السيد ولد أباه
توقفنا في الأسبوع الماضي عند إعلان أبوظبي حول الأخوة الإنسانية الذي صدر خلال زيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات معتبرين أنه يشكل نقلةً نوعيةً في مفهوم التسامح الذي هو أحد المفاتيح الأساسية للحداثة في تصورها لإشكالية التنوع العقدي والفكري. ما نريد أن نبينه هو أن مفهوم المواطنة في بعديه القانوني السيادي المتعلق بالدولة، والقيمي الكوني الممتد للدائرة الإنسانية، هو الترجمة السياسية لمفهوم التسامح.
ومن الواضح أنه قد تم اختزال فكرة المواطنة، وإلى حد بعيد، في الدائرة القانونية السيادية، منذ أن رُبطت بنموذج الدولة القومية الحديث الذي اعتُبر الإطار الأوحد لضبط حقوق الإنسان وضمانها، بما يفسر التناقض الأصلي بين المبدأ القومي القائم على فكرة الهوية المغلقة والمبدأ الليبرالي القائم على التصور التعاقدي الحر ضمن منظور القيم الإنسانية الكونية.
لقد أدرك الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا التناقض الأصلي، فبلور مفهوم المواطنة العالمية (الكوسمبوليتانية)، والذي لّخصه في حق الضيافة الكونية، وسعى إلى تقنينه في حدوده الدنيا التي تتلخص في تحويله إلى فكرة ناظمة للعلاقات السلمية الدائمة بين البشر الذين يتقاسمون ملكية الأرض.
ولقد جرت محاولات لإعادة الاعتبار لهذا المفهوم بعد نهاية الحرب الباردة وبروز حركية العولمة، بتحويل مبدأ المواطنة الكونية إلى حقيقة قانونية وسياسية، سواء بالعودة إلى نموذج الإمبراطورية بدلالة جديدة لتدبير حالة السيادة المتقاسمة بديلا عن نموذج الدولة القومية (توني نغري ومايكل هاردت)، أو بتوسيع مجال القانون الدولي ليحتوي ويتجاوز المدونة القانونية الوطنية السيادية في إطار تصور ليبرالي جديد يفك الارتباط بين المواطنة والانتماء القومي (المواطنة الدستورية لدى هابرماس).
ولا شك في أن صعود الشعبويات الجديدة هو في منطقه الأعمق ردة فعل قوية ضد مفهوم المواطنة الكونية من منظور الانتماء القومي، أي بعبارة رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي «احتجاج من له وطن على من لا هوية له».
بيد أن مفهوم المواطنة العالمية، والذي يعود في نسخته الأولى إلى الفيلسوف اليوناني القديم «ديوجين»، وفي نسخته الحديثة إلى كانط، لم يفقد كثافته النظرية والمعيارية، ولا يزال صالحاً بقوة للتفكير في أزمات العالم المعاصر.
وفي هذا السياق، نشير إلى المقاربة التي يقترحها الفيلسوف الأميركي (من أصل غاني بريطاني) «كوامي انطوني ابياه»، قاعدةَ بناءٍ وتصور لمفهوم «الكوسمبوليتانية» في العدد الأخير من مجلة «فورين افيرز» (مارس -ابريل 2019) في إطار نظريته الفلسفية حول «أخلاقيات الهوية».
ما يبيّنه «ابياه» هو أن نموذج المواطنة الذي تطرحه الفكرة الكوسمبوليتانية هو نموذج استعاري يستند لعملية توسع في التخيل الأخلاقي للهوية الإنسانية متعددة الأوجه والدوائر، بحيث لا يمكن اختزالها في الدائرة المحلية أو الوطنية. فإذا كانت النزعة القومية الحديثة التي قامت عليها فكرة الدولة الوطنية تتميز عن الانتماءات القبلية والعرقية بمرجعيتها الإنسانية الكونية، ولو مع ادعاء قدرة الكيانات القومية على تجسيد المطلق الإنساني، فإن النزعة الكوسمبوليتانية ليست سوى التعبير عن تشارك البشر على اختلاف انتماءاتهم من حيث المنظور الأخلاقي الكوني. ومن هنا فإن المواطنة العالمية القائمة على الأخوة الإنسانية ليست بديلا عن المواطنة القانونية والسياسية، بل هي من الاستحقاقات النظرية والإجرائية لفكرة تقاسم النوع الإنساني للأرض ولأطروحة المساواة الأصلية بين البشر حقوقاً وواجبات.
لا يمكن الاستناد على مقولة المواطنة الكونية في التبشير بأسطورة القرية الكونية التي لا حدود فيها، فالحدود كما يقول «رجيس دوبريه» هي جسور الاتصال والتواصل، ولا معنى للضيافة بدون عتبة استقبال، والبديل عنها هو الجدران المغلقة التي تضاعف عددها في السنوات الأخيرة. إلا أن الدولة القومية التقليدية لم تعد قادرة اليوم على ضبط حركية الهجرة والانتقال التي ولَّدت ظواهر سياسية جديدة لا يمكن اختزالها في المفهوم التقليدي للاجئ أو المهاجر طالما أن الأمر يتعلق بقرابة ربع سكان المعمورة حسب تقديرات هيئة الأمم المتحدة. ومن هنا ضرورة بلورة العدة القانونية والسياسية الملائمة لتسيير حركية الانتقال البشري الضامنة في آن واحد لحقوق المواطنة السيادية وحقوق الضيافة الكونية التي هي التعبير عن الأخوة الإنسانية المتضامنة.
الرهان المطروح هنا هو إعادة التفكير في بعد «المشترك» كونه بعداً مختلفاً عن الحقل العمومي الذي هو مجال الدولة القومية الحديثة في تمييزها التقليدي بين العام والخاص الذي هو في حقيقته إلغاء للفصل اليوناني الروماني بين الذاتي في أبعاده البيولوجية والمنزلية، والعمومي بما هو مجال المواطنة وتحويل للذاتي الخاص إلى مادة للفعل السياسي.
المشترك كما نفهمه، هو مجال الإنسانية الرحب ورهان مستقبلي لإدارة العلاقات البشرية في تنوعها الديني والعقدي والقومي من منطلق الأخوة الإنسانية الفاعلة.
عن "الاتحاد" الإماراتية