المتاعب الأمنية والدبلوماسية لمالي وانعكاساتها على مكافحة الإرهاب

المتاعب الأمنية والدبلوماسية لمالي وانعكاساتها على مكافحة الإرهاب

المتاعب الأمنية والدبلوماسية لمالي وانعكاساتها على مكافحة الإرهاب


22/01/2023

تشهد مالي وضعاً أمنياً متفاقماً جراء تنامي العمليات الإرهابية وامتدادها لتشمل مناطق جديدة من البلاد، في وقت تعيش فيه على وقع ضغوطات دبلوماسية تنذر بإفلاس الخيارات السياسية للسلطات الانتقالية التي ما فتئت تؤكد ـ خلافاً للتطورات الميدانيةـ على نجاح مقاربتها للوضع.

فاستفحال الأوضاع الأمنية في مالي، بالتزامن مع تزايد التوتر الدبلوماسي مع شركائها السابقين، وإعلان غالبية المجموعات المسلحة في شمال البلاد تعليق التزامها باتفاق الجزائر، كلها عوامل تُهدد حملات مكافحة الإرهاب، وتدفع البلاد إلى ولوج مرحلة غير مسبوقة من الفوضى تخاطر بوحدتها وكيانها.

تفاقم الأوضاع الأمنية

تتواتر التقارير من مالي حول تنامي العمليات الإرهابية تحت حكم المجلس العسكري الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري مزدوج قاده العقيد ساديو كامارا؛ الأوّل في 18 آب (أغسطس) 2020 على حكم الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، والثاني في 24 أيار (مايو) 2021 على الحكومة المدنية بقيادة الرئيس باه نداو، قبل أن تزداد الأوضاع تدهوراً ابتداء من آذار (مارس) الماضي بفعل كثافة العمليات الإرهابية واتساع نطاقها الجغرافي أمام عجز القوات النظامية عن التعامل مع الوضع، ونشير في هذا السياق إلى:

تشهد مالي وضعاً أمنياً متفاقماً جراء تنامي العمليات الإرهابية وامتدادها لتشمل مناطق جديدة من البلاد

- إعلان وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند يوم 26 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بعد عودتها من جولة في المنطقة، إلى تدهور الأمن بشكل كبير في مالي خلال الـ (6) أشهر الأخيرة، فقد زادت الأعمال الإرهابية بنحو 30%، لافتة إلى أنّ الولايات المتحدة لا يمكنها مساعدة مالي أمنياً بسبب اختيارها التعامل مع شركة فاغنر.

تشهد مالي وضعاً أمنياً متفاقماً جراء تنامي العمليات الإرهابية وامتدادها لتشمل مناطق جديدة من البلاد، في وقت تعيش فيه على وقع ضغوطات دبلوماسية تنذر بإفلاس الخيارات السياسية للسلطات الانتقالية 

- إشارة تقرير لـ "هيومن رايتس ووتش"، صادر يوم 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2022، إلى قيام الجماعات المرتبطة بتنظيم الدولة بذبح مئات القرويين في شمال شرق مالي ونزوح عشرات الآلاف منهم بمنطقتي ميناكا وجاو منذ آذار (مارس) إلى أماكن أخرى من البلاد أو اللجوء إلى النيجر المجاورة، وأنّ مساحات شاسعة في الصحراء الكبرى أصبحت تحت سيطرة التنظيم.

- تسجيل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي "مينوسما"، 1304 حالة خَرْق لحقوق الانسان، بين 1 كانون الثاني (يناير) و30 حزيران (يونيو) 2022؛ أي بزيادة 47.17%، مقارنة بالفترة السابقة الممتدة بين 1 تموز (يوليو) و31 كانون الأول (ديسمبر) 2021، التي شهدت تسجيل (886) خرقاً. 

تتواتر التقارير من مالي حول تنامي العمليات الإرهابية تحت حكم المجلس العسكري الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري مزدوج

- إحراز تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" تقدماً مثيراً خلال آذار (مارس) ونيسان (أبريل) الماضيين، حيث وصل لأول مرة إلى منطقة ميناكا التي باتت 75% من أراضيها خاضعة لسيطرة الجماعات المتطرفة، وتفاقم الأوضاع الإنسانية بها؛ إذ سجل تقرير لليونيسيف، صادر يوم 14 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وجود (29645) نازحاً بنهاية أيلول (سبتمبر) و(1374) نازحاً جديداً في تشرين الأول (أكتوبر) 2022.

- مواصلة تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" زحفه نحو مدينة جاو في شمال شرق مالي منذ آذار (مارس)، واقتحام مدينة تلاتاي التي كانت تحت حماية برخان والواقعة على بعد (150) كلم منها، وذلك لأول مرة يوم 6 أيلول (سبتمبر) والسيطرة عليها مؤقتاً.

- تحقيق تطور من حيث نوعية العمليات الهجومية وأهدافها؛ مثل هجوم يوم 7 آب (أغسطس) 2022 الذي خلف (42) قتيلاً و(22) جريحاً من قوات الأمن، وقبلها هجوم يوم 22 تموز (يوليو) 2022، بسيارات ملغمة على قاعدة "كاتي"، التي تحتضن إقامة الرئيس الانتقالي الكولونيل أسيمي غويتا، على بعد (15) كلم فقط من العاصمة باماكو.

تزايد التوتر الدبلوماسي

ورَّطت الخيارات السياسية للسلطات الانتقالية البلاد في نزاعات غير متكافئة مع الدول الغربية وجيرانها، وقد أدى تقاربها مع روسيا وتعاملها مع شركة فاغنر، وتبنّي خطاب شعبوي في التعامل مع القضايا الدولية، إلى الاصطدام بفرنسا، القوة الاستعمارية السابقة وصاحبة النفوذ الواسع في المنطقة، ومن ثمّة اتساع دائرة التوتر الدبلوماسي لتشمل دولاً أخرى. 

أحرز تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" تقدماً خلال آذار ونيسان الماضيين، حيث وصل لأول مرة إلى منطقة ميناكا التي باتت 75% من أراضيها خاضعة لسيطرة الجماعات المتطرفة

في هذا السياق، طردت مالي أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2021 الممثل الخاص للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، متهمةً إيّاه بارتكاب "أفعال تتعارض مع وضعه"، وذلك على خلفية العقوبات التي وقعتها المجموعة ضد مالي، وطالبت الدنمارك يوم 24 كانون الثاني (يناير) 2022 بسحب قواتها المشاركة في إطار القوات الخاصة الأوروبية "تاكوبا"، بمبرر غياب التنسيق بين البلدين بمقتضى البروتوكول المنظم للقوة، ثم طرد السفير الفرنسي في 31 كانون الثاني (يناير) 2022 بسبب تصريحات اعتبرتها "معادية" من مسؤولين فرنسيين، وإلغاء الاتفاقيات الدفاعية الموقعة مع فرنسا وشركائها الأوروبيين، في 2 أيار (مايو) 2022، احتجاجاً حسب قولها على انتهاكات قواتها المتكررة لأجواء البلاد.

استفحال الأوضاع الأمنية في مالي، بالتزامن مع تزايد التوتر الدبلوماسي مع شركائها السابقين، كلها عوامل تُهدد حملات مكافحة الإرهاب وتدفع البلاد إلى ولوج مرحلة غير مسبوقة من الفوضى تخاطر بوحدتها وكيانها

كما انسحبت مالي يوم 15 أيار (مايو) 2022 من كل أجهزة مجموعة دول الساحل الـ (5) (G5)، بما فيها قوتها العسكرية لمكافحة الإرهاب، احتجاجاً على رفض تولّيها رئاستها الدورية، واعتقلت (49) جندياً إيفوارياً يوم 9 تموز (يوليو) 2022 فور وصولهم مطار باماكو واعتبارهم مرتزقة. ثم عاد رئيس الوزراء بالنيابة العقيد عبد الله مايغا، في كلمته بالجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2022، ليتهم فرنسا بتكرار انتهاكها المجال الجوي المالي ودعم الإرهاب بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، كما رفض تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة الذي نفى فيها صفة "مرتزقة" عن الجنود الإيفواريين، وهاجم الرئيس النيجري والإيفواري ورئيس غينيا بيساو الذي يرأس أيضاً "إيكواس".

وفي تطور لاحق، منعت السلطات المالية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 كل المنظمات الدولية غير الحكومية الممولة من فرنسا أو تتلقى دعماً مادياً أو فنياً منها، واصفة التمويل الفرنسي بأداة ابتزاز، وعلقت خلال آذار (مارس) 2022، بث إذاعة فرنسا الدولية وقناة فرانس 24 في البلاد، ورفضت في حزيران (يونيو) 2022 السماح لفرنسا -بعد أن سحبت جيشها من البلاد- بمواصلة العمل على أراضيها بطيرانها انطلاقاً من تشاد.

ورَّطت الخيارات السياسية للسلطات الانتقالية البلاد في نزاعات غير متكافئة مع الدول الغربية وجيرانها

ولم تكن علاقات السلطات المالية بهيئة الأمم المتحدة مختلفة؛ إذ طردت في تموز (يوليو) 2022 المتحدث باسم بعثة "مينوسما" لنشره معلومات اعتبرتها "غير مقبولة" حول الجنود الإيفواريين، وعلقت في الشهر نفسه تناوب وحدات الجيش والشرطة في "مينوسما"، مشترطة على البعثة تولي المصادقة على طلبات الوحدات وإرسالها إلى وزارة الشؤون الخارجية عن طريق مذكرة شفوية، قبل الإعلان في آب (أغسطس) 2022 عن استئنافها، بعد أن وافقت "مينوسما"، حسب قولها، على العمل وفق مقتضيات الآلية الجديدة.

الانعكاسات السلبية على مكافحة الارهاب

أدى التصعيد الديبلوماسي بين مالي وشركائها إلى صدور ردود أفعال متباينة من الدول الغربية ودول الجوار، لكنّها ردود متكاملة من حيث استهدافها تطويق المجلس العسكري لإرغامه على الانتظام في نسق النظام الإقليمي القائم (statut quo). فقررت "إيكواس"، في آب (أغسطس) 2020 مباشرة بعد الانقلاب الأول إغلاق حدود البلاد البرية والجوية وفرض حظر على مبادلاتها المالية والتجارية، باستثناء المواد الأساسية، وهي العقوبات التي رفعتها بعد تعيين الحكومة الانتقالية في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2020.

حصل هذا قبل الانقلاب العسكري الثاني في 24 أيار (مايو) 2021، الذي أقنع المجتمع الدولي بالتحرك لمواجهة المجلس العسكري؛ الشيء الذي سيمسّ بترتيبات مكافحة الإرهاب في وقت شهد تمدد التنظيمات الجهادية؛ إذ علقت الولايات المتحدة مساعدتها الأمنية لمالي، وعلَّق الاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيكواس" عضويتها بهما، أمّا فرنسا، فقد بادرت يوم 3 حزيران (يونيو) 2021 بتعليق عملياتها العسكرية المشتركة مع مالي في انتظار الحصول على ضمانات لعودة المدنيين إلى الحكم، قبل أن تعلن استئنافها بعد شهر واحد من التعليق عقب اتصالات أجرتها مع السلطات الانتقالية ودول المنطقة.

غياب خارطة طريق لعودة الحكم الدستوري للبلاد، والشك في نوايا المجلس العسكري، قوَّض فرص تطبيع العلاقات بين مالي والمجتمع الدولي، وأعاد لغة الضغوطات والعقوبات في مخاطبة السلطات الانتقالية من طرف القوى الدولية والإقليمية

غير أنّ غياب خارطة طريق لعودة الحكم الدستوري للبلاد، والشك في نوايا المجلس العسكري، قوَّض فرص تطبيع العلاقات بين مالي والمجتمع الدولي، وأعاد لغة الضغوطات والعقوبات في مخاطبة السلطات الانتقالية من طرف القوى الدولية والإقليمية؛ حيث أُعلن عن تعليق الاتحاد الأوروبي جزئياً لمهمته التدريبية بالبلاد في 11 نيسان (أبريل)، وإنهاء عمل "تاكوبا" في مالي اعتباراً من 30 حزيران (يونيو)، وانسحاب آخر الجنود الفرنسيين في "برخان" من ​مالي في 15 آب (أغسطس) 2022؛ وهو الانسحاب الذي أرخى بظلاله على فاعلية بعثة "مينوسما" لحرمانها من الدعم الجوي للجيش الفرنسي، الأمر الذي دفع عدداً من الدول إلى تعليق مشاركتها بالبعثة أو إنهائها كليّاً، خاصة ألمانيا وبريطانيا، بمبرر التعاون الأمني لمالي مع روسيا بوساطة فاغنر.

وفضلاً عن الدول الغربية التي راهنت على وضع السلطات الانتقالية وجهاً لوجه أمام التحديات الأمنية، فإنّ القوى الإقليمية، خاصة دول "إيكواس"، لوّحت بالعقوبات لزجر المجلس العسكري، والتي سيكون لها تبعات على قدرته التمويلية في مواجهة الإرهاب. وفرضت جزءاً منها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 على أعضائه؛ بسبب إرجاء الانتخابات التي كانت مقررة في شباط (فبراير) 2022، وغداة قراره تمديد المرحلة الانتقالية إلى (5) أعوام في كانون الثاني (يناير) 2022، قررت المنظمة إغلاق حدودها مع مالي وتعليق التجارة معها باستثناء المنتجات الأساسية، وتجميد أصولها في البنك المركزي لدول غرب أفريقيا، وقطع المساعدات المالية عنها، واستدعاء سفرائها من باماكو، وذلك في محاولة للتأثير بشكل موجع على قرارات السلطات الانتقالية.

المستقبل الأمني لمالي

أرغمت الإجراءات السابقة المجلس العسكري على تعديل خطابه، فأعلن في 5 حزيران (يونيو) 2022 عن تحديده يوم 26 آذار (مارس) 2024 كآخر أجل لتنظيم الانتخابات وتسليم الحكم لقيادة مدنية منتخبة ديمقراطياً؛ الأمر الذي دفع "إيكواس" إلى رفع عقوباتها اعتباراً من 3 تموز (يوليو) 2022، مع الإبقاء على العقوبات الفرديّة وتعليق عضوية مالي في المنظمة، إلى حين عودة النظام الدستوري.

انسحاب آخر الجنود الفرنسيين في "برخان" من ​مالي في 15 آب 2022 أرخى بظلاله على فاعلية بعثة "مينوسما" لحرمانها من الدعم الجوي للجيش الفرنسي

وبالتالي؛ نجح المجلس العسكري في مناورة منظمة "إيكواس"، وتأمين جانبه من أشقائه الأفارقة الذين أعرضوا عن توقيع العقوبات التي هددوا بها، في 4 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ما لم يتم حل قضية العسكريين الإيفواريين قبل نهاية العام، وذلك لحرص المنظمة -خلافاً للدول الغربية- على عدم المجازفة بعقوبات تؤزم الوضع الأمني المستشري على حدود عدد من دولها. ومع ذلك ستشكل قضية المعتقلين الإيفواريين اختباراً حقيقياً لحسن نوايا المجلس العسكري بشأن إعادة الحكم المدني إلى البلاد، وسط توقعات بإصدار رئيس المجلس لعفو خاص عنهم بعد الحكم عليهم يوم 30 كانون الأول (ديسمبر) بالسجن (20) عاماً، وبالمؤبد في حق الجنديات الـ (3) المفرج عنهنّ سابقاً.

وسيبقى الإشكال مطروحاً بشأن أسلوب تدبير المجلس الانتقالي للوضع الأمني أمام الانسحاب الفرنسي وإنهاء مهام "تاكوبا" وإضعاف "مينوسما" جراء الانسحابات المتوالية للمشاركين فيها، وعجز روسيا المتورطة في حربها بأوكرانيا عن ملء الفراغ، ثم إعلان المجموعات المسلحة في الشمال الممثلة في "الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية" يوم 22 كانون الأول (ديسمبر) تعليق التزامها باتفاق الجزائر، مع تأكيدات غربية بعدم ترك الساحة للروس، ووجود مؤشرات على سعي غربي لتطوير استراتيجية مشتركة تجاه المنطقة. 

لقد أضحت السلطات الانتقالية، في ظل التطورات الجارية، ملزمة باستبعاد التفكير في محاورة الجهاديين، وتبنّي الواقعية السياسية عبر نقل السلطة إلى حكومة مدنية وفق وعودها السابقة، وإعادة ثقة القوى الموقعة على اتفاق الجزائر، ثم استعادة التوازن للعلاقات الدولية للبلاد، وذلك لتفادي زحف الحركات الجهادية نحو مناطق جديدة، بما فيها محيط العاصمة باماكو، وعودة المطالب الانفصالية بالمناطق الشمالية؛ الأمر الذي لن يخلو من مخاطر على مستوى وحدة البلاد وكيانها ككل.

مواضيع ذات صلة:

-القاعدة تطل برأسها من جديد في مالي... ماذا تعرف عن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين؟

مالي بين 7 تنظيمات إرهابية... هذه هي

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية