الهزيمة يصنعها أشخاص عاديون يقرأون الأحداث بمسطرة حسابية باردة، وبعقل يتوخّى الحذر والسلامة. بينما الانتصار فلا يقوى على اجتراحه إلا أولئك العباقرة الذين يمثلون روح التاريخ، ويخوضون المغامرة حتى منتهاها في سبيل فكرة الحرية التي لم تكن يوماً إلا مضمّخة بالدماء والضحايا والألم والدموع.
الهزيمة، إذاً، خيارٌ، وليست قدَراً. الشعوب والقادة يذهبون إلى النصر مثلما يقررون الاستسلام ورفع الراية البيضاء. ثمة في لحظة ما روحٌ أعلى من الواقع ترى بعين قلبها ضفاف الحرية البعيدة، فتقرر أنّ السبيل إليها يمر عبر طريق المقاومة، مهما كلف الأمر. وليس في العبارة الأخيرة أي استهتار أو استخفاف بالضحايا أو أرواح البشر، وبعضهم قد يكون ممن لا حول له ولا قوة. لكنها الحرب تأكل الأخضر واليابس في لحظة اندلاعها. ثم تأكل الماضي والمستقبل والحاضر في لحظة الهزيمة. إذاً، الموت أهون من عار الخسارة.
الهزيمة، إذاً، خيارٌ وليست قدَراً. الشعوب والقادة يذهبون إلى النصر مثلما يقررون الاستسلام ورفع الراية البيضاء
انبعثت هذه الأفكار مرة أخرى في وجداني وأنا أشاهد الفيلم المدهش "الساعة الأكثر ظلمة" (Darkest Hour) الذي يتناول السنوات الخمس الأكثر درامية (1940-1945) في حياة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت اجتياح هتلر لأوروبا واحتلاله أغلب دولها. كانت القوات النازية تتقدّم بلا هوادة، فتتساقط البلدان أمامها كأحجار الدومينو.
كان مقدّراً لبريطانيا أن تسقط، لولا أنّ صوتاً عبقريّاً جباراً اندلع في قلب قائد قرأ اللحظة بعين التاريخ، فاستعان بطاقة الأفكار الملهمة، وشعّت في قلبه صور المقاومة والمنتصرين، وفي مقابلها رأى صور المهزومين الذين يتجرعون المهانة والعار. في تلك الساعة الأكثر ظلمة أضاء قراره: المقاومة.
كان تشرشل يدرك بحدسه أنّ السلام مع هتلر عبر وساطة موسوليني، كما كان يقترح أعضاء لجنة الحرب المصغرة في حكومته وحزبه، يعني الاستسلام والمهانة، فظل يناور ويناور لكي يطرد هذا الخيار المأساوي المشين، فنزل إلى الشارع واستقل عربة القطار، وسأل البريطانيين صغاراً وكباراً ومن مختلف عروقهم، إن كانوا يؤيدون الحوار والسلام مع هتلر، فكان ردّهم الموحد الحاسم الصاخب: لا أبداً، لا أبداً. تلك اللحظة التي التحم فيها القائد الاستثنائي مع شعبه كانت قوة دافعة له في المضيّ في خيار المقاومة، ورفض التفاوض مع هتلر الذي قال عنه "لا أكره أحداً سوى هتلر".
ثمة في لحظة ما روحٌ أعلى من الواقع ترى بعين قلبها ضفاف الحرية البعيدة، فتقرر المقاومة
إلى البرلمان توجه تشرشل بعد الشحنة المعنوية العالية من شعبه، ودعم العرش البريطاني له ممثلاً في الملك جورج السادس. وألقى خطابه الشهير المليء بالعناد وقوة الإرادة والرغبة العارمة في النصر، فكانت الكلمات تخترق كل الحصون وتجمع كل المختلفين، وتلهب العزائم الخائرة، وتضعها أمام الحقائق الصلبة العارية: السلام مع هتلر يعني الاستسلام لشروطه، ما يعني المهانة والعار.
ظل تشرشل وفياً لأفكاره الأولى بأنّ الشر الذي يمثله هتلر تلزمه إرادة جبّارة لكبحه، وهذا يحتاج إلى تضحيات، لذا كان صريحاً وواضحاً منذ بداية تسلمه رئاسة الوزراء، وهو يخاطب البرلمان المنقسم في 13 أيار (مايو) 1940:
" هل تسألونني ما هي سياستنا؟ أستطيع أن أقول: إنها خوض الحرب، في البحر، في البر، في الجو، بكل قدرتنا وبكل قوة سيبعث بها الله لنا: سنخوض حرباً ضد طاغية متوحش، لم يسبق له مثيل في ظلاميته، قام بأبشع جرائم الإنسانية. هذه هي سياستنا. أنتم تسألونني ما هو هدفنا؟ أستطيع أن أجيب بكلمة واحدة: إنه النصر، النصر بأي ثمن، النصر في مواجهة الخوف، النصر، على الرغم من أنّ الطريق قد يكون وعراً طويلاً، ولكن بدون النصر، لا وجود لنا".
ظل تشرشل وفياً لأفكاره الأولى بأنّ الشر الذي يمثله هتلر تلزمه إرادة جبّارة لكبحه، وهذا يحتاج إلى تضحيات
إنه القائد الذي يجازف بكل المخاوف، ويتسلح بشجاعة عزّ نظيرها، ويقود شعبه نحو انتصار مؤزّر على سرطان النازية الذي لو لم توقفه إرادة تشرشل وعزيمة شعبه، لكان مصير أوروبا والعالم قد آل إلى زمن طويل من الطغيان والتوحش والعبودية.
أدى شخصية تشرشل في الفيلم الممثل الخلاق "غاري أولدمان". ولعل الأداء الخلاب المدهش لهذا الممثل قد دخل دائرة السحر والخلود، فقد جسد الشخصية بكل عبقرية واحتراف مما أغلق الطريق أمام أي شخص قد يأتي بعده لتجسيد هذه الشخصية الصعبة المثيرة للجدل.
الفيلم، عموماً، تحفة فنية تضاف إلى إبداعات السينما العالمية، وهذا عائد بلا ريب إلى مخرجه الفذ "جو رايت" الذي جعل مدة الفيلم (ساعتين وخمس دقائق) فرجة متوترة تخطف الأنفاس وتلهم العقول. ولا عجب في ذلك، فشخصية مثل تشرشل يليق بها عمل من مستواها يرفعها إلى تخوم السماء، ويرتفع معها فيرتقيان إلى أعلى قمم المجد.
"جو رايت" من حيث لم يقل، فيما أعلم، أراد أن يحتفي بالمقاومة بعد مرور عقود على تلك اللحظة التي حبست أنفاس العالم، وردّت شرور النازية وقطعت وريدها. إنه انبعاث روح الانتصار في أوصال العالم، والإصغاء العميق لنداءات التاريخ، وبث طاقة الانتصار في نفوس الناس، وإحياء الأمل.
فهل نتعلم من درس تشرشل؟!