
لبنى الهاشمي
إن كلَّ كلمة وكل فكرة تمثِّل طاقة قوية تتحكَّم في الإنسان، ولكن التجارب تؤكد أننا لن نحصد سوى ما نزرع من أفكار في عقولنا، سواء كانت ذات طبيعة سلبية أو إيجابية، لكي تمتدَّ الفكرة على مدى التاريخ، ولا تظهر قوة الفكرة إلا في مدى التغيير الذي تحدثه، ولا بدَّ أن تكون الفكرة عملية وممكنة التطبيق، لا سيما أن الإيمان بقضية أو الاقتناع بفكرة يعني استعداد صاحبها للتضحية بالغالي والنفيس من أجلها.
إن كل فكرة على مدى التاريخ لها أتباعها ولها أصحابها، وغالباً ما تتوافق تلك الفكرة مع ميولهم، ومع طبيعة نفسياتهم الإصلاحية أو الإجرامية، غالباً تكون الفكرة الخيرة هي تلك المستمدة من عمق التجربة، وتكون هي الفكرة الصائبة، فكما يقال: صاحب الفكرة الجديدة مجرم حتى يُكتب لفكرته النجاح. ففكرة التطرف والغلو والتكفير أخذت من الفرص أكثر مما تستحق، ليثبت بعدئذ أنها سيئة أو غير صالحة للعمل بها، لأن الأفكار الخيرة أو الشريرة لا تنتهي صلاحيتها، بل إنها تتوالد من رحِمها الكثير من الأفكار، ومع ذلك يبقى أخطر الناس هم أولئك الذين يقفون على منتصف العصا بين أنصار الفكرة وأعدائها، ولا يحركون ساكناً!!
قد يموت العظماء بأجسادهم، ولكنهم يحيون بأفكارهم الثاقبة، وقد تنهض الأمم أو تتقوض الحضارات الكبرى، والفيصل في كل هذا هي الفكرة النيرة التي تنهض بها الأمم أو تتقوض الحضارات، ولهذا انتصر التطرُّف، لا لشيء إلا لأن الأفكار الملهمة قد توقفت، أو أن الأفكار الخلاقة لم تلقَ الاهتمام اللازم، أو أن المجتمع عجز عن إيجاد بدائل للأفكار الهدامة تلك التي تزرع حقول الدم والموت، ما خلق تدهوراً في قيمة الأفكار المكتسبة أو المقترحة أو النيرة من أجل التغيير والإصلاح، مما تسبَّب في تأخر نموّ العالم الإسلامي أخلاقياً ومادياً.
ولهذا بتنا نصارع طواحين الهواء، فما كان إلا أن نأخذ من فكرة موروثة في زمن مختلف ومشرب ثقافي مغاير، ونضيف لها من عُقدنا وأمراضنا، ثم ننزلها في واقعنا، وهي أصلاً لم تكن صالحة للتطبيق في زمنها فما ظنكم بوقتنا المعاصر، ما خلَّف جموداً وانغلاقاً فكرياً، فرحنا نبحث عن حلول قضايا ومشكلات الحاضر في الماضي الذي ولى وانقضى، ولم نستطع اختراق مشكلات الحاضر بأفكار تنويرية، فتاوى ابن تيميَّة ومواقفه الدينية المتشدِّدة، مارست كل أنواع الوصاية على العقل الجمعي، وعقمت العقول عن الإتيان بالأفكار النيرة، والأهداف الكبرى، بل حاولت أن تجعل البشر نسخاً مطابقة، بقناعات واحدة، وأفكار موحدة، وهذا ضد الطبيعة وضد نظام الكون.
ولهذا يصبح الحلّ الوحيد دائماً لمحاربة فكرة سيئة هو محاربتها بفكرة أفضل، فنحن إذا أدخلنا في عقلنا فكرة إيجابية، وعرفنا عمقها، وخبرناها، فإننا نستطيع إخراج الفكرة السلبية التي تقابلها.. ولهذا يصبح الحلُّ الوحيد دائماً لمحاربة فكرة سيئة هو محاربتها بفكرة.
وفيما يخصُّ الجماعات الضالة فما نصادفه يومياً من تغلغل بعض أفكارها في عقول بعض شبابنا، سببه في الواقع غياب فاعلية الأفكار الحية، وقصور الأفكار المبدعة والخلاقة، ونتساءل: هل يقلص مقتل الزرقاوي أو بن لادن أو البغدادي من أفكار الجماعة أو يحدُّ من انتشارها، ويأتي بأفكار مضادة تقابلها، في الحقيقة لا أظن. فالأهم من ذلك هو ملاحقة أفكارهم ومعتقداتهم، ودحضها بأفكار تصحِّح أخطاءهم، لأن زعزعة الإيمان بأفكارهم هو الملاذ الآمن للتخلُّص من شرِّ هؤلاء الشرذمة القليلين.
إن مَن لم يصنع أفكاره ومناهجه ستصنعه أفكار الآخرين، ولا يُستبعَد بأن يصنع خصومه أفكاره، أو يفكرون بدلاً منه، بل يكون منساقاً لتنفيذ أفكارهم، ولن ترتقي أفكاره إلى درجة التنوير والاستقلال والتفرُّد، فإن لم يجد المسلم الوسطيُّ الخيارات الفكرية التي تنسجم مع عقيدته وزمنه فإنه ينسحق بمثل الأفكار الضالة الهدامة.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن الأفكار تموت، وأنها إذا ماتت فلن تحيا مرة أخرى، فالأفكار لها فصول ومناخ وظروف مناسبة لكي تحيا، أو لكي تعود كما كانت أو أشد فتكاً، لأن لها أتباعاً يعيدونها من جديد، أولئك الذين وافقت نفسياتهم أو راقت لهم تلك الأفكار.
نحتاج إلى محاربة فكر التطرف والإرهاب والغلو بأفكار مضادة وخلاقة، فإنما تنجح الفكرة الخلاقة إذا قويت القناعات بها، وتوفّرت التضحية فى سبيلها، ووُجد الاستعداد لذلك، وهذا هو الدور المنتظر من المسجد والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام على اختلاف صورها وأشكالها.
موقع "24"