
أثارت تصريحات أخيرة لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك انتقادات دولية واسعة؛ بعد محاولتها شرح مفهوم حق إسرائيل في "الدفاع عن النفس". ووفقاً للوزيرة، فالحق/ المهمة تقتضي "تدمير الإرهابيين، وليس مهاجمتهم فحسب"، الأمر الذي قد يؤدي ـ في ظل الوضع القائم ـ إلى أن تفقد المناطق المدنية "وضع الحماية" بسبب إساءة استخدامها.
على المستوى الشخصي، لم تكن مثل هذه التصريحات مفاجئة، في ظل الحساسية العالية الموجودة في الأوساط الألمانية حيال المسألة "الإسرائيلية/ اليهودية". قامت دولة ألمانيا ما بعد 1945 على فكرة أساسية؛ وهي أنّ مسؤوليتها عن المحرقة جزء لا يتجزأ من هويتها، وإسرائيل هي وطن ضحاياها الذين أصبحت مُلزمة بالدفاع عنهم، وحماية حقهم في الوجود.
في الأعوام السابقة جرت مراجعات كثيرة ونقاشات ومواقف علنية جريئة في الأوساط الألمانية ـ الرسمية والشعبية ـ حول السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وحول خطورة أن يتحول ستار المظلمة إلى دِرع حصينة تُمارس خلفها أعتى أنواع الظلم، دون حساب أو عقاب، وحتى الوزيرة نفسها يحتفظ لها الأرشيف بتصريحات سابقة تحوم في مدار المراجعات. غير أنّ عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) وارتداداتها، أخذت المواقف في اتجاهات مختلفة تماماً، ومتطرفة بصورة فجة، خصوصاً أنّ حركة حماس تتبنّى، وبشكل علنيّ، مشروع "إنهاء إسرائيل من الوجود"، وهو أمر لم يؤخذ على محل الجد في السابق، فعادة ما كان يجري التركيز على الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. ورأى كثيرون ـ في ألمانيا ـ أنّ العملية والاحتفالات التي صاحبتها من قِبل المؤيدين لحماس، وفي شوارع ألمانيا نفسها، ما هي إلا تطبيق عملي لهذا المشروع.
تنتمي الوزير الألمانية إلى (حزب الخُضر)، الحزب الذي جعل من قضية البيئة القضية المركزية في برنامجه. في آخر انتخابات العام 2021 للبرلمان الألماني (البوندستاج) كان أكثر حزب يحقق قفزة كبيرة في شعبيته، وعلى ضوئها أصبح جزءاً من التشكيلة الحكومية. وقد تراجع الحزب كثيراً في الفترة الأخيرة بسبب الأداء الحكومي، والأزمة الاقتصادية، وتراجع شعبية القضايا البيئية في أوساط الجماهير، حتى بات أكبر الخاسرين في انتخابات بعض مجالس الولايات البرلمانية التي جرت مؤخراً أمام زحف التيارات اليمينية. لهذا لم يكن مفاجئاً، وعلى ضوء كل الحسابات الراهنة، الداخلية والخارجية، أن تقف أنالينا بيربوك أمام أعضاء البرلمان لتُدلي بتلك التصريحات.
صدرت أعنف الانتقادات لتصريحات الوزيرة من منابر إعلامية تتبع تيارات الإسلام السياسي التي تحولت إلى "إعلام حربي" بحت، ووصفت التصريحات بـ "النازية". على العكس من ذلك، ترى الغالبية الساحقة من الألمان أنّ أيّ أفكار أو أفعال تتماهى مع فكرة/ نيّة إزالة الأقلية اليهودية من الوجود هي فكرة نازية بامتياز، وهذه من التابوهات التي لا يقبلون النقاش حولها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا المُعتقد الراسخ يمكن استخلاصه بسهولة عند النقاش مع أيّ ألماني، ربما الجدل الذي دار في الأعوام السابقة تمحور حول البحث عن صيغة مُثلى لحماية "وطن اليهود" بعيداً عن العنف الصِرف. تُدرِك نُخب الإسلام السياسي وأعلامه هذه الحقيقة، وقد سبق أن أفردت لها الكثير من التغطيات والتحليل، على أنّ حالة الشجب والندب التي سادت لا تعود إلى مواقف مفاجئة/ غير متوقعة، بل في الحقيقة إلى توقعات سابقة مبنية على رهانات خاطئة، وبعضها كان يجري بصورة انتهازية للغاية، كما سنوضحه حالاً.
منذ انتكاسة الربيع العربي كانت ألمانيا إحدى أهم الوجهات التي قصدها أو استهدفها أعضاء وأنصار الإسلام السياسي في مسعى لتأسيس أوطان بديلة يجدون فيها ممكنات لانطلاقة جديدة، ومحاولة لإعادة ترميم مشروعهم الذي تهاوى بصورة سريعة وسوريالية من الخليج إلى المحيط. اهتم (حزب الخضر)، بجانب قضايا البيئة، بقضايا الجماعات المهمشة، ولهذا فتح أبوابه واسعةً للألمان من أصول مهاجرة، خصوصاً الجاليات الإسلامية والعربية. وجد أتباع الإسلام السياسي في هذا الحزب فرصة سانحة لإيجاد موطئ قدم للتأثير في توجهات السياسة الألمانية، مع أنّه أكثر حزب يدعم أيضاً ما يُسمّى بـ "مجتمع الميم". وقد سهّل لهم الوصول إلى مناصب قيادية، والترشح كأعضاء في البرلمانات المحلية، وقام هؤلاء بتشكيل شبكة تواصل لحث أبناء بلدهم الأصلي على التصويت لـ (حزب الخضر) على اعتبار أنّه أكثر حزب يدعم قضايا المهاجرين.
منذ اندلاع الصراع في اليمن كانت توجهات الحزب الألماني ومواقفه من الملف اليمني أقرب إلى مواقف وتوجهات تيارات الإسلام السياسي، بل وتتقاطع بشكل أو بآخر مع خلق حالة ضبابية خدمت مشروع الحوثي بامتياز. بعد تصريحات الوزيرة لم يخرج ـ إلى حد اللحظة ـ أيّ عضو من أعضاء الحزب ممّن يتبنون توجهات الإسلام السياسي معترضاً أو منسحباً، ولاذوا بالصمت المُطبق. وأتذكر قبل أعوام أحد النقاشات مع شاب من أصول يمنية أصبح يشغل منصباً قياديأ في الحزب بإحدى الولايات، يدعم حزب (الإصلاح) اليمني "إخوان اليمن"، ودأب على توجيه انتقادات شديدة لليمنيين الجنوبيين في وسائل التواصل الاجتماعي تحت حجة تحالفهم مع دول قامت بالتطبيع مع إسرائيل. وعندما سألته فيما إذا كان يعرف مواقف حزبه من إسرائيل "شديدة التأييد" ومدى انسجامها مع وجهات نظره، قام على الفور بمسح جميع تعليقاته، وعمل لي حظراً!
يمكن انتقاد تصريحات الوزيرة الألمانية بوضوح ومنطق وموضوعية، ولا يعني لأنّها تنتمي إلى المجتمع الغربي فهي معصومة من الخطأ الإنساني أو الأخلاقي، وهناك منظمات دولية انتقدتها بشدة، بل طالبت بمحاكمتها، مع أنّ القانون الدولي نفسه غير دقيق/ واضح بما فيه الكفاية فيما يتعلق باستخدام مقاتلين للمدنيين كدروع بشرية.
لكنّ خطورة الفكرة هنا هي أنّ تيارات الإسلام السياسي التي لم تفوّت أيّ حدث إلا وحاولت استثماره، وبأكثر وأبشع الطرق انتهازية، باتت في السنة الأخيرة تبذل جهوداً خارقة لتأويل أيّ خطابات أو التنبيش في أرشيف النصوص للحصول على مقولات تدعم فكرة صراع الغرب والشرق على أساس إيديولوجي/ ديني، ولإثبات المؤامرة وبالدليل الدامغ على العالم الإسلامي أجمع، وبالتالي خلق ذهنية لا تقبل سوى بالثنائيات/ المثاليات القاتلة "الخير المُطلق والشر المُطلق"، ولا تستطيع أن تفهم تعقيدات الواقع خصوصاً في ظل التحولات الكُبرى، والعالم لديها عبارة عن أهل حق وأهل باطل، وليس مزيجاً من هذا وذاك. وهذه الاستراتيجية تهدف في المقام الأول إلى تنزيه ما قامت به حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وكأنّها ذروة سنام المجد والإنسانية، ثم استخدام هذا الحدث وتداعياته لإعادة فتح ما يجري في الشرق الأوسط على سردية أوسع تهدف إلى حشد العالم الإسلامي في مواجهة "مؤامرات العالم الغربي" الدائمة. لقد باتت تيارات الإسلام السياسي منذ سقوط الخلافة العثمانية في مهمة دائمة ودؤوبة، ومستثمرةً لكل حدث وصراع، لإثبات أنّ "الإسلام" الذي سيُحيي عظام "دولة الخلافة" الرميم هو الحل لكل المشاكل والصراعات والأزمات، الفردية والجماعية. وفي ظل تضخيم فكرة وحجم هذا التكالب، تعتقد هذه التيارات أنّ الناس سيميلون إلى مقترحها "الحل" باعتباره الحل الناجع والأكيد لكل مشاكل الدنيا والآخرة، على الرغم من أنّ الواقع يثبت لها كل يوم كم هي مُكلفة تبعات هذا الشعار، وكم هي الكوارث المترتبة عليه: خلق أجيال لن تجد أمامها سوى الانتحار خياراً في وجه هذا العالم الذي لم تستطع، ولن تستطيع أن تُصلحه بالطريقة التي تتصورها، ولم تستطع، ولن تستطيع أن تُغيّره بالأدوات والوسائل التي لديها، والتي تتبعها.