الوليد بن يزيد بين وقائع التاريخ وقداسة الخلفاء الأمويين

الوليد بن يزيد بين وقائع التاريخ وقداسة الخلفاء الأمويين

الوليد بن يزيد بين وقائع التاريخ وقداسة الخلفاء الأمويين


30/10/2018

"أصبح اليوم وليدٌ هائماً بالغانيات ... عنده طاسٌ وإبريقٌ وراحَ بالفلاةِ"، بيت الشعر هذا، يُنسب إلى الخليفة الأموي الحادي عشر؛ الوليد بين يزيد بن عبدالملك (706-744م)، أو الوليد الثاني، الذي حكم عاماً واحداً فقط، لُقب فيه بألقابٍ عديدة، كالفاتك، وأبي العباس، لكن أشهر ألقابه على الإطلاق، كان "خليع بني مروان".

اقرأ أيضاً: التاريخ الإسلامي: قراءة واعية أم انتقائية منحازة؟

وبصفته واحداً من الخلفاء في عصور الإسلام الأولى، فإنّ سيرته الشخصية وأعماله الخاصة، طغت على سيرته السياسية وأسلوب حكمه لبلاد الإسلام في زمنه، كما إنّه رمي بالمجون والزندقة وغيرها من صفات، ولم يتطرق العديد من مؤرخي الإسلام إلى إنجازاته إن وجدت، وتم نفيه خارج الإطار المقدس لسيرة العديد من الخلفاء، وارتباط حكمهم بالدين، رغم أنّ الكثير من الوقائع المؤرخة، تشير إلى أن حكم خلفاء الإسلام كان سياسياً بامتياز.

بنو أمية المضطربون

إذا كانت سيرة الخليفة الوليد مرتبطة بالنساء والخمر وملذات الحياة، فإنّ سيرة من سبقوه من خلفاء بني أمية، تتميز بالعديد من التناقضات والغموض، التي غطّتها الفتوحات والحروب سواء انتصر فيها المسلمون أم لم ينتصروا، فها هو الخليفة المؤسس معاوية ابن أبي سفيان، يلقى في كتاب "تاريخ الخلفاء" لمؤلفه جلال الدين السيوطي، العديد من المواقف التي تؤكد عدم الإجماع عليه دينياً بوصفه "خليفة الله" بعد رسوله الكريم، أو بوصفه حاكماً يحوز من النسب والتاريخ ما يؤهله ليحكم المسلمين.

العديد من حكام بني أمية سعوا سياسياً وشخصياً لتثبيت حكمهم وكشفت العديد من التمردات ضدهم صراعات على السلطة

وفي كتابه، يذكر السيوطي "أن جارية بن قدامة اختلف مع معاوية فقال له: إنّك لم تملكنا قسرة ولم تفتتحنا عنوة، فما بيننا وبينك إلا عهود ومواثيق، فإنّ وفيت لنا وفينا، وإلا فإنّ وراءنا رجالاً شداداً...". ويهدّد قدامة معاوية في حكمه إن هو لم يوفِّ للناس بما تعهد به، كما يذكر السيوطي كذلك اعتراض الناس على نسب معاوية، وعلى قيامه باستخلاف ابنه يزيد، وكيف ردّوا عليه بأنّ ما يفعله ما هو إلا "سنة قيصر وهرقل" وليس من الدين.

وبعد وفاة معاوية، ومجيء ابنه يزيد بن معاوية، الذي بقي في الحكم ثلاثة أعوامٍ فقط، قيل فيه من قبل الحسن البصري، أنّ الناس خرجوا عليه لأنّه "طرق باب المعاصي"، حيث إنّ فترة حكمه شهدت اضطراباتٍ سياسية عديدة من أهمها مقتل الحسين بعد رفضه مبايعة يزيد، أما معاصيه، فيذكرها الواقدي بقوله: "إنّه رجل لا يترك النساء ولا الأمهات حتى، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة".

اهتم معظم خلفاء بني أمية بالحياة وملذاتها متخذين التدين غطاء أمام الناس

وإضافةً إلى ما ينقله السيوطي عن الواقدي والبصري، يؤرّخ شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، أنّ يزيداً حين حاصر مكة وهاجم عبدالله بن الزبير "كاد يحرق الكعبة، حتى أن ستارها اشتعلت فيه النيران".

ولم تكن فترة من تلوا يزيد في الحكم أفضل، فحكم عبدالملك بن مروان، شهد مقتل عبدالله بن الزبير، وبعد أنّ هدم الحجاج بن يوسف الكعبة أعاد بناءها. كما إنّ ابنه، الخليفة الوليد بن عبد الملك، اشتهر "بتأخير مواقيت الصلاة على عادة بني أمية"، وفقاً لما يذكره الذهبي في كتابه ذاته.

اقرأ أيضاً: أشهر 10 شعراء مديح في التاريخ الإسلامي

وبصورةٍ عامة، وباستثناء عمر بن عبد العزيز لم يأت خليفة من بني أمية كان الناس متوافقين عليه، ولا الأشراف وأعيان المسلمين أو من كان من الصحابة حياً؛ ومعظم الخلفاء واجهتهم الحروب الخارجية في فتوحاتهم، والداخلية مع خصومهم، واستخدموا ما تمكّنوا من ولاءات وتحالفات سياسية حتى يبقوا في الحكم، أو تم التآمر عليهم ليُعزلوا أو يُقتلوا، رغم عدم وجود مقياسٍ ديني يمكن من خلاله الحكم على أخلاق الخلفاء، الذين لم يثبت المؤرخون المسلمون أي دليلٍ قويٍ على تدينهم وأخلاقهم، بل غالباً ما يناقض ذلك من خلال سرد الأحداث التي عاشها هؤلاء الخلفاء.

خليفة الله الغائب

مع غياب الدقة في التواريخ والأحداث، وتكرار أفعالٍ وأحداثٍ تخصّ خلفاء بني أمية دون التثبت من دقتها، فإنّ موضوع تدين الخلفاء وحكمهم وفق (شرع الله) يظل محل تساؤل، وعدا عن لقب أمير المؤمنين، وخليفة الله، فإنّ أحوال حياتهم وطرق إدارتهم للبلاد غير متشابهة، مما يشير إلى عدم وجود نظامٍ سياسيٍ واضح وثابت فيما عدا المَلَكية التي ثبّتها معاوية، والبيعة المتعارف عليها.

اقرأ أيضاً: ابن تيمية: شيخ الإسلام المتنازع عليه

ولا يوجد وفق ما ذكر آنفاً، أي شيء يدل على ما يمكن عدّه صفات دينية للخليفة، وجدت أو طبقت على أي منهم، ورغم ما يُقال عن أنّ تاريخ الأمويين مشوّه، لأنّه كُتب في عهد العباسيين، فإنّ الوليد بن يزيد، نال أكثر تشويه ممكن، فهو حكم عاماً واحداً، لم يؤهله لأي أمجادٍ  أو فتوحات.

إلا أنّ ابن كثير قال عنه في كتابه "البداية والنهاية"؛ إنّه زاد أعطيات الشعب عشرات الدنانير، واهتم أيضاً بتوزيع الهدايا على الأطفال والفقراء، وقام برعاية المرضى وأصحاب العاهات، ووكّل لكل واحد منهم خادماً، كما عمل على استصلاح الأراضي الزراعية والعناية بالحيوانات، وكان كريماً لدرجة أنّه كان "لا يُسأل شيئاً قط فيرفض".

حوّل معاوية الخلافة إلى نظام ملكي ولم يكن حكمه مستقراً ولم يحظ بالإجماع الديني على خلافته

لكن السيوطي، ينقل في كتابه "تاريخ الخلفاء"، أنّ الوليد كان "أخرقَ، سخيفاً، مولعٌ بالنساء والخمر، وصرّح بإلحاده... وأنه أراد الذهاب إلى الحج، ليشرب الخمر فوق ظهر الكعبة، مما جعل الناس يحاربونه، إلى أن قتلوه".

أيضاً، يرد  في كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربّه: "عكف الوليد على البطالة وحب القيان والملاهي والشراب ومعاشقة النساء، ولم يقتله الناس إلا لفسقه ومجونه".

اقرأ أيضاً: "المهمشون": المعارضة المنسية في التاريخ الإسلامي

هذه الروايات العديدة، التي تركز على مجون الوليد، وبالكاد تشير إلى كرمه مع الشعب، يمكن تفسيرها من خلال رواية  ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الأمم"، حيث يقول: "لما ظهر من الوليد تهاون بالدين علناً، فطمع فيه عمه هشام، وأراد خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فأبى، فتنكّر له هشام وعمل سرّاً في البيعة لابنه وتمادى الوليد في الشراب فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد، ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا؟".

صورة من قُصير عمرة الأموي تمثل الوليد بن يزيد ولهوه

ويبدو أن هشاماً بن عبدالملك، استخدم خبرته السياسية، التي مفادها أنّ الناس في ذلك العهد، كانوا لا يبالون ببطش الحاكم أو أسلوب حكمه أو أحقيته في الحكم، مقابل أن يظهر أمامهم بمظهر المؤمن التقي.

لم يتخذ الوليد بن يزيد التدين غطاءً لشرعية حكمه مثلما جرت عادة الخلفاء فمات مقتولاً بعد أقل من عام

وحتى أعداء الحاكم ومخالفوه في ذلك العصر، كانوا يبررون تمردهم من خلال إظهار حالةٍ أكبر من التدين، في سبيل شرعيةٍ دينية تمكنهم من تبرير تمردهم، مثلما فعل ابن الزبير حين خرج على بيعة يزيد بن معاوية، مدعياً أنّ الرسول قال فيه حديثاً شريفاً ما، يجعله الأحق في الخلافة، بحسب ما تذكره مصادر السيوطي والذهبي في كتابيهما.

وفي كتاب "خليفة الله"، يرى كل من الباحثين والمؤرخين "باتريسيا كرون" و"مارتن هيندز"، أنّ أي "إجماعٍ للعلماء المسلمين على لقب خليفة" لم يكن ممكناً، في ظل انشغال خلفاء بني أمية في الأمور الدنيوية والسيطرة على السلطة أو تحقيق الرغبات الشخصية، وإن كان تاريخ هؤلاء شُوّه كما يشاع، فإنّ العباسيين في هذه الحال "تم تشويه تاريخهم ممن بعدهم، وكذلك من بعدهم"، وهذا يبدو غير موضوعي ولا منطقي.

اقرأ أيضاً: 10 تناقضات في حياة الخليفة هارون الرشيد

وبخصوص قداسة الخلفاء من حيث تناولهم في التاريخ كأبطالٍ أو فاتحين، أو مقيمين للأمة الإسلامية، يذهب الباحثان إلى ما هو أخطر، قائلين إنّ الدراسات الآثارية والعلمية، "لم تعثر في أي من آثار العصر الأموي أو السفياني على آثار تمجد الرسول الكريم، لا على العملات، ولا على زينة القصور والأماكن التي بناها ملوك بني أمية.. وكأنّ هؤلاء، لم يمنحوا الرسول قدره الكافي من الأهمية في عهدهم، إضافة إلى مقولة معاوية الشهيرة: الأرض لله، وأنا خليفة الله".

عصر الخلفاء عصر سياسة كان التدين فيه أداةً لإثبات الأحقية في الحكم

تكاد معظم معطيات التاريخ تتفق على أنّ العصر المؤسس للخلافة، كان ملكياً، سلطوياً، تتخلله مصالح سياسية وولاءات متنوعة، تذرع معظمها بالتدين، ولو شكلياً، أما الوليد بن يزيد، فلم يتخذ التدين ذريعةً ليستمر في حكمه، فكشف من خلال سيرته ومقتله، معدن معظم خلفاء عصره، ومشاكل التأريخ عند المؤرخين، وعند الأصوليين الحاليين، ممّن يفضّلون التمسك بمبادئ الخلافة التي يتخيلونها طريقاً مقدسة مستقيمة، سوف تقود إلى حكمٍ عادل.

الصفحة الرئيسية