الهجرة والهوية: وقود اليمين المتطرف في ألمانيا

الهجرة والهوية: وقود اليمين المتطرف في ألمانيا

الهجرة والهوية: وقود اليمين المتطرف في ألمانيا


11/06/2025

في ظل مشهد سياسي معقد يتنامى، كشفت ألمانيا عن أرقام مثيرة للقلق تتعلق بتزايد التطرف اليميني، وسط أجواء مشحونة بخطابات الهوية والمخاوف من موجات الهجرة. وأفاد تقرير سنوي عرضه وزير الداخلية الألماني ألكسندر دوبريندت الثلاثاء، بأن عدد المتطرفين الذين تراقبهم الاستخبارات الداخلية الألمانية ارتفع بشكل ملحوظ خلال عام 2024، على خلفية تنامي الدعم لحزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الشعبوي. ويرجع جزء من هذا الارتفاع إلى تزايد الدعم لحزب “البديل من أجل ألمانيا” الذي تصنفه الاستخبارات كمشتبه في كونه حزبا “يمينيا متطرفا بشكل مؤكد.”

ولم يقتصر التقرير على تسليط الضوء على ارتفاع أعداد المتطرفين فحسب، بل أشار إلى ديناميكية أيديولوجية جديدة بدأت تعيد تشكيل المزاج العام في البلاد، وهو تطور مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحولات ديموغرافية وسياسية أعمق. وتظهر خلف هذه الأرقام حقائق ديموغرافية جوهرية، منها تسارع التغيرات السكانية التي تتمثل في شيخوخة المجتمع وتراجع معدلات الولادة، مقابل تنامي أعداد القادمين من خلفيات ثقافية غير أوروبية.

وفي هذا السياق، يعاني بعض سكان ألمانيا، خاصة في الولايات الشرقية، من شعور متزايد بالغربة داخل وطنهم، وهو شعور يتحول بسرعة إلى وقود يستخدمه خطاب اليمين المتطرف لتعزيز رواياته. ويشير التقرير إلى ارتفاع عدد المتطرفين اليمينيين الخاضعين لمراقبة الاستخبارات الداخلية بنسبة 23 في المئة خلال عام 2024، ليصل إلى 50250 شخصًا، من بينهم 15300 يُعتقد أنهم مستعدون لاستخدام العنف.

ولا يمكن تفسير هذا التزايد بمعزل عن تآكل الثقة في المؤسسات الرسمية والشعور المتنامي بأن الدولة غير قادرة أو غير راغبة في حماية “الهوية الوطنية”، ما يفتح الباب واسعًا أمام انتشار الخطابات المتطرفة. وعلى الصعيد السياسي، لم يعد حزب “البديل من أجل ألمانيا” مجرد ظاهرة انتخابية عابرة، بل أصبح قوة سياسية دائمة ومؤثرة.

وبعد أن احتل الحزب المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية المبكرة في فبراير، وتجاوز عدد أعضائه 50 ألفًا، بات يمثل صوتًا مباشرًا لشريحة متزايدة من المواطنين الساخطين على السياسات التقليدية. لكن هذا الصعود يحمل في طياته مفارقة ألمانية عميقة؛ فالدولة التي قامت بعد الحرب على أساس رفض القومية، تشهد اليوم عودة خطاب الهوية القومية في شكل معاصر.

ويرى الباحثون أن الفراغ التمثيلي الذي خلّفته الأحزاب الكبرى، نتيجة تقاربها السياسي، أتاح لحزب البديل استغلال المخاوف من العولمة والهجرة والانهيار القيمي لملء هذا الفراغ. وتحولت الهجرة بدورها من أزمة إنسانية إلى أداة تعبئة سياسية. فمنذ عام 2015، أصبحت قضية الهجرة نقطة احتكاك مركزية في النقاش العام.

ورغم نجاح العديد من اللاجئين في الاندماج، استغل اليمين المتطرف حوادث فردية لتسويق سردية تدعي أن “الهوية الألمانية” مهددة. ويقول شتيفان رايشرت الباحث في علم الاجتماع السياسي إن “القلق من فقدان الهوية ليس جديداً، لكنه اليوم بات يُستثمر سياسياً بشكل منظم. حزب البديل يحوّل النقاش من كونه نقاشاً حول سياسات هجرة إلى معركة وجودية حول من هو الألماني، ومن يملك الحق في البقاء والتأثير.”

وفي مناطق مثل شرق ألمانيا، حيث ترتفع معدلات البطالة ويستمر النزوح الداخلي، يلتقي الشعور بالتهميش مع ذاكرة ما بعد الشيوعية، ما يغذي ردود فعل عاطفية قوية تجاه “الآخر”، خاصة إذا ما تم تقديمه كسبب مباشر للمعاناة اليومية. وهكذا يتحول النقاش من كونه قضية اقتصادية أو اجتماعية إلى “معركة وجودية” يصبح اللاجئ فيها رمزًا لفقدان السيطرة القومية.

وتوضح الدكتورة نادين القاسم خبيرة الهجرة في المعهد الألماني للدراسات الاجتماعية “ما يقوم به اليمين المتطرف هو توظيف شعور انعدام الأمان لدى المواطن الألماني، خصوصاً في المناطق الشرقية التي تعاني من بطالة وهجرة عكسية للسكان الأصليين. هناك يتم تقديم اللاجئ والمهاجر كسبب مباشر لتدهور الأوضاع، وهو خطاب يلقى قبولاً متزايداً.”

ولا تقتصر هذه التحولات على الخطاب فقط، بل تتعداه إلى بنية الوعي العام. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن عددًا متزايدًا من المواطنين لا يشعرون بالأمان الثقافي، وهو ما يطلق عليه علماء الاجتماع “أزمة الأمن الثقافي” أي الخوف من فقدان الانتماء في عالم سريع التغير.

وفي هذا المناخ، يستثمر حزب “البديل” هذه المخاوف بشكل منهجي، محولاً إياها إلى برنامج تعبوي يركز على إعادة تعريف “من هو الألماني”، وهو أمر محفوف بمخاطر تاريخية، لكنه يلقى صدىً قويًا في ظل عجز الأحزاب الوسطية عن تقديم بدائل مقنعة. والأمر الأكثر إثارة للقلق ليس فقط ارتفاع عدد المتطرفين، بل زيادة استعدادهم لاستخدام العنف. فقد ارتفع عدد الذين يُعتقد في استعدادهم للعنف بمقدار 800 شخص خلال عام واحد، وسط تزايد الحوادث العنصرية ضد اللاجئين.

ويرتبط هذا التصعيد بعاملين رئيسيين: الأول هو تطبيع خطاب الكراهية في الفضاء الرقمي، حيث تنتشر الأفكار العنصرية دون رادع، والثاني هو ما يُسمى بـ”الإرهاق الديمقراطي”، حيث يشعر قطاع من الناس بأن الآليات الديمقراطية بطيئة أو عاجزة عن معالجة ما يرونه تهديدات وجودية، فيتجهون إلى دعم الحلول العنيفة أو السلطوية. وهنا تكمن المفارقة: ألمانيا التي تقدم نفسها كنموذج للتسامح والتعلم من ماضيها النازي، أصبحت اليوم مركزًا لأكبر حركة يمينية متطرفة منظمة في أوروبا الغربية.

وهذه المفارقة ليست مجرد أزمة داخلية، بل تعكس أزمة أعمق في المشروع الليبرالي الأوروبي بأكمله، حيث لم تعد القيم الليبرالية وحدها قادرة على ضمان الولاء الشعبي في مواجهة قوى شعبوية تستثمر في الحنين والخوف والهوية. كما أن صعود اليمين المتطرف في ألمانيا هو جزء من موجة أوروبية مترابطة تغذي بعضها البعض وتتبادل أساليبها وخطابها.

وفي بلد تأسس على أنقاض تجربة استبدادية دموية، يشكل صعود اليمين المتطرف تحديًا أخلاقيًا لا يمكن مواجهته بالأرقام أو الإدانات فقط. ويقول محللون إن المطلوب اليوم ليس مجرد رقابة أمنية أو تفنيدا لخطاب الكراهية، بل إعادة تعريف شاملة لما تعنيه “الألمانية” في القرن الحادي والعشرين، تعريف يشمل الجميع، ويحصن الديمقراطية من أعدائها الداخليين.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية