الليرة التركية إلى القاع: هل يطفو الاقتصاد التركي؟

الليرة التركية إلى القاع: هل يطفو الاقتصاد التركي؟


25/11/2021

محمود نجم

تُظهر الرسوم البيانية سعر صرف الليرة التركية كلاعب غطس في حوض سباحة بلا قاع، هذا في عام كان يُمثل فُرصة لصعود الليرة مع انخفاض المُحفزات على الاستثمار في الدولار الأمريكي، البديل الأكثر قوة عالميًا.   

ومن المتوقع أن تزداد أمور الليرة سوءًا في العام المُقبل مع زيادة الطلب على الدولار الأمريكي وانخفاض الطلب على الأسواق الناشئة عمومًا، والسوق التركي منها، مع تطبيق خطة الرئيس الأمريكي جو بادين لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، ما يعني أن لاعب الغطس التركي ربما لن يستطيع الطفو مجددًا قريبًا.

الليرة التركية هي صاحبة الأداء الأسوأ بين عملات الأسواق الناشئة في عام 2021، وهي الأسوأ بين جميع العملات خلال الأسبوع الماضي.

الغريب أن الليرة التركية كانت الأفضل أداءً بين الاسواق الناشئة مطلع 2021، وكان من المتوقع أن يستمر التحسن، ولكن حدث تحول كبير في أداء الليرة، والتحول الكبير ينتج عن أحداث كبيرة.

ماذا يحدث لليرة التركية؟

قام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بضرب النظريات الاقتصادية بعرض الحائط خلال الفترة الماضية؛ حيث قضى على استقلال البنك المركزي التركي، ودعم سياسة لخفض الفائدة على الودائع بالليرة لمواجهة التضخم، وغيرها من التحركات القادرة على تحقيق ضرر بالغ بأي اقتصاد مهما بلغت قوته.

نحتاج لتقديم إطار نظري لشرح أثار سياسات أردوغان على الاقتصاد التركي.

قام الرئيس التركي بإقالة ثلاثة محافظين للبنك المركزي التركي خلال عامين، فما الضرر؟

يمكن تقسيم السياسات الاقتصادية للدول إلى سياسات مالية (دعم أو ضرائب) ونقدية (مرتبطة بأسعار الصرف والفائدة) بالأساس، بالإضافة إلى سياسات أخرى مُكملة لا تُغني عن السياسات المالية والنقدية، ولكل مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية (انتعاش- ركود-…إلخ) سياسات مالية ونقدية مناسبة (توسعية- انكماشية-.. إلخ)

والبنوك المركزية حول العالم هي المنوط بها إدارة السياسة النقدية للدول (أسعار الصرف والفائدة على الودائع)، بالتنسيق مع السياسات المالية التي تنفذها الحكومة عبر وزارة المالية في الغالب.  وحيث أن لكل من السلطتين (المالية والنقدية) طبيعة مختلفة تمام الاختلاف عن الأخرى، فإن الجمع أو الخلط بينهما له آثار اقتصادية سيئة، تنعكس على السوق إما بأشكال من التضخم المتزايد أو الركود والكساد غير المحتمل.

العملة مثل أية سلعة يتأثر سعرها بمدى عرضها وقيمة العائد عليها. وستنهار العملة إذا استجاب بنك مركزي لطلبات الحكومات المتكررة بزيادة طبع النقود لتوفير طلبات السوق المحلي، وسينخفض الطلب على العملة، إذا سَمح البنك المركزي بتخفيض الفوائد على الودائع لدرجة لا تعوض تأثير التضخم، وهذا ما حدث في تركيا.

تحتاج البنوك المركزية لرفع سعر الفائدة لمواجهة موجات التضخم؛ حيث تهدف إلى تشجيع المواطنين على زيادة الادخار في البنوك للاستفادة من أسعار الفائدة المُرتفعة ويقل الاستهلاك ويقل الطلب على السلع فتتوقف أسعارها عن الارتفاع.

ومن ناحية أخرى بزيادة أسعار الفائدة عن معدلات التضخم يزداد الطلب على العملة؛ لأنها في هذه الحالة تُحقق للمستثمر المحلي والأجنبي سعر فائدة حقيقي موجب (الفائدة على الإيداع- معدل التضخم)، ومع زيادة الطلب على العملة يرتفع سعر صرفها، ويتم تحجيم التضخم المحلي.

ولهذا كانت الليرة التركية الأفضل أداءً بين الأسواق الناشئة ما بين نوفمبر 2020 وأول فبراير 2021 بسبب رفع سعر الفائدة من 10.25 % إلى 15 في المائة في نوفمبر 2020، ثم مرة أخرى في ديسمبر إلى 17%، فزادت قيمة الليرة بحوالي 18%، ليصل سعر صرف الدولار إلى حوالي 7 ليرات مقابل 8.50 ليرة قبل قرارات رفع سعر الفائدة.

