
عبدالمنعم همت
تأثير نظام الإخوان المسلمين في السودان كان عميقًا ومتعدد الأبعاد، حيث شكلت سياساته وممارساته أزمة مستمرة أدت إلى تغييرات جذرية في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. فمنذ وصولهم إلى السلطة عام 1989، سعى الإخوان المسلمون ليس فقط إلى تعزيز نفوذهم السياسي ولكن أيضًا إلى تغيير هيكلية الدولة بما يخدم أجنداتهم الأيديولوجية.
تبدأ القصة بتطبيق سياسات ممنهجة لإضعاف القوى المدنية في السودان، حيث عملت الحكومة الإخوانية على تقويض النقابات والاتحادات المهنية التي كانت تُعدّ قوة رقابية هامة في المجتمع. شمل ذلك إغلاقها أو تقليص نشاطها، مما قلل من قدرتها على التأثير في الحياة السياسية والاجتماعية. كما عملوا على شل حركة الأحزاب السياسية، مما منعها من القيام بدورها التقليدي في الرقابة والمشاركة في عملية صنع القرار.
في المجال العسكري، اتبع النظام سياسات تصبّ في تفكيك بنيته الأساسية. بدأ بفصل وتشريد ضباط وجنود لم يتماشوا مع الأيديولوجية الجديدة، مما أدى إلى إضعاف القوة العسكرية التقليدية. في الوقت ذاته، أنشأ النظام مؤسسات موازية مثل “الأمن الشعبي” و“الدفاع الشعبي”، التي كانت تهدف إلى تأمين ولاء إضافي وتعزيز سلطته عبر تجنيد وتدريب عناصر موالية. هذه السياسات ساهمت في تقليص دور الجيش النظامي وتحويله إلى تابع للمكتب الخاص للإخوان، مما أثر بشكل كبير على فعاليته وقدرته على أداء مهامه العسكرية والأمنية.
مع مرور الوقت، أصبحت ولاءات معظم قيادات الجيش موجهة نحو التنظيم الإخواني أكثر من ولائها للمؤسسة العسكرية ذاتها. هذا الولاء غير التقليدي كان له تأثير سلبي على فعالية الجيش، حيث أصبح يواجه ولاءات متضاربة وأولويات مختلفة تركزت على دعم النظام السياسي بدلاً من حماية البلاد والمصالح الوطنية.
كشفت لجنة إزالة التمكين التي تشكلت بعد الإطاحة بنظام الإخوان العديد من التلاعبات والألاعيب المالية التي استهدفت نهب الموارد وتفريغ المؤسسات من كفاءاتها. أحد أبرز الألاعيب التي كشفتها اللجنة كان التلاعب بالكشوفات العسكرية، حيث قدم الجيش كشوفات تحتوي على أسماء أكثر من 200 ألف فرد، بينما العدد الحقيقي للمنتسبين لا يتجاوز 40 ألفًا. هذا التلاعب أثار تساؤلات حول مصير الرواتب المخصصة للأسماء الوهمية، واحتمال وجود شبكة منظمة للاستيلاء على الأموال العامة.
عندما استردت اللجنة قطعة أرض مساحتها 5000 متر مربع تابعة لشركة زادنا، تدخل البرهان باستصدار مرسوم بأثر رجعي يفيد بأن الأرض ملك للقوات المسلحة. هذا الإجراء يظهر التلاعب في إدارة الأصول العامة والتصرف بها بطرق غير قانونية.
في حالة أخرى، عندما استردت اللجنة برجين في منطقة بحري على النيل كانا مملوكين لعبد الباسط حمزة، عضو الحركة الإسلامية، تدخل البرهان مرة أخرى. فقد قام بتسجيل الأبراج باسم صندوق القوات المسلحة، وطلب من وزير المالية في حكومة الفترة الانتقالية، جبريل إبراهيم، إرجاع الأبراج للجيش. هذا التدخل يُظهر محاولات لتحويل ممتلكات كانت تحت إدارة أفراد من النظام السابق إلى سيطرة الجيش بطريقة غير قانونية.
في سياق هذه الأزمات، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية إجراءات حظر ضد أفراد ومنظمات إسلامية بناءً على الفساد الذي كشفته لجنة إزالة التمكين. هذا الإجراء يعكس تدخل المجتمع الدولي في محاربة الفساد ودعمه لجهود الإصلاح في السودان. كما أن التناغم بين جبريل إبراهيم وقادة الجيش، والذي يتجلى في سعي جبريل للوراثة السياسية للحركة الإسلامية معتبراً نفسه خليفة للترابي، يبرز تداخل الأجندات السياسية مع الأزمات العسكرية. في الوقت نفسه، يبحث الجيش عن مخرج من الأزمات السياسية والاقتصادية، مما يجعله في حالة من التخبط وعدم الاستقرار.
تضاف إلى هذه الديناميكيات مشكلات أخرى. قادة الجيش كانوا يخشون من المحاكمات على الجرائم التي ارتكبوها في حق المواطنين وانتهاك حقوقهم، بالإضافة إلى تخوفهم من افتضاح الفساد الذي بدأت اللجنة في كشفه. هذا الخوف دفعهم إلى اتخاذ موقف صارم ضد تسليم السلطة للمدنيين، حيث كان من المتفق عليه أن تتم مناصفة فترة قيادة مجلس السيادة بين العسكريين والمدنيين. ولكن، مع انتهاء فترة العسكريين، اختاروا معالجة الوضع بطريقة انقلابية في أكتوبر، مما عكس رغبتهم في الحفاظ على السلطة وضمان عدم تعرضهم للمسؤولية عن أفعالهم السابقة.
في هذا السياق، لعبت الصراعات الداخلية على السلطة دورًا محوريًا. فقد كانت هناك محاولات متكررة من قبل بعض قادة الجيش لإعادة ترتيب المشهد السياسي بما يخدم مصالحهم، ما أدى إلى تقويض جهود الإصلاح والتغيير التي كانت تتطلع إليها قطاعات واسعة من الشعب السوداني. كما أسفرت الصراعات حول السلطة عن تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية، مما زاد من تعقيد المشهد السوداني وأدى إلى تفشي الفساد وسوء الإدارة.
هذه الديناميكيات تعكس الصراع المعقد بين قوى الجيش والسياسيين المدنيين، وتوضح كيف يمكن أن يؤثر الفساد والخوف من المحاسبة على عملية وقف الحرب، الانتقال السياسي، وتحقيق السلام العادل في البلاد.
العرب