
تتواتر تقارير إعلامية حول مصالحة مرتقبة بين أنقرة ودمشق، وقد تكلل بلقاء قمة بين الرئيسين "أردوغان والأسد"، ورغم أنّ إعادة العلاقات بين البلدين التي تدهورت منذ عقد من الزمان إثر انحياز أنقرة إلى جانب الثورة السورية، واتهامات دمشق لها برعاية ودعم الإرهاب في سوريا، إلا أنّ الواضح أنّ الطرفين بعد هذه الأعوام بحاجة لهذه المصالحة، ومع ذلك فإنّ إنجازها لن يكون مرتبطاً فقط برغبة الطرفين، كل طرف ضمن حساباته، بل إنّ عوامل دولية وإقليمية، تشمل الفاعلين في الملف السوري، ستكون معياراً أساسياً في إتمام المصالحة، ذلك أنّ الملف السوري برمّته تحول من قضية داخلية إلى إقليمية ودولية، وهو ما يستبعد معه احتمالات إنجاز هذه المصالحة دون توافقات و"صفقات" بين الأطراف الإقليمية والدولية.
لا شك أنّ إنجاز مصالحة بين الطرفين يبدو ضرورة تفرضها العديد من الأزمات التي تواجهها أنقرة ودمشق، وإن كانت أزمات أنقرة أقلّ مقارنة بأزمات سوريا، لكنّ المصالح الاقتصادية بالنسبة إلى الطرفين تبدو معياراً ومرجعية للمصالحة، لا سيّما بعد إنتاج مقاربة "تصفير المشاكل الإقليمية" بالنسبة إلى القيادة التركية، واجتراح مقاربات جديدة، تنسجم مع مواقف عربية وإقليمية لم تعد تتبنّى مطلب "إسقاط النظام في دمشق"، كما أنّ لقاءات رعتها موسكو بين مسؤولين عسكريين وأمنيين من البلدين ساهمت في التأسيس لهذه المصالحة المرتقبة، وإن كانت تلك اللقاءات لم تترجم بإنهاء الخلافات بين الجانبين في عديد من الملفات، وبالتزامن فإنّ سوريا تعاني أوضاعاً اقتصادية وأمنية صعبة، ولها مصلحة في مصالحة مع أنقرة تخفف من حدة أزماتها.
ومع ذلك، تبدو الملفات الخلافية بين الجانبين معقدة وشائكة، لكنّها تتركز في قضايا ناشئة ما بعد عام 2011، وهي الوجود العسكري التركي في سوريا، "من وجهة نظر دمشق هو احتلال تركي لأراضٍ سورية، بالإضافة إلى دعم أنقرة لفصائل جهادية مسلحة تعمل ضد دمشق"، والهاجس الأمني التركي الخاص بـ "الوحدات الكردية المسلحة" يبدو أنّه أبرز القضايا التي يمكن أن تشكل قاسماً مشتركاً بين أنقرة ودمشق، فهذه الوحدات من منظور أنقرة تشكل تهديداً للأمن القومي التركي، وهي بالنسبة إلى دمشق متحالفة مع أمريكا بحجة مكافحة الإرهاب الداعشي، فيما تبدو القضية الثالثة، وهي إعادة اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها، ويبدو أنّ هذه القضية تشكل ضغطاً على أنقرة أكثر من كونها قضية ضاغطة على دمشق، ووفقاً لتصريحات تركية جديدة تمّت إضافة ملف جديد وهو إيجاد حل سياسي للصراع السوري، وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، وهي قضية بالنسبة إلى دمشق تُعدّ تدخلاً في الشؤون الداخلية السورية.
في العلاقات الثنائية فإنّه باستثناء القضية الكردية، ورغم ما فيها من تفاصيل كثيرة، ربما تشكل موضوعاً مشتركاً لإيجاد أرضية للمصالحة، إلا أنّ بقية القضايا ليس من السهولة رسم توقعات بإمكانية "حلحلتها"، بما فيها مطلب انسحاب الجيش التركي من سوريا، ووقف دعم تركيا للفصائل الجهادية، لا سيّما هيئة تحرير الشام التي تسيطر على مساحات واسعة من محافظة إدلب، وهي الورقة الأهم بالنسبة إلى أنقرة التي أصبحت تشترط إجراءات سورية ضد "الأكراد" قبل بحث الموضوعات الأخرى، وهو ما ترفضه دمشق، وتؤكد أنّ أول خطوة للمصالحة هي الانسحاب التركي من الأراضي السورية.
لكن وبافتراض أنّه تم تحقيق تقدم في بعض قضايا الخلاف الثنائية،، فإنّ المؤكد أنّ هذه المصالحة مرتبطة بصورة مباشرة بمواقف قوى إقليمية ودولية فاعلة بالملف السوري، لعل في مقدمتها الموقف الروسي الذي يدفع قُدماً لإنجاز المصالحة، في ظل العلاقات الوثيقة بين الرئيسين "بوتين وأردوغان"، ولا يستبعد أنّ الضغط الروسي مرتبط بتقديرات موسكو بإمكانية فوز الرئيس ترامب في الانتخابات الأمريكية، واحتمالات التوصل إلى صفقة بخصوص سوريا، تتضمن إخراج إيران ووكلائها من سوريا، وهو ما لن يتم إنجازه إلا بتوافق بين القيادتين السورية والتركية، ويشار هنا إلى أنّ الدول العربية الفاعلة ستؤيد مثل هذه الصفقة، لا سيّما أنّ القيادة السورية اتخذت منذ انطلاق حرب غزة مواقف وإجراءات جعلت دمشق على الأقل تبتعد خطوات عن محور الممانعة بقيادة إيران، ومن المرجح أنّ هذا الموقف كان بتوجيهات من القيادة الروسية، تحضيراً لمزيد من قبول أمريكا والعرب للرئيس الأسد.
لكنّ المخطط الروسي المفترض لا شك أنّه يواجه جملة من التحديات؛ في مقدمتها احتمالات نجاح "هاريس" بالانتخابات، وبالتالي استمرار السياسات والمواقف الحالية تجاه القيادة السورية"؛ قرارات إدانة بمجلس الأمن، واستمرار عقوبات قيصر الاقتصادية، ومواصلة فتح ملفات سورية في المحاكم الدولية بمرجعية انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام أسلحة محرمة وإبادات جماعية"، ويشكل الاختراق الإيراني لمستويات قيادية "عسكرية وأمنية" سورية عقبة أخرى أمام روسيا، كما أنّ لموسكو حساباتها الخاصة بالعلاقة مع طهران في ملفات أوكرانيا والدعم العسكري الإيراني للجيش الروسي، ومع ذلك فإنّ هناك شكوكاً عميقة متبادلة بين موسكو وطهران، وهو ما يرجح معه أن تزداد في حال نجاح ترامب وعقد صفقة مع الرئيس بوتين، والتي ستحظى بتأييد واسع من قبل حكومات المنطقة.
وفي الخلاصة؛ فإنّه رغم تعدد سيناريوهات المصالحة بين أنقرة ودمشق، والتي تتراوح بين التشاؤم والتفاؤل بإنجازها قريباً، إلا أنّه من المستبعد إنجازها قبل ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية، ومن المؤكد أنّها ستشهد تسارعاً في حال فوز ترامب، لا سيّما أنّ هذه المصالحة بالأصل مطلب وترتيب روسي، ولحينذاك يرجح أن تتواصل على المستوى الإعلامي خطابات لكلا الطرفين، حول شروط أنقرة ودمشق لإنجاز المصالحة، بما فيها احتمالات لقاء القمة بين الرئيسين "أردوغان والأسد"، وحتى لو تم التوصل مبكراً لتحقيق تقدم في بعض الملفات، فلن يتم الإعلان عنه في المدى المنظور.