وقتها كان معدل التضخم 14%، ما يعني أن سعر الفائدة الحقيقي (17%- 14%= 3%)، وهو معدل مرتفع جدًا على المستوى العالمي.

على العكس تمامًا، خفض البنك المركزي يوم الخميس (18 نوفمبر الجاري،) تحت ضغط من الرئيس رجب طيب أردوغان، سعر الفائدة 1% إلى 15% على الرغم من اقتراب معدل التضخم من 20 بالمئة، ما يعني أن سعر الفائدة الحقيقي (-5%)، ما أدى إلى تدهور سعر العملة التركية إلى 12.5 ليرة لكل دولار، في تعاملات منتصف يوم الثلاثاء، وهو سعر الصرف الأسوأ تاريخيًّا.

وهكذا نجد أن سعر صرف الدولار ارتفع من 4.7 ليرة تركيا في أغسطس 2018 (قبل أزمة القس الأمريكي برانسون)، إلى 7 ليرات (بسبب الأزمة والعقوبات الامريكية)، ثم إلى 12.5 ليرة لكل دولار (بعد اتباع سياسة تخفيض الفائدة على الإيداع). أي أن تركيا خسرت ثُلث قيمة عُملتها فقط بسبب عقوبات أمريكية، ولكنها خسرت 44% من قيمة عملتها بسبب سياسات محلية.

ما الجدوى من سعر صرف منخفض؟ وهل تتحقق؟

يرى الرئيس التركي وحكومته أن سعر الصرف المنخفض يؤدي إلى تدفق الاستثمارات وزيادة العائد من الصادرات والسياحة، وهو أمر سليم نظريًّا (حال ثبات العوامل الأخرى)، ولكن هناك تغافل رسمي عن أضرار هذه السياسة من زيادة معدلات التضخم وإضعاف الطلب المحلي وزيادة تكلفة الواردات؛ هذا بالإضافة إلى أن أثر تخفيض أسعار الصرف الإيجابي على الصناعة والسياحة مرتبط بتفاعل عوامل اقتصادية أخرى.

التضخم: فيما يخص معدلات التضخم في تركيا فالملفت للنظر أنه عندما ارتفع سعر صرف الليرة في بداية عام 2021 لم ينعكس ذلك على جيوب المواطنين الأتراك، ولكن على العكس ارتفع معدل التضخم إلى حوالي 15% بنهاية يناير من العام نفسه. وهذا لأن الحكومة التركية استثمرت بشكل مُكثف لسنوات طويلة في قطاعات لا تمس حياة المواطن اليومية، مثل العقارات والخدمات والسياحة، مع إهمال القطاعات الأكثر تأثيرًا على حياة المواطن التركي ومنها القطاع الزراعي، الذي يعاني من استيراد الأسمدة والوقود وتراجع العائد مقارنة بالقطاعات الأخرى، وعندما انخفض سعر صرف الليرة بنهاية العام، زادت الأعباء على المواطنين مع معدل تضخم بلغ 20%.

وبتضرر الطلب المحلي يتضرر الاقتصاد، حيث يزيد عدد سكان تركيا عن 84 مليون نسمة، وهم المُنفق الرئيسي على الاقتصاد التركي، لا السياحة ولا الصادرات.

الصادرات: تجاوزت قيمة الصادرات التركية في شهر أكتوبر الماضي حاجز العشرين مليار دولار، وهو رقم قياسي في تاريخ البلاد، وفقا لوزارة التجارة التركية، كما بلغت قيمة الصادرات 215.7 مليار دولار، في الـ 12 شهرًا الأخيرة، وهو رقم قياسي أيضًا.

كانت صادرات السلع التركية قد انخفضت من 182.3 مليار دولار في عام 2019 إلى 168.4 مليار دولار في عام 2020 بسبب الجائحة العالمية، لتحتل المرتبة 28 عالميًا بين كبريات الدول المُصدرة، ومع افتراض نمو الصادرات التركية مع استقرار صادرات باقي الدول المنافسة، ستتقدم من 3 إلى 4 مراكز عالميًا، وهو تقدم ملحوظ وكبير.

ولكن من زاوية أخرى يحتل الاقتصاد التركي المركز التاسع عشر عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، بقيمة 720.1 مليار دولار، في عام 2020، أي أن الصادرات تُمثل فقط حوالي 23% من حجم الاقتصاد التركي، ما يعني أن الصادرات ليست نقطة ارتكاز الاقتصاد التركي الرئيسية، إنما الطلب المحلي.

الجدير بالملاحظة أنه رغم الاتجاه العرضي للصادرات التركية ما بين أعوام 2013- 2020، (زيادة بأقل من 1%)؛ هناك تراجع مُستمر للناتج المحلي الإجمالي التُركي منذ عام 2013؛ حيث خسر الاقتصاد التركي حوالي رُبع الناتج المحلي الإجمالي في 7 سنوات، ما يعني أن نمو الصادرات أو استقرارها لا يعني تحسن أداء الاقتصاد التركي بالضرورة، بل ربما تربطهما علاقة عكسية.

وبالنظر إلى أداء الميزان التجاري التركي نجد تفسيرًا منطقيًّا لهذه العلاقة العكسية؛ فالميزان التجاري (الفرق بين الصادرات والواردات السلعية) شهد خلال الخمسة عشر عامًا الماضية تفوق الواردات بشكل شبه مستمر على الصادرات، رغم تخفيض قيمة العمُلة، هذا لأن كثير من الواردات يصعب إحلالها بمنتجات تركية حتى لو ارتفع سعر المنتج المستورد، كما أن الطاقة والسلع الأولية تُمثل مُدخَلاً أساسيًّا من مُدخلات السلع المُصدرة، وكلما احتجنا لزيادة الصادرات زادت الواردات اللازمة للتصدير.

وبخفض قيمة الليرة، ترتفع تكلفة الواردات، فيتضرر المواطن التركي من ارتفاع أسعار المُنتجات، ويتراجع الطلب المحلي، بينما تستفيد الصادرات بشكل محدود من خفض قيمة العُملة؛ حيث المكون المحلي وحده هو ما انخفضت تكلفته بينما ظل المكون المُستورد عند مستوى مُرتفع.

 السياحة: ترى الحكومة التركية أن الانخفاض الكبير في سعر صرف الليرة سيزيد من تنافسية قطاع السياحة. ولكن ليس المهم فقط انخفاض سعر العملة، ولكن تأثير انخفاض سعر العملة على تكلفة الرحلة السياحية إلى تركيا.

العناصر الرئيسية لتكلفة الرحلة السياحية هي قيمة تذكرة السفر شاملة الضرائب، وتكاليف الشحن، ورسوم المطار، والتكلفة النسبية للإقامة الفندقية، وتكلفة المعيشة، وسعر الوقود لأنه يؤثر على تكلفة السفر والانتقال الداخلي.

يدور معدل التضخم السنوي في تركيا حول حاجز الـ 20%، ما يعادل التأثير الإيجابي لانخفاض قيمة العملة تقريبًا في نفس العام؛ أي أن تكلفة الإقامة في تركيا شبه ثابتة بالنسبة للسائحين الأجانب حاملي العملات الأخرى غير الليرة. وارتفع معدل التضخم في الطاقة بالذات إلى 25.76% في أكتوبر الماضي، ما يرفع تكلفة الانتقالات داخل تركيا.

كيف سيتأثر الاقتصاد التركي باستمرار سياسات تخفيض سعر صرف الليرة التركية؟

مع استمرار سياسات إضعاف الليرة التركية، من المتوقع أن يزيد الطلب على السياحة التركية، لتحقيق مستهدفاتها عددًا (50 مليون سائح في عام 2023)، لا مالًا (50 مليار دولار)، وهذا لأن رفع متوسط إنفاق السائح لألف دولار يتطلب استهداف السياحة الغنية خاصة من دول الخليج، التي انخفضت حصتها في السوق التركي من 18% قبل أزمة العلاقات السعودية التركية في 2018، إلى 5% حاليًا؛ ليبقى السائح الروسي، منخفض الإنفاق هو المسيطر على السياحة التركية.

من المتوقع أن يستمر رواج الصادرات التركية عند مستويات قياسية، ولكن في نفس الوقت تستمر الواردات السلعية في الارتفاع ليستمر عجز الميزان التجاري المُزمن.

من المتوقع أن تستمر أزمة ضعف الطلب المحلي في تركيا، حتى في حال حدوث انخفاض في معدلات البطالة؛ لأن الاستثمارات القادمة لتستفيد من التنافسية السعرية للاقتصاد التركي ستهتم بتوظيف العمالة الرخيصة.

الجدير بالذكر أن معدلات البطالة في تركيا انخفضت بحوالي 0.4% خلال الربع الثالث من العام الحالي، إلى 11.7% بنهاية سبتمبر الماضي، بينما انخفض معدل البطالة بين الشباب بحوالي 1.1% إلى 22.1%، وهي معدلات مازالت مُرتفعة.

تزيد احتمالات الاضطرابات السياسية نتيجة سوء الأوضاع ومعدلات البطالة المرتفعة، والجدير بالذكر أن حزب «البلد»، الذي يرأسه المرشح الرئاسي السابق “محرم إينجه،” قد أعلن أنه سيقاضي رئيس البنك المركزي، “شهاب كاوجي أوغلو” وأعضاء لجنة السياسة النقدية بالبنك، بسبب عدم قيامهم بالواجبات المنوطة بهم بموجب القانون، وبالتالي انخفاض قيمة الليرة، ما تسبب في أزمة مالية للأمة والوطن.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية