على مدى ما يقارب أربعة أعوام من "عاصفة الحزم" تمّ استنزاف جزء غير يسير من النواة الصلبة للحركة الحوثية، كما اهتزت شريحة لا بأس بها من الجماهير المتحمسة والحاضنة الحركة. لكن خبراء في الشأن اليمني يرون أنّ ثمة عصبيتين لا تزالان تحضّان المشروع الحوثي على الصمود وهما: عصبية المذهب وعصبية السُّلالة. لذلك، كان من تبعات هذه الحرب انتعاش سردية حوثية تعكس ذلك عبر الاحتفال بيوم الشهيد ويوم الصرخة ومعارض الشهداء في صنعاء، حتى وإن كان سياق توليد هذه السردية إنما يتمّ الحديث عنه منذ العام 2004، ولكن ليس بالزخم الحالي، الأمر الذي دفع الحركة، في بعض الأحيان، إلى التوسل بإحياء الصوفية سبيلاً لتعزيز نسج مزيد من الأواصر مع الهاشميين، وتمتين الوشائج العصبية التي تغذي التطلعات الطامحة إلى استلام السلطة والتمكين.
أي مقاربة للتسوية السياسية باليمن تقتضي تعزيز النوازع المدنية المشتركة للمواطن اليمني وتفكيك أي منظومة أو سردية تُؤَبِّدُ الصراع
لكن يبقى أنّ أمام الحوثيين عقبة أساسية تتمثل في اعتراض شرائح واسعة في المجتمع الزيدي في اليمن على حصرية تمثيل الحوثيين لهم وللزيدية، ما يلفت إلى خطأ إقامة علاقة تماهٍ بين الطرفين.
ولا شك في أنّ بيئة الحرب والصراعات الأهلية هي بيئة مثالية لانتعاش، واختراع، هذه الوشائج والعصبيات والسرديات. ويلفت عارفون بالشأن الإيراني النظر إلى أن ما يسمى "لطميات الحرب الإيرانية – العراقية" تُعَدُّ حتى الآن مورداً أساسياً للشحذ والتحشيد المعنوي والمذهبي في إيران.
اقرأ أيضاً: معهد أمريكي: مليشيا إيرانية تنتقل من سوريا إلى اليمن
وقد دأبت مواقع إعلامية يمنية محلية على رصد حالات عدّة من الممانعة والرفض لمساعي الحوثيين "عسكرة" المجال التعليمي، على سبيل المثال، وتحدثت تلك المواقع عن مواصلة مدارس الجمهورية تباعاً مقاومتها الشديدة للمدّ الفكري الإيراني الذي تحاول المليشيا الحوثية إدخاله إلى القطاع التعليمي في اليمن. في هذا السياق، ذكر موقع "سبتمبر نت" أنّ شرارة المقاومة الطلابية انطلقت من ثانوية الكويت بالعاصمة صنعاء قبل أعوام عندما قام الحوثيون في العام 2015 باقتحام المدرسة وطلبوا من الطلاب أداء ما يسمونها "الصرخة"، فردّ عليهم الطلاب بالشعار الوطني "بالروح بالدم نفديك يا يمن". ويبدو أنّ هذه الصورة تتكرر في الكثير من المدارس اليمنية، غير أنّ الإعلام لا يغطي تلك الأحداث، وفق الموقع، أو أنّه لا يصل إليها؛ نظراً للقيود التي ترفضها المليشيا على الإعلام المعارض لسياساتها.
اقرأ أيضاً: القتال على الطعام في اليمن
ولعلّ هذا يفتح الباب لتوسيع مظلة التفكير في أنّ أي مقاربة للتسوية السياسية في اليمن تقتضي، من جملة ما تقتضيه، تعزيز النوازع المدنية المشتركة للمواطن اليمني، وتفكيك أي منظومة مغلقة أو سردية تُؤَبِّدُ الصراع عبر تأبيد سردية "المظلومية" و "مذهبة" الاقتتال، وبالتالي إضعاف الدولة ورموزها المركزية، ومد قوى ما دون الدولة بالحياة عبر التغلغل في المؤسسات الرسمية واختراقها، وصولاً إلى التغول على الدولة وتهميشها والإمعان في إفشالها. وليس ثمة وسيلة أكفأ على هذا التفكيك من تقديم الفاعلين الإقليميين والدوليين والمنظمات الإنسانية المختلفة التعليم والصحة والكهرباء والغذاء والأمل ووعد الإنسان اليمني بغدٍ أفضل.
دأبت مواقع إعلامية يمنية محلية على رصد حالات عدّة من الممانعة والرفض لمساعي الحوثيين "عسكرة" المجال التعليمي
وبالأمس، سمعنا عن توصل وفديْ الحكومة اليمنية الشرعية والجماعة الحوثية المجتمعان حالياً في العاصمة الأردنية، عمّان، برعاية الأمم المتحدة إلى اتفاق لتبادل جثث القتلى من الجانبين. هذا خبر يدعو إلى التفاؤل، وإن كان مشوباً بالحذر.
وذكرت مصادر حكومية في عمّان أنّ الوفد المفاوض توصل لاتفاق مع الجماعة الحوثية بشأن تبادل الجثث للقتلى يتضمن ثلاث مراحل، ويشمل 2000 جثة من قتلى الطرفين. يأتي ذلك بعدما كان ممثلو الحكومة والجماعة الحوثية بدأوا الأربعاء الماضي النقاشات حول هذا الملف بعد أن انتهت، كما تقول تقارير صحفية، النقاشات حول الأسرى والمعتقلين بتقديم القوائم لتمحيصها وإبداء الردود عليها تمهيداً للاتفاق النهائي.
اقرأ أيضاً: أمريكا والقاعدة: معركة اليمن
وقبل أيام، عبّر وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، عن أمله، في أن يكون "عام 2019 أفضل من 2018 فيما يتعلق بملف اليمن"؛ لأنّ "هناك اتفاقاً على أنّ تطورات استوكهولم تمثل اتفاقاً تاريخياً بين الأطراف اليمنية وتشكل بداية لعملية سلام في اليمن"، متوقعاً، في حوار مع صحيفة "الشرق الأوسط" أن "2019 ستكون سنة انخفاض العنف في اليمن"، بيد أنه نبّه إلى أنّ "الحوثيين انتهكوا وقف العمليات العسكرية زهاء ألف مرة حتى الآن. لكننا لا نزال نأمل في تنفيذ الاتفاق بحذافيره، وفي بدء الانسحاب من الحديدة وتبادل السجناء"، داعياً المجتمع الدولي، وخصوصاً مجلس الأمن، إلى الشروع في هذه الخطوات التنفيذية لأنه "لا يمكن المضيّ في الخطوات التالية إذا لم نكن حازمين في عملية تنفيذ اتفاقية استوكهولم وخاصة فيما يتعلق بالحديدة". وشدد على أنّ دول التحالف "لا تريد شن هجوم على ميناء الحديدة، ولا تريد التصعيد العسكري في اليمن".
اقرأ أيضاً: بومبيو: هذا ما تفعله إيران في العراق واليمن
في المحصلة، فإنّ أي إستراتيجية شاملة للخروج من الانسداد السياسي الحالي في اليمن ينبغي أن تنظر إلى الشق الإيجابي من توصيف القوى اليمنية، باستمرار، بتعدد الولاءات وتَقلُّبها؛ إذ يمكن الاشتغال على ذلك باتجاه التخفيف من "العسكرة" و"تبديل القناعات عبر تبديل الخيارات المتاحة"، والاقتناع بكارثية المعادلات الصِفرية، وإخراج أطراف الصراع من دائرة السلاح إلى دائرة السياسة والمقايضات والتنازلات المؤلمة، ويمكن لأي إستراتيجية وطنية أو إقليمية ودولية طموحة ومتحدية ومتفائلة في هذا الملف أنْ تتأمل بأن يكون عام 2019 بداية اجتراح الحوافز والأدوات والآليات المدروسة لتحقيق تلك المقاربات...وصناعة هذا التفاؤل.