لماذا زاد الاهتمام المتأخر بالتعليم ومناهجه في الوطن العربي؟ هل هي صحوة مفاجئة ومتأخرة أم إدراك ونضج على مدى سنين؟ وما المقصود بمناهج التعليم؟ وأهدافه؟ ومحتواه؟ ومعاييره؟ ونتاجاته؟
هذه أسئلة تثور تلقائياً لدى كل من يناقش أية قضية تتعلق بالتعليم، ومن المهم أن نعرف عدم وجود اتفاق على إجابات لهذه الأسئلة، أو عدم وجود إجابات محددة لها؛ فالمناهج لها فلسفاتها وعناصرها المحلية والفكرية والحياتية والإنسانية. ولذلك لن أخوض في مقالاتي في هذه الفلسفات؛ بل أقدم تنبيهات وإشارات لما نحتاج إليه في تعليم أبنائنا وأحفادنا.
وسأقدم حديثي بالملاحظات الآتية:
(1) هناك أشكال من المناهج مثل:
- المنهج الرسمي (Official): المقرر كما يتفق عليه المجتمع وتقدمه المؤسسات الرسمية.
- المنهج الإجرائي (Operational): كما ينفذه المعلمون، ويشتمل على جزء من المنهج الرسمي، وأجزاء من مناهج غير رسمية.
تعريف التعلم الحقيقي هو ما يبقى مع الطلبة بعد أن ينسوا الحقائق والمهارات والقيم التي تعلموها في المدرسة
- المنهج الخفي (Hidden): وهو منهج غير معروف يتضمن ما يتعلمه الطلبة من تفاعلاتهم مع بعضهم، أو ما يمرره المعلمون قصداً أو عن غير قصد، وقد تكون خبراتهم مفيدة أو كارثية.
- المنهج الصفري( Null): ويشمل جميع المواد الدراسية التي لا يعترف بها المنهج الرسمي مثل؛ الفلسفة (في عدد من الأقطار العربية) والمنطق والحقوق وعلم الجمال وعلم النفس والفنون ولغة الجسد والرقص وغيرها من مهارات الحياة؛ فالمنهج الرسمي ينحاز فقط للأئمة الأربعة الكبار: اللغة والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية والرياضيات. ولا يعلم أحد سبب استبعاد بقية هذه المواد.
- المنهج الإضافي (Extra): وهو منهج اختياري طوعي يختاره بعض الطلبة وفق ميولهم، وغالباً ما لا يحسب في تقييم الطالب.
وهذان المنهجان؛ الخفي والصفري يمكن تعلمهما في الساحات والمرافق والالعاب والأنشطة والمنزل.
اقرأ أيضاً: مناهج ومقررات مدرسية تقف خلف نزعات الكراهية
ومن المهم أيضاً معرفة أنّ جميع الأنواع الأربعة غير الرسمية تؤثر في المنهج الرسمي، ومن هنا يجب أن نعي كيف تتسرب إلى الطلبة أفكار وممارسات خارج المنهج، هذا إذا كان المنهج الرسمي بريئاً. لكن الشواهد تؤيد أنّ المنهج الرسمي نفسه يعترف بالكثير من القيم التي يجب أن لا يهتم بها.
(2) هناك من يرى أنّ المناهج الخمسة لا تصل إلى الطلبة؛ بل تمر عبر تصفيات أو فلاتر عديدة:
- فما هو مقرر يقوم المعلمون بتوصيل جزء منه فقط.
- وما يقدمه المعلمون يصل جزء منه إلى الطلبة؛ لأن بعضه لا صلة له بحاجاتهم.
- وما يصل إلى الطلبة ينسى كثير منهم كلّه أو بعضه!!
ولكل هذا فإنّ تعريف التعلم الحقيقي هو: ما يبقى مع الطلبة بعد أن ينسوا الحقائق والمهارات والقيم التي تعلموها في المدرسة.
اقرأ أيضاً: صورة التراث في المناهج.. ومواجهة التطرف
(3) تتصف مناهج العالم العربي أيضاً بـ: مناهج بعمق بوصة وبسعة 10كم؛ فالمناهج العربية سلسلة طويلة من مواد دراسية عديدة قد تتجاوز عشر مواد يتم اختيارها، وفق معايير لا صلة لها بالطلبة؛ فأهداف التعليم المعلنة والخفية في الوطن العربي هي:
- المحافظة على التراث من عادات وقيم وتقاليد.
- نقل التراث إلى الأجيال اللاحقة.
- تنظيم عملية "أو إحباط" تغيير التراث أو تجديده أو إغنائه أو تطويره.
ولذلك فإنّ عمليات التعليم في الوطن العربي، وربما العالم، يقودها المحافظون مع تفاوت طبعاً بيننا وبين العالم.
فالمحافظون العرب يسيطرون على جميع مفاصل التعليم، ولذلك اتسمت مدارسنا بالجمود وسيطرة "الممنوعات"، فلا تجد مدرسة عربية رسمية تعلق إعلانات في ساحاتها وجدرانها لا تبدأ بكلمة: ممنوع أن...
إذن! ازدحمت مناهجنا بمواد دراسية ذات صلة بالتراث، واحتل حجم المواد التراثية في منهاج بعض الدول ثلثي المنهاج، وهكذا تعاني مناهجنا من تضخم في المواد؛ فالمواد الدراسية والحياة المدرسية لا تتسمان بالرشاقة، بل بالسمنة التي أصابت طلبتنا بالكولسترول المعرفي، وسائر أمراض الضغط المعرفي.
اقرأ أيضاً: تهم تغذية التطرف والإرهاب .. تلاحق المناهج التعليمية بمصر
(4) جاءت كتبنا المدرسية انعكاساً لما سبق، ثقيلة الوزن، قليلة الفائدة، مليئة بتفاصيل لا يحتاج إليها أحد. وهذا ترديد لمقولة: هزمنا في حزيران لأننا لم ندرس الدين بالحجم المطلوب أو لم ندرس التاريخ أو أهملنا اللغة. فتضخمت الكتب، ولكن الهزيمة لم تمح!
إنّ المنهاج المطلوب أو الحديث، تماشياً مع كل جديد هو منهاج سريع أو أشبه بما يسمى "بالساندويشة التربوية" فكتب الجاحظ والشافعي ونهج البلاغة لم يعد لها مساحة لا مكانية ولا زمانية. و"الساندويشة" تتميز بـ:
- أنّها طازجة وتأتي عندك.
- تتناولها حين تحتاج.
- قليلة الكلفة.
- فيها كل ما تريد، وتستطيع أن تحذف منها أي مكون وتضيف لها أي عنصر.
هذا لا يعني إلغاء المحتويات الدسمة؛ بل قلب معادلة: عمق سم وسعة كم، ليكون الكتاب عمق كم وسعة محدودة، والأقل هو الأكثر.
فالكتاب الجيد، يخلو من زيادة التفاصيل ويركز على العمق من خلال أنشطة التحليل والتفكير والنقد والتأمل؛ فالتعليم الجيد هو حفر بالعمق، وليس سباحة على السطح.
اقرأ أيضاً: كيف تسعى السعودية للتحرر من اختطاف "الإخوان" المناهج الدينية؟
(5) الأهم مما سبق، طريقة التدريس ونوعية التدريس؛ فالمناهج الحالية هي مادة معرفية معقدة، ولذلك نحتاج إلى معلم يشرحها ويبسطها والسؤال هو:
لماذا لا نختصر عملية الشرح؟ ولماذا لا تقدم معرفة واضحة وبلغة للطالب بدلاً من لغة: حيث إنّ، وبما أنّ، ولعلّ، ولاشك، وفي الحقيقة....الخ
إنّ تقديم منهج واضح، قد يلغي كل التدريس التقليدي، أو يستبدل مهمة المدرّس من شرح وتفسير إلى دعم للطالب في عمليات التفكير؛ فإصلاح المناهج يقود بالضرورة إلى تحرير المعلم والطالب من عمليات الحفظ والتذكر، وعلى الجميع أن يسأل: لماذا يتفاعل طفل مع فيديو ويرفض قراءة منهج ما.
(6) مناهجنا العربية مناهج تفكيكية لا بالمعنى التحليلي؛ بل بالمعنى الفوضوي؛ فمواد المنهج هي مواد منفصلة لا علاقات بينها.
مناهجنا بلا رؤية أو أفق. فلماذا نستغرب انتشار الفكر الداعشي وغيره بين كبار الأطباء والمهندسين والمختصين؟
فمادة اللغة تهدف إلى تعليم القراءة والكتابة ولا علاقة لها بالأرقام أو الجمال أو العلوم، ومادة التربية الدينية تهدف إلى تعليم الإيمان والتسليم ولا علاقة لها بالقانون أو المنطق، ومادة الرياضيات تهدف إلى تعليم الرقم ولا علاقة لها بالأخلاق والقيم.
فلكل مادة هدف! علماً بأنّ للمدرسة أهدافاً مشتركة هي إكساب الطلبة مهارات الحياة والتعلم المستمر والتفكير الناقد هذه هي خصائص مناهجنا وهذا ما جعل منها أداة طيّعة لخلق فكر أدائي أو أداتي، يلتزم بما تعلم، ويتخرج للحياة دون رؤية أو أفق. وبعدها لا نستغرب انتشار الفكر الداعشي وغيره بين كبار الأطباء والمهندسين والمختصين، الذين حفظوا دروسهم ولم يروا غيرها.
هذه المقدمة قصدتُ منها أن تكون تمهيداً لمقالات قادمة عن المناهج المدرسية والتطرف والكراهية وهذا التفسخ العجيب في شخصية المواطن العربي.