أدى ترحيل تركيا الشاب المصري الإخواني محمد عبد الحفيظ، المتهم في قضية اغتيال النائب العام السابق هشام بركات، إلى القاهرة، وما تلاه من حديث عن احتمال ترحيل شاب آخر، إلى إحداث ضجة واسعة ومضاعفة المخاوف لدى المنتمين للإخوان من المصريين المقيمين في تركيا من تحول الموقف التركي تجاههم.
ورغم إعلان محافظ اسطنبول فتح تحقيق في الحادثة، إلا أنّ ذلك لا يبدو إلا محاولة لاستيعاب الغضب والتهدئة، في حين تتزايد المؤشرات على أنّ التوجّه العام يسير في مسار آخر.
لحظة "الربيع العربي" والفرصة التاريخية
مع اندلاع الاضطرابات في أرجاء العالم العربي مطلع العام 2011، بدأت الدول ذات المصالح في المنطقة بانتظار ما ستتمخض عنه التحولات، وما سينتج عنها من وضعية جديدة. ومن جهتها، اهتمت تركيا بشكل كبير بالتحوّلات الجارية في دول الجوار العربي، وبشكل خاص فيما يتعلق بسوريا، الجارة الجنوبية التي تتشارك معها حدود طويلة، ومن ثم مصر، التي تقف على الجانب المقابل من الشاطئ المتوسطي، وهي الدولة العربية ذات التعداد السكاني الأكبر، والتي تمثل لها مصالح عديدة.
احتضنت تركيا منصّات إعلامية عديدة للجماعة، كقنوات: رابعة، والشرق، ومصر الآن، وأحرار 25، والشرعية، ومكملين
وضاعف من أهمية هذه التحوّلات بالنسبة للأتراك أنها جاءت بعد حوالي العقد من تبلور السياسة "العثمانية الجديدة"، منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي إلى السلطة عام 2002، القائمة على التراجع عن مطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي، والتوجّه نحو التمدد في المشرق العربي، وكذلك استراتيجية داوود أوغلو "تصفير المشكلات".
كان الأمل التركي كبيراً في أن تحذو مصر - مع ولوجها مرحلة "التحول الديمقراطي" - النموذج التركي، المتمثل في "الإسلام الديمقراطي المعتدل"، والمتفق عموماً مع مصالح القوى الغربية. وقد تحقق ذلك فعلاً بعد نجاح مرشّح الإخوان المسلمين، محمد مرسي، بالفوز في الجولة النهائية من الانتخابات الرئاسية عام 2012. وسرعان ما بدت بوادر تحالف إقليمي بين البلدين، مع تصاعد مستويات التعاون بين البلدين على جميع المستويات، والتوجّه نحو تعزيز التعاون الاقتصادي، وبلورة مواقف سياسية موحّدة نحو قضايا المنطقة، تتمثل أساساً في دعم التيارات الإسلامية في مختلف دول المنطقة.
انقلاب في المواقف.. وتعويل على "ورقة الإخوان"
ولكن المشهد انقلب تماماً، بعد الثالث من تموز (يوليو) العام 2013، على إثر عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، مع شعور تركيا بتلاشي آمالها وتهديد مصالحها في مصر، وهو ما تحوّل مباشرة الى موقف حازم، رافض لعزل الرئيس الإخواني، مع عدم اعتراف بشرعية العملية السياسية التي تلته، وتصريحات متكررة للرئيس أردوغان، تعتبر ما وقع "انقلاباً"، وتندد بتدهور مستوى الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، بعد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
كان يتأكد مع مرور الأيام ضعف تأثير "ورقة الإخوان" وعدم جدوى الرهان عليها، وبدأت تظهر كعامل ضعف
ولم يقف الموقف التركي من النظام الجديد عند التصريحات وعدم الاعتراف، وإنما تجاوز ذلك إلى استقبال واحتضان المعارضة المصرية الإسلامية، وبشكل خاص قيادات جماعة الإخوان المسلمين، بما في ذلك وزراء فى حكومة مرسي وسياسيين وأعضاء مجلس الشعب ومستشارين سابقين في الدولة، إضافة إلى الآلاف من الشباب الناشطين والإعلاميين. وكان من بين من استقبلتهم تركيا متهمون بقيادة "اللجان النوعية المسلحة لجماعة الإخوان"، كعلاء السماحي، ويحيى موسى، إلى جانب مؤسسي تنظيم "حسم" المتورط فىيتنفيذ عدد من العمليات الإرهابية في مصر، فسمحت لهم أنقرة بالتحرك بحرية والمشاركة في دعم وقيادة التنظيمات الناشطة في مصر. ومن بين أبرز قيادات الجماعة الذين احتضنتهم تركيا بعد 2013: محمود عزت، وصلاح عبد المقصود، ومحمد كمال، وعصام الحداد، وجمال حشمت.
اقرأ أيضاً: هل تتخلى تركيا عن الإخوان مستقبلاً بعد ترحيل عبد الحفيظ؟
وأكثر من ذلك، احتضنت تركيا منصّات إعلامية عديدة للجماعة، كقنوات: رابعة، والشرق، ومصر الآن، وأحرار 25، والشرعية، ومكملين. إضافة إلى عدد من المواقع والصحف الإلكترونية. وقد ركّزت هذه المنصّات عند انطلاقها على نقل تظاهرات "عودة الشرعية" التي كانت تنظّمها الجماعة في مصر. ثم توسّعت وباتت منبراً للتعبير عن مواقف الجماعة، والمعارضة والهجوم المتواصل على نظام الحكم المصري. وبرز من الأسماء الناشطة في هذا الشأن أسماء كـ: معتز مطر، وصابر مشهور، والشيخ المثير للجدل وجدي غنيم.
رأت أنقرة في هذا النشاط والتواجد الإسلامي على أرضها ورقة للضغط على القاهرة، وراهنت عليها في انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب في إطار صراعها معها. ولكن كل ذلك لم يؤد إلاّ إلى توتير العلاقات وتأزيمها مع القاهرة، والتي رأت في سياسة أنقرة عداء صريحاً.
القاهرة تنقل الصراع إلى مستويات جديدة
بدأ تدهور العلاقات بين تركيا ومصر يأخذ منحىً جديداً في شباط (فبراير) عام 2015، حين شاركت طائرات سلاح الجو المصري في توجيه ضربات ضد أهداف تابعة لتنظيم "داعش" درنة بليبيا. وفي حين دعمت الحكومة الليبية المعترف بها دولياً الخطوة المصرية، عارضتها فصائل "المؤتمر الوطني العام الجديد" - المهيمن عليه من قبل حزب "العدالة والبناء" الإسلامي - والتي استولت على طرابلس، ووفرت لها تركيا الدعم الدبلوماسي من خلال رفضها الاعتراف بالحكومة الليبية الرسمية. وهكذا بدا التناقض بين مصر وتركيا يتصاعد في ساحة جديدة، وهي ساحة الحرب الأهلية الليبية.
اقرأ أيضاً: ترحيل تركيا إخوانياً إلى مصر: خطأ إداري أم قرار سياسي؟
وفي العام ذاته، أعلنت شركة "إني" الإيطالية عن اكتشاف حقل الغاز "ظهر" قبالة الشواطئ المصرية، وأعلنت مصر على الفور عزمها على البدء باستثماره، وهو ما سبب قلقاً وإزعاجاً كبيراً للأتراك الذين كانوا قد خططوا لاحتكار عمليات تصدير الغاز من شرق المتوسط.
وفي الربع الأخير من العام، جاء التدخل الروسي في سوريا، والذي كان الأتراك قد اتجهوا لمعارضته في المرحلة الأولى منه، في حين كان التقارب والتنسيق المصري الروسي في ازدياد، في عدد من القضايا المشتركة، ومنها الصراعان: السوري والليبي. وهو ما تعزز مع الكشف في نيسان (أبريل) عن مشاركة نحو 200 خبير ومستشار عسكري مصري في دعم الجيش السوري.
اقرأ أيضاً: تركيا وفقدان البوصلة
واستمرت مصر بالتصعيد، ولجأت لاستخدام أوراق جديدة، وفي عام 2017، كشفت صحيفة "حريّات" التركية عن لقاء مسؤولين مصريين بممثلين عن حزب العمال الكردي، العدو الصريح بالنسبة للأتراك. كما اتجهت السياسية المصرية إلى تعزيز التقارب مع غرماء آخرين: قبرص، واليونان، وهو ما ضاعف من الضغط على أنقرة في البحر المتوسط، وخصوصاً في القضايا المرتبطة بحقوق الغاز، وفي عام 2018 توّج هذا التقارب مع إجراء مناورات عسكرية بحرية مشتركة مصرية-قبرصية-يونانية.
وقد بلغت الأمور ذروتها مع الإعلان في الخامس عشر من كانون الثاني (يناير) الماضي، في القاهرة، عن تأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط"، والمؤلف من سبع دول، شملت قبرص واليونان، وتم استثناء تركيا منه.
ضعف ورقة الإخوان والعودة التدريجية
في المقابل، كان يتأكد مع مرور الأيام ضعف تأثير "ورقة الإخوان" وعدم جدوى الرهان عليها، وبدأت تظهر كعامل ضعف، خصوصاً بعد التحركّات المصرية السياسية، ومع وجود المصالح التركية الاقتصادية الكبيرة في مصر.
اقرأ أيضاً: حالة من الرعب يعيشها الإخوان في تركيا
بدأت العودة من بوابة الاقتصاد، ففي عام 2016 بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا نحو 4 مليارات و176 مليون دولار، وفقاً لبيانات وزارة التجارة والصناعة المصرية. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2017، زار وفد من رجال الأعمال المصريين، مدينتي قونيا وإسطنبول، للمشاركة في مؤتمر اقتصادي بهدف تشجيع الشراكة بين الشركات التركية والمصرية. وفي ذات الشهر، كان لافتاً تفرّد تركيا بإعلان حداد وطني بعموم البلاد، تضامناً مع ضحايا هجوم مسجد الروضة الإرهابي في سيناء، ما اعتبر كبادرة لتحسن العلاقات على المستوى السياسي.
اقرأ أيضاً: هل تلغي مصر اتفاقيات أبرمت مع تركيا خلال حكم الإخوان؟
وفي الشهر التالي، كانون الثاني (ديسمبر)، فاجأ وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الرأي العام بتصريح لجريدة "أخبار اليوم" قال فيه: "لا شك أن هناك الكثير الذي يربط الشعب المصري مع نظيره التركي، فهناك صلات قوية وتمازج ومصاهرة وتراث مشترك، ونأمل أن تعود العلاقة فمصر دائما منفتحة". وفي ذات الشهر أيضاً، نسقت أنقرة واسطنبول التعاون في الأمم المتحدة لمعارضة قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإصدار قرار مندد.
وفي شباط (فبراير) 2018، شارك وفد تركي ترأّسه ممثل البرلمان التركي وعضو حزب العدالة والتنمية الحاكم، علي أركوسكون، في اجتماعات الجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط، بالعاصمة المصرية القاهرة، وقد أدلى حينها بتصريحات إيجابية بخصوص العلاقات بين البلدين، ومنها قوله: "إن نواب البرلمان في كل من مصر، وتركيا، عليهم إذابة الجليد بين القاهرة وأنقرة".
وتأتي هذه التحوّلات في الموقف التركي في سياق تحول السياسات الخارجية لأنقرة منذ تولي بن علي يلدرم رئاسة الوزراء عام 2016 خلفاً لداوود أوغلو. وخصوصاً بعد محاولة الانقلاب في تموز (يوليو) من ذلك العام. وما تبع ذلك من تحسين للعلاقات التركية مع إيران، وروسيا. وانحسار الخطاب التوسعي التركي، مع نهاية الرهان على "الربيع العربي"، ولصالح عودة الحسابات والتوازنات. وهو ما تعزز مع التوصل إلى تسويات سياسية في سوريا، وتزايد الخلاف مع واشنطن بخصوص المسألة الكردية. وإزاء كل هذه التحولات لا يبدو من الصعب تفهّم عدول أنقرة عن رهان التحالف مع الإخوان كسبيل للضغط على مصر.