القرآن رائع ونموذج للسلوك الإنساