرة ثيودورا. وكان ذلك هو العبور العثماني الأول إلى القارة الأوروبية.
استمر مسجد المسلمين بالقسطنطينية يقوم بوظيفته الدينية، ويرتاده المصلون والمسافرون من التجار والرحالة المسلمين حتى القرن العاشر الميلادي
وطوال رحلة الصعود العثماني في مقابل التراجع والانهيار البيزنطي، نجح السلاطين العثمانيون المتعاقبون في فرض وتكريس قوتهم التي أفضت بالضرورة الى تبعية الأباطرة البيزنطيين لهم قبل فتح القسطنطينية بقرن كامل تقريباً. فقد كانوا بمثابة الأتباع لهم. وهو ما جعل السلطان بايزيد الأول
(1389 - 1402م ) يأمر الامبراطور مانويل باليولوغس بضرورة تخصيص حي كامل للمسلمين وتشييد مسجد جديد به، مع تعيين قاض ومحكمة إسلامية في منطقة سيركجي Sirkeci داخل إسطنبول، وذلك حسب رواية المؤرخ العثماني عاشق باشا زاده التي تؤكدها المصادر البيزنطية أيضاً.
هكذا كان حال المساجد والمسلمين في إسطنبول قبل الفتح العثماني 1453م، قبل تحويل كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد إسلامي جامع..... غير أنّ تلك قصة أخرى تستحق أن تروى أيضاً.