الهوية السلمية لثورة السودانيين تسحر العالم

الهوية السلمية لثورة السودانيين تسحر العالم


15/05/2019

خرجت الثورة السودانية من رحم الآلام،  من حدود قصوى تستوي فيها خيارات العيش بين الحياة والموت. ولهذه الناحية، سيكون من الظلم لهذه الثورة  مقارنة  لحظة اندلاعها بأي لحظة من لحظات ثورات الربيع العربي.

اقرأ أيضاً: إطاحة البشير تعرقل "مسلسل أردوغان" في السودان؟
لقد تعذر على السودانيين، قبيل اندلاع هذه الثورة، مطلق العيش. فحين لا يمكنك أن تسحب من راتبك إلا جزءاً يسيراً جداً بأمر البنك (متوسط الدخل السنوي للفرد في السودان بحسب تقرير الأمم المتحدة للعام الماضي 2631 دولاراً) جزءُ لا يكاد يجزئ احتياجات يومين أو ثلاثة، عطفاً على التدمير الذي طال المزاج العام للسودانيين جرّاء الخطايا التي سممت حياتهم خلال ثلاثين سنة: تم فيها تقسيم الوطن، وإشعال حرب أهلية في دارفور،  وتدمير هياكل البنى  التحتية. ووفق شروط كهذه ستكون الثورة هي العاصم الوحيد من مرحلة الانحلال الأخير والفوضى وتحويل المجتمع إلى عصابات.

احتجاجات السودانيين أحدثت فرقاً هائلاً في اختبار معنى الوطن  الذي اختطفه نظام الإنقاذ العسكري لثلاثين عاماً

هكذا انطلقت الثورة في 19 كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي 2018، وعلى مدى 4 أشهر من الحراك الثوري المستمر والتظاهر تحت راية تجمع المهنيين السودانيين، استطاعت أخيراً في يوم 11 نيسان (أبريل) الماضي؛ الإطاحة بالبشير عبر انقلاب نائبه، ثم الإطاحة بهذا الأخير خلال 24 ساعة تحت ضغط الثوار الذين اعتصموا في مبنى القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بالملايين منذ يوم السادس من الشهر الماضي ليستلم السلطة الفريق أول عبد الفتاح البرهان المفتش العام السابق  للقوات المسلحة.
على خلفية حياة كالتي عاشها السودانيون تحت هجير نظام الإنقاذ لثلاثين عاماً من البؤس، أصبح الشك لدى الثوار ممزوجاً باليقين حيال مطالبهم العادلة، لهذا ظل اعتصامهم مستمراً بمئات الآلاف، وأحياناً بالملايين، أمام مبنى القيادة حتى كتابة هذه السطور.
الثوار، من خلال التزامهم بخط تجمع المهنيين وقوى إعلان الحرية والتغيير كممثل وحيد لتطلعاتهم، أصبحوا أكثر إدراكاً لطبيعة استحقاقات الثورة،  وهو ما جعلهم أكثر تماسكاً بضرورة مواصلة الاعتصام،  وتمسكاً بمضمون وثيقة إعلان الحرية والتغيير التي تضمنت مطالبهم العادلة (وهي وثيقة وقعت عليها أغلب الأحزاب والقوى السياسية الحية، وتبناها تجمع المهنيين.)

اقرأ أيضاً: التداعيات الإقليمية لسقوط الإسلام السياسي في السودان
الهوية السلمية لثورة السودانيين لقيت أصداءً واسعة الانتشار في الصحافة الغربية، ولاسيما الصحافة البريطانية والأمريكية، وبدا معسكر الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم (حيث يعتصم مئات الالاف منذ السادس من نيسان "أبريل" 2019)،  مزاراً لبعض الدبلوماسيين الأوروبيين والسفراء والهيئات ومراسلي الصحف العالمية والعربية وقنوات التلفزة. ونشطت بعض الهيئات والشخصيات السياسية في التعبير عن تضامنها مع السودانيين وإعجابا بثورتهم السلمية، كالقائم بالأعمال البريطاني (الذي رسم علم السودان على خده تضامناً مع الثورة)، والسفيرة الهولندية، كما أقام الاتحاد الأوربي مائدة إفطار رمضاني في ميدان الاعتصام، وكذلك شاركت السفارة السعودية في الخرطوم بتقديم وجبات إفطار رمضاني في ساحة الاعتصام .

اقرأ أيضاً: بعد التظاهرات.. هل يشهد السودان عصياناً مدنياً؟
لقد كان ذلك التفاعل الكبير مع الثورة السودانية؛ من أصداء تأثير الصحافة الغربية وقنوات التلفزة العالمية إلى جانب القنوات الفضائية العربية،  لاسيما  من خلال النماذج ملهمة في ثورة السودانيين، مثل الشابة السودانية "آلاء صلاح" التي بدا قوامها المهيب، وهي تنشد هتافات الحرية، شبيهاً في بعض حركاته بقوام "تمثال الحرية"!
أما الإعلام العربي، ولاسيما قنواته الشهيرة ؛ فقد ظل  يسجل تغطيات خجولة ليوميات الثورة منذ اندلاعها في يوم 19 كانون الثاني (ديسمبر) 2018م. ولم يتحرك ذلك الإعلام إلا بعد أن أصبح للثورة السودانية أصداء في الصحافة الغربية.

اقرأ أيضاً: أي مستقبل لإسلاميي السودان؟
أحد منظري الربيع العربي، ظل اهتمامه بالجزائر، التي تزامن حراكها الاحتجاجي مع الثورة السودانية، غالباً في برنامج تلفزيوني؛ إذ خصص 10 دقائق للسودان، في الوقت الذي كان فيه أكثر من مليوني سوداني يتظاهرون في  شوارع الخرطوم! وبدا هذا الرجل كما لو أنه  يتخفف من تركيز  وعيه العروبي في المسألة السودانية (العروبة الثقافية يستوي السودان في صيرورتها التاريخية مع بقية الدول العربية) ظل ينطق اسم الجزائر وهو يقصد السودان، أكثر من مرة، فيما لم يصححه المذيع حتى! وسنكون أكثر احساناً بالظن إذا قدَّرنا، أن ما حمله على ذلك؛ أجندة اصطفاف سياسي لدويلة خليجية؛ تجنباً للوقوع في قول ما لا يجب أن يقال بصورة يستحق القول فيها أكثر  مما قيل!

قوى إعلان الحرية والتغيير اليوم هي أكثر قدرة على الاستجابة لتحد أقل خطورة وأمامها أوراق كثيرة للضغط

يحتشد المعتصمون أمام مبنى القيادة العامة بمئات الآلاف تأييداً لمقترحات قوى إعلان الحرية والتغيير،  ومن أجل التسريع بإنفاذها.
لقد أدرك المعتصمون،  ومن ورائهم الشعب السوداني، أنّ الاعتصام أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة هو ملاذهم الحقيقي الذي لم يكن، فقط، خاصية فعالة للتسريع بنتائج الثورة،  بل كان كذلك الآلية الوحيدة لتجديد المطالب في وجه أي سلطة لا تلبي مطالب الثوار.
قوى إعلان الحرية والتغيير، اليوم، هي أكثر قدرة على الاستجابة لتحد أقل خطورة، وأمامها أوراق كثيرة للضغط؛ كالإضراب العام والعصيان المدني، في وجه المجلس العسكري (الذي اعترف بقوى الحرية والتغيير كجهة وحيدة لتمثيل الشعب في المرحلة الانتقالية).
الكرة الآن في ملعب المجلس العسكري الانتقالي لتدبير  إجماع ينقل البلاد من حالة السيولة إلى الاستقرار بالشراكة مع قوى إعلان الحرية والتغيير. فما رشح من الاجتماعات التي عقدت بينهما حتى الآن يبشر  بالاطمئنان إلى توافق حسم 75 في المائة من مواد الخلاف وتبقى القليل.
لقد أبدع الشعب السوداني من خلال فعاليات الاعتصام تعبيرات كثيرة؛ فنية وثقافية وغنائية وخطابية ومسرحية، في لحظة ثورية كان من أهم تجلياتها في نفوس الشباب: شعور جميل بامتلاك الوطن، وهو شعور أحدث فرقاً هائلاً في اختبار معنى الوطن  الذي اختطفه نظام الإنقاذ العسكري لثلاثين عاماً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية