تحولات عديدة شهدتها حرب الجليد بين روسيا وأوكرانيا في الأشهر الأخيرة، حيث نفذت القوات الأوكرانية هجوماً مباغتاً في 6 آب (أغسطس) الفائت على منطقة كورسك الروسية، ونجحت في التوغل واجتياح الدفاعات الروسية الضعيفة، واستولت على مدينة سودزا وأراضٍ أخرى داخل روسيا.
ومنذ أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بدأ الهجوم الروسي المضاد، بمساندة لافتة من قوات كورية شمالية، حيث استعادت القوات الروسية السيطرة على مساحة كبيرة من الأراضي في الأسابيع الأخيرة.
وأفادت تقارير غربية أنّ القوات الأوكرانية التي تقاتل في منطقة كورسك، تقدمت على الحافة الشمالية الغربية عند جبهة شمال مدينة نوفويفانوفكا يوم الجمعة الفائت، حسبما قال معهد دراسة الحرب في أحدث تقرير له.
من جهتها، قالت مصادر روسية: إنّ القتال مستمر في جنوب شرقي كورينيفو وشمال سودجا. وقالت وزارة الدفاع الروسية إنّ قواتها صدت هجوماً أوكرانياً في منطقة غلوشكوفسكي غربي النقطة الرئيسية.
يأتي ذلك في الوقت الذي قال فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال قمة المجموعة السياسية الأوروبية: إنّ (11) ألف جندي كوري شمالي يشاركون في القتال في المنطقة ويتكبدون خسائر، دون أن يحدد حجمها، بحسب (نيوزويك).
وبدوره، ردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، مؤكداً أنّ القوات الأوكرانية هي التي تكبدت خسائر هائلة في كورسك، تجاوزت أكثر من (30) ألف جندي، وأنّهم تلقوا تعليمات من حلفائهم "بالصمود بأيّ ثمن"، حتى تنتهي الانتخابات الأمريكية.
تداعيات عودة ترامب إلى البيت الأبيض
أثار فوز دونالد ترامب تساؤلات عديدة حول ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى الدعم الأمريكي لكييف، نظراً لانتقاداته استمرار المساعدات العسكرية، وإصراره على أنّه قادر على التوصل إلى اتفاق سريع لإنهاء القتال.
صحيفة (فيرستكا) الروسية نقلت عن مصادر في الكرملين، لم تسمّها، قولها: إنّ روسيا مستعدة لإجراء محادثات على الأقل بشأن تجميد الصراع، لكنّ هذه المحادثات لن تبدأ إلا بعد طرد القوات الأوكرانية من روسيا.
وبحسب تقارير غربية ميدانية أحرزت القوات الروسية تقدماً في منطقة كورسك الروسية، في الوقت الذي يتطلع فيه فلاديمير بوتن إلى استعادة الأراضي التي فقدتها بلاده لصالح أوكرانيا، قبل تولي الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب منصبه.
وقد أثار فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية قلق كييف وحلفائها، حيث وعد ترامب بإنهاء الحرب خلال يوم واحد، بعد أن انتقد مراراً وتكراراً استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لكييف.
وربما تسعى موسكو إلى تكثيف الضغط على القوات الأوكرانية في كورسك، للتفاوض مع إدارة ترامب من منطق القوة. وهو ما تؤكده التقارير العسكرية الأوكرانية، فبعد (3) أشهر من توغل كييف المفاجئ في منطقة كورسك الروسية، قال القائد العسكري الأعلى في أوكرانيا الجنرال أوليكساندر سيرسكي: إنّ موسكو أرسلت عشرات الآلاف من الجنود، ومن بينهم قوات كورية شمالية، لطرد القوات الأوكرانية.
بدورها، نقلت صحيفة (التلغراف) البريطانية عن تقييم استخباراتي دفاعي بريطاني قوله: إنّ موسكو من المرجح أن تزيد من هجمات الطائرات بدون طيار الانتحارية على المواقع الأوكرانية باستخدام مواقع إطلاق جديدة.
وتواجه القوات الأوكرانية في منطقة كورسك الروسية هجوماً وشيكاً من جانب موسكو بمشاركة قوة تضم عشرات الآلاف من المقاتلين، حسبما أفادت التقارير الاستخباراتية الغربية.
وذكرت (التلغراف) أنّ موسكو قد تستخدم أيضاً في هجومها المضاد على كورسك أسلوب التشتيت؛ بالتوغل في منطقة سومي بشمال شرق أوكرانيا. ومع تنامي المخاوف من تصعيد الحرب، يعتقد حلفاء الناتو أنّ بوتن سيحاول استعادة كل الأراضي التي خسرها لصالح أوكرانيا، قبل تنصيب ترامب في 20 كانون الثاني (يناير) المقبل.
وبحسب التقارير الأمريكية، فإنّ روسيا تجمع حالياً نحو (50) ألف جندي استعداداً لشن هجوم كبير، من بينهم قوات كورية شمالية، حسبما ذكرت صحيفة (نيويورك تايمز)، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين وأوكرانيين لم تسمّهم. وقالت: إنّ تقييماً أمريكياً جديداً خلص إلى أنّ روسيا حشدت القوة دون الحاجة إلى سحب جنودها من شرق أوكرانيا، وهو ما يسمح لموسكو بالضغط على عدة جبهات في وقت واحد، مثل: منطقة دونيتسك الجنوبية، وبالقرب من توريتسك، وتشاسيوف يار، وكوبيانسك.
طلائع الهجوم الروسي المضاد
أكّد معهد دراسة الحرب الأمريكي أنّ القوات الروسية تقدمت بالفعل داخل النقطة الأوكرانية الرئيسية في منطقة كورسك، واستعادت السيطرة على عدة مواقع في شمال سودزا، وتقدمت في شرق دارينو. وأنّ العديد من القذائف الروسية تسقط طيلة الوقت على منطقة كورسك التي تواجه كثافة من الضربات تصل إلى (3) أضعاف تلك الموجودة في الأراضي الأوكرانية.
القوات الروسية كثفت عملياتها الهجومية باستخدام ناقلات الجنود المدرعة، ومركبات المشاة القتالية والدبابات. ويقال إنّ عناصر من لواء المشاة البحري الروسي (810) من أسطول البحر الأسود، فضلاً عن المنطقة العسكرية الجنوبية، تعمل بشكل مكثف في المنطقة.
من جهة أخرى، حققت القوات الأوكرانية تقدماً طفيفاً في المنطقة، وفقاً لمعهد دراسات الحرب، الذي استشهد بلقطات جغرافية أظهرت مكاسب محدودة في شرق نوفويفانوفكا، الواقعة بالقرب من كورينيفو، وهو ما اعترفت به موسكو.
جوليان روبكي، محلل البيانات في صحيفة (بيلد) الألمانية، قال إنّه على الرغم من أعداد الضحايا الروس، أثناء بدء عمليات الهجوم المضاد على كورسك على مدى الأيام الثلاثة الماضية، فإنّ روسيا تمكنت فقط من استعادة قريتين صغيرتين، هما: بوغريبكي ودارينو.
ملامح التسوية السياسية للصراع
لا تملك الولايات المتحدة في الوقت الراهن سوى تعزيز الدفاعات الأوكرانية بشكل مكثف، ودعم الجيش الأوكراني من أجل الصمود لأطول وقت ممكن في كورسك.
وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أنّ الدعم الأمريكي سيتم تعزيزه قبل تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب، في أوائل العام المقبل.
جدير بالذكر أنّه في وقت مبكر من محادثات السلام، التي بدأت بعد أيام من إطلاق روسيا غزوها الكامل لأوكرانيا في عام 2022، اقترحت موسكو مشروع معاهدة كانت شروطها أحادية الجانب، طالبت فيها باستسلام كييف، وفقاً لمسودة حصلت عليها وحدة التحقيق الروسية في إذاعة (أوروبا الحرة).
قبول الاقتراح يجعل من أوكرانيا دولة محايدة، ذات جيش صغير، لا ترتبط بحلف شمال الأطلسي، وليس أمامها فرصة لاستعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم أو إقليم الدونباس، حيث كان يتعين عليها الاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك بالكامل، بما في ذلك الأجزاء التي كانت ما تزال تحت سيطرة كييف في ذلك الوقت.
ومن المتوقع أنّ تتمسك موسكو بالحد الأقصى من هذه الشروط، وقد تتنازل عن الكثير منها، لكنّها سوف تتمسك بتعهد كييف بعدم الحصول على عضوية حلف شمال الأطلسي، وهو الأمر الذي لا ترغب كييف ولا التحالف الغربي في قبوله. فقد قال حلف شمال الأطلسي مراراً وتكراراً إنّ أوكرانيا سوف تنضم في نهاية المطاف إلى الحلف.
وفيما يتعلق بالانسحاب الروسي من أوكرانيا، حيث يسيطر الروس على مساحات واسعة من (5) مناطق أوكرانية، هي: شبه جزيرة القرم، ودونيتسك، ولوغانسك، وزابوريزهجا، وخيرسون، فإنّه من الممكن أن تشمل التسوية إعادة انتشار القوات الروسية في جميع هذه المناطق، باستثناء شبه جزيرة القرم، على أن تحتفظ أوكرانيا بما تحت يديها من أراضٍ في تلك المناطق، ويتم التفاوض على صفقة تبادلية، لتقليص الوجود الروسي في أوكرانيا، في حال ظلّت القوات الأوكرانية متماسكة في كورسك، ومن الممكن استبدال الوجود العسكري الروسي في الدونباس بمناطق عازلة، مع فرض شروط تضمن حياد أوكرانيا مستقبلاً.