
أيمن خالد
هل تستطيع الإسلاموية العيش في جزيرة افتراضية، بحيث تعيد صياغة الوعي الذي كان قد تشكل عبر امتداد الأثر، وبين وعي تسعى في تشكيله والتأثير فيه، وبالتالي استبدال موروث حضاري يعود إلى بدء سلالة الإنسانية، نحو وعي تساهم في تراكيبه، بحيث تقتطع جزءًا من الناس وتنقلهم إلى جزيرة معزولة وتقنعهم أنك أنت الأوحد الذي يمتلك الحقيقة؟
لقد كان ذلك صعباً في زمن القلم والكتاب إلا على جزء يسير من البشر، ولكن أن تصنع جزيرة افتراضية وتضخ فيها ملايين الأموال السائبة فقد بات الأمر وجهة نظر قابلة للتطبيق، عندما تصبح المعلومة صورة مركبة، يعاد من خلالها إنتاج نوع من الوعي المضاد، لكي يخترق بنية الوعي الموروث ويدخلان في تناقض خطين متوازيين لا يلتقيان، يوهم أحدهما الصورة البصرية، محاولاً صناعة كيانية بنيوية خاصة به، محاطة بقائمة كبيرة من الخطابات والشعارات والقيم الافتراضية، ولكنها تكبر لكي تتحول إلى جسم مادي ملموس.
ولكن عليك أن تدرك أن الأمم بالوعي الموروث تعيد إنتاج الوعي في النكبات، لكنها لا تستند إلى الوعي المضاد، ولا تأكل المرضع ثدييها لتعلن إيقاف إدرار نسيج الحياة، بقدر ما يصبح العالم الافتراضي للوعي عملية حزبية أو بنيوية إعلامية مضادة، تقتطع فيها جزءًا من كوكبك الآدمي، لتؤسس كياناً افتراضياً هو مؤسسة إعلامية ضخمة، تبث من خلالها الشك والتخوين من القريب والجار وكل من يحيط بك، ولا تنسى أن تستثمر ثوب الوطن والوطنية، كما رفع شعارات القضايا الكبرى، من تحرير فلسطين، إلى تصدير فلسطين، محاطة بثوب خفيف من الدين، ما يتيح للجمهور المتلقي ملامسة ملامح الروح عبر خليط فلسفي يعيد تصدير المنظومة الإخوانية، المولودة من (رحم الأنا) المناقضة لكل الموروث. وهي (الأنا) التي اختصرها إبليس عندما قال أنا خير منه، وبالتالي نزل من السماء لأنه لا مجال لسفك الدماء في الجنة، بينما كانت (الأنا) في جزيرتك الافتراضية المعزولة، هي من تصلب الناس على لوح من الجهل، وتوحي إليهم طوال الوقت أنهم يعلمون وما هم بمدركين من الأمر صوابه.
في الزمن الماضي ظهر قابيل، الباحث عن هابيل، شريكه الوحيد على الأرض، فمارس عليه (الأنا) التي جلبها إبليس فقتل قابيل هابيل فأصبح من النادمين، ولكن في الجزيرة الافتراضية وأنت تحسب أن جنتك خير من كل الجنان حولك، هناك بالضبط، كان صعود الإسلاموية، ثم كان هبوط القيم الإنسانية بداخلها، فمع صعود الإسلاموية لن يبك قابيل هابيل، لأن الجزيرة الافتراضية تحمل له مزيداً من الكائنات البشرية البديلة، وبما أنك خير منه، فلا بأس من أن يموت هو بينما أنت تبقى، لأن بقاءك سيأتي بالجنة، وهو بديل الموروث، وهو الكيانية التي ستعيد صياغة لون الحياة، وبالتالي كم يصبح هابيل بلا وزن ولا قيمة، هنا يصبح الموت التكتيكي مصطلحاً مقبولاً أمام ديمومة الحياة لك التي هي هدفك الاستراتيجي المنشود، فلماذا يبقى هابيل حياً إذاً.
كأمة، كان قد سجل لها التاريخ وجعاً مؤلماً من خوارج العصر الأول، الذين أرادوا عزل كيانهم عن عالمهم، عالم الصحابة الكرام، فأطالوا اللحى وانشغلوا بالصيام والقيام، حتى حسبوا أنهم امتلكوا كامل الدين فنالوا من الأكرمين، وفيهم كان الحديث النبوي الشريف "يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية". بالتالي ثمة فارق كبير، بين وعي يترافق مع الأثر في امتداد الموروث الحضاري، وبين آخر يعيدك في ثوب الخوارج، وإن شئت في لغة العصر فهي مقصلة الثورة الفرنسية التي أقصت، وألغت، واضطربت البلاد أجيالا، مرةً تغوص في عمق الأزمات، ومرةً تغادر البلاد من أزماتها نحو حروب وصراعات، ثم لك في مشهد الثورة البلشفية، وفي مشهد الثورة الإيرانية. فعملية الإقصاء وصياغة الوعي أو الأيديولوجيا الجديدة، تعيد من خلالها صناعة منظومات فكرية صفرية النتائج، تقودك نحو خط مستقيم لكنه والواقع لا يلتقيان. فالخوارج شاهدوا البداية، والبلاشفة كذلك، والثوار في حقبة الثورة الفرنسية وغيرهم، لكن النهايات لا تراها الأجيال المنشئة للفكرة، بقدر ما تعيشها الشعوب التي تشرب سموم هذه المادة في حقبة وجع النهايات.
انتصر البلاشفة، ومات البلاشفة، وأما حزب الله فقد تنقل أكثر من أربعين سنة، ثم يدخل الجيل التالي من الحزب في مواجهة الحقيقة، وحركة حماس تعوم على أيديولوجيا الاخوان المسلمين، ثم تعوم غزة على أكوام من الركام والموت، وكذلك كانت الأيام بين الناس في تداولها، وهو ربما عاش سر الموروث الإسلامي العريق، الذي يشير لك نحو طاعة الإمام، أي هو في لغة الماضي والحاضر يعني (الدولة، السلطة) وليس ذلك الإمام من يجلس في حضرة الكتب، فالدولة التي تحفظ لك كرامتك، تبقى هي الكتاب الذي لا يتراكم عليه الغبار.
نعم تستطيع أن تقتطع جزءًا من الناس من عالمهم، وتأخذهم إلى جزيرة افتراضية، وتقنعهم أنك البديل وصاحب الرؤية الصحيحة، وقادر على أن تعزز صناعة أيديولوجيا تنتصر وتصمد افتراضياً، ولكن وجع النهايات الذي كان يحتاج قروناً في الماضي، لم يعد ينتظر كثيرا.
العربية