استضاف برنامج "الاتجاه المعاكس" في بداية انطلاق قناة الجزيرة العام 1996 مناظرة مشهورة بين نصر أبو زيد ومحمد عمارة الذي حاول خلالها موضعة اجتهاد أبو زيد ضمن إطار الحملة الغربية على الإسلام الذي اصطفته عدواً خليفة للشيوعية، مؤكداً أنّ هذا الموقف من الإسلام اتُخذ باعتبار الأخير "صيغة ليقظة أمة ستحرم الأسد الغربي من أكبر لقمة في فمه"، وكي لا يظهر عمارة بمظهر من يتهم خصمه بـ"العمالة" ألمح بمواربة إلى أنّ أبو زيد متورط في تلك المؤامرة "بحسن نية"!
اقرأ أيضاً: نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً
كان عمارة محقاً في إشارته إلى هذه الحملة على الإسلام، لكنّه في الوقت نفسه تعمد تجاهل الحملة النقيضة التي رعتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في دعم وإنعاش النزعة الدينية في العالم الإسلامي ضمن سياق الحرب الباردة؛ حيث كان الدين أحد الأدوات الأساسية التي استخدمتها الدولتان في صراعهما ضد المعسكر الاشتراكي، وبواسطتها حاولتا حرمان الاتحاد السوفييتي من مدّ نفوذه الأيديولوجي إلى البلدان ذات الأغلبية الإسلامية، هذا التجاهل هو ميراث الأصوليين الجدد الذين يريدون وضع "الصحوة الإسلامية" فوق اعتبارات السياسة، ورفعها إلى مرتبة المقدس المحظور نقده؛ لذا ستكون العودة إلى مناظرة الكاتب الإسلامي، محمد عمارة، مع الباحث التراثي، نصر حامد أبو زيد، مفيدة في فهم آليات اشتغال الذهنية الأصولية بما يشمل مصادراتها على رأي الآخر وفخاخها المزروعة حتماً لحمياتها من النقد والتفكيك.
فخاخ معتدلة تؤدي للقتل
أراد عمارة من آليته هذه أمراً غاية في الخطورة؛ هو مصادرة فكر نصر أبو زيد كله، دون تكلف عناء الردّ عليه ومناظرته، عبر "التخوين"؛ كتكتيك موروث معروف، لكنّه أصبح أكثر خطورة، في ظلّ تنامي الصحوة الإسلامية التي طبعت المجتمع بطابعها آنذاك، ومارست هيمنة صارمة على كل مظاهر الحياة اليومية.
وقد أتبعها عمارة بحيلة أخرى أكثر ضراوة؛ هي حفره لأبو زيد "حفرة تكفيرية" كي ينزل بنفسه إليها بعد التضييق عليه؛ إذ عرض على أبو زيد "أماناً" وهمياً، بقوله: "لا أؤمن فقط بحرية الفكر؛ بل أؤمن أيضاً بحرية الكفر"، ومضمر خطابه أنّ بإمكان أبو زيد أن يعلن كفره، وهو سيؤمنه على حياته بفتوى تنقذه من مصير فرج فوده، أراد عمارة ألا يصبح مناظراً لأبو زيد من الأساس بل قاضياً ومفتياً، وهذا هو الفخّ الذي ينصبه الأصولي لمن يعارضه.
لم يكتفِ عمارة بالفخين المنصوبين لنصر؛ بل مهّد لهما بمنزلق مناسب يفضي إليهما، فأشار عليه قائلاً: "إذا أردت أن تجتهد فعليك أن تجتهد من خلال منظومة (الإسلام) من داخل نسق، لو من خارج النسق قل لي، وعلى العين والرأس! لكن أتعامل معك على أنك تفكر من خارج النسق، ولست ملزماً بهذه الثوابت، إنما إذا قلت إنني مسلم وأجتهد من خلال الثوابت فلا يمكن أن تجتاح كلّ هذه الثوابت ثم تسمي هذا اجتهاداً إسلامياً!".
تخلى عمارة عن الطريقة الموروثة في التكفير ولجأ إلى طريقة التيارات السياسية في إقصاء الخارجين على النصّ
مصدر الإيهام الذي فعله عمارة هنا، والذي انطلى على نصر أبو زيد، الذي حاول إثبات أن الثوابت ليست ثوابت؛ بل ثمرة لتدخلات سياسية معقدة عبر التاريخ الإسلامي، يأتي من خلال خلط عمارة بين "النسق الثقافي (الإسلام كتقليد خطابي تاريخي) والمنهج العلمي الذي أراد له أن يعبر عن العقيدة، فمن لم يجتهد عبر المفاهيم والآليات المورثة أو المنهج الموروث فهو بذلك يفكر من خارج النسق أي العقيدة!
لم يكن عمارة موفقاً في إيهامه، لكنّ موقعه في المناظرة كسلطة لها صلاحية إصدار حكم بالكفر أو بالإيمان هو ما أظهره كذلك، وهو لا يفعل أكثر من التوحيد بين موضوع البحث ومنهجه، فيفترض أنه لا يمكن النظر في التراث الإسلامي بمنهج "مستورد"، وإلا كانت علاقته بالتراث علاقة خارجية مُقحمة كما هو الحال مع الاستشراق.
التفكير في التراث بالتراث وبمفاهيمه اتجاه سائد في العالم الإسلامي كله، وله السلطة العليا في مقاربة التراث في مصر عبر الأزهر، وتترتب على هذا المنهج مشكلة فكرية مستعصية على الحلّ؛ وهي أنّه لا ينتج معرفة بالتراث؛ بل يسمح فقط بإعادة ما قاله السلف وشرحه، لكن الجديد الذي أتى به عمارة هو أنّه ساوى بين عدم اعتماد المنهج الموروث وبين الخروج من العقيدة.
اقرأ أيضاً: "الدين والاشتراكية".. هل يمكن تحرير التراث من صراعات الأيدولوجيا؟
كان هذا تطويراً مبهراً من طرف مفكر إسلامي يوصف بالاعتدال، ويحاول بكل الوسائل تكييف تهمة الكفر على جسد باحث في التراث، تلقّى لتوه حكماً بالتفريق بينه وبين زوجته بحجة "الردة" من محاكم الدولة، وتنتظره رصاصة تنتظر بدورها إشارة إسلامية موثوقة ومعتدلة!
التكفير الدائري
رفض عمارة المسارعة إلى تكفير نصر أبو زيد، واستشهد بمقولة أبي حامد الغزالي: "لا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة"؛ بل أراد تحطيم كلّ ما يستند إليه إيمان أبو زيد من شواهد؛ واستعان بطرائق الانتساب إلى التيارات السياسية، يقول: "أنت إذا كنت ماركسياً، وقلت أنا ماركسي، لا يمكن أن يصدقك أحد إذا كنت تنكر الملكية الجماعية والصراع الطبقي والمادي، إذا كنت ليبرالياً وأعلنت بأعلى صوتك أنّك ليبرالي لا يمكن أن يصدقك أحد إذا كنت تنكر الحرية الفردية والحرية الاقتصادية، وما كتبه د. نصر نقض العقائد الأساسية للإسلام والثوابت الأساسية للإسلام، ومن هنا عندما يعلن أنه مسلم لا يجوز لنا أن نشكك في هذا، لكن على الأقل نقول له إنّ هذا الإعلان يتناقض مع ما في كتاباتك من نقض لهذه الثوابت الإسلامية".
بذلك تخلى عمارة عن الطريقة الموروثة في "التكفير"، والتي تتفرع إلى اتجاهين: اتجاه متسامح يرفض تكفير كلّ من ينطق بالشهادة، وآخر أقل تسامحاً يكفّر كلّ من ينكر معلوماً بالدين بالضرورة، ولجأ إلى الأساليب الحديثة في التكفير على طريقة التيارات السياسية في إقصاء الخارجين على النصّ من داخلها. كانت الشعبوية اليسارية التي تعتمد على إستراتيجية تكفير الخارجين على خط القيادة المركزية، والتي طالما تغذّى بها عمارة، مفيدة هنا في تدعيم مساعيه في تكفير نصر أبو زيد.
تجاهل عمارة الحملة التي رعاها الغرب بدعم وإنعاش النزعة الدينية في العالم الإسلامي ضمن سياق الحرب الباردة
في المناظرة وجد أبو زيد نفسه وحيداً والأعداء يحيطون به من كل مكان، فالمشاركون عبر الهاتف إما يطالبونه بالتوبة أو بإعلان الشهادة، أو يؤكدون على تفكيره براحة ضمير، والإعلامي الذي حكّم بين المتناظرين لم يكن محايداً بحال، بل ساير الفكر الأصولي، ويدل على ذلك صياغته المتصيّدة لأول سؤال له: "هل هناك خطوط حمراء تقيد الباحث في الدين وعلومه أم أن الباحث يستطيع أن يشرّق ويغرّب دون قيود؟" وهو سؤال لا يوحي بحرية الفكر بل بانفلاته، وكان أبو زيد واعياً بذلك، ورفض جملة "الخطوط الحمراء"، ولم يتوقف الإعلامي عند ذلك الحدّ؛ بل شارك بنفسه في المناظرة من ضفة عمارة وأحضر مقتطفات مقتطعة من أطروحات نصر أبو زيد وحاكمه عليها!
بعد قرابة ربع قرن على المناظرة، سيكون من المفيد العودة بالنظر إلى ممارسات "الصحوة الإسلامية" التي عبّرت عن نمط متكامل من السياسات لإنتاج "مسلم" متمحور حول هويته، محصّن ضدّ كلّ الفلسفات الحديثة وطرائق التفكير النقدية وأنماط العيش التي لا تلتزم بتبعات الهوية وأخلاقيات الفضيلة ومقتضيات الإيمان، وكل ما يخلو من المفردات الدينية، ما يظهر من مداخلات المشاركين.
أخطأ نصر أبو زيد خطأ فادحاً، لكنّه كان معذوراً بعزلته في المناظرة بكونه مُهدداً في أمنه واستقرار أسرته وحياته بأكملها، حين عدّ جوهر الأزمة يتعلق بالأكاديمية وعدم معاملته وفقاً لتقاليدها في تحكيم الأبحاث العلمية، خصوصاً أنّه بعد أن خرج الأمر من أروقة الجامعة إلى الساحة الثقافية والسياسية والقضائية، لم يكن من الممكن إعادته إليها، ولم يعد هناك فارق بين كتاب أكاديمي ككتابه "مفهوم النص"، وأيّ كتاب يُنتج خارج الجامعة.
اقرأ أيضاً: إذا كان التطرف ينام بين جنبات التراث فمن يوقظه؟!
وحتى حين قارب أبو زيد الأزمة باعتبارها أزمة سياسية لم يتعامل معها على هذا الأساس؛ بل اكتفى بتوصيفها، على اعتبارها مرتبطة بالاستقطاب الحاد الدائر في مصر بين الإسلاميين والعلمانيين، وأنه بمجرد دفاع العلمانيين عنه تم اعتباره منتمياً لمعسكرهم، اختار أبو زيد أن ينفض يده من المعركة بدلاً من الاشتباك السياسي مع التيار الذي كان يعّد لتصفيته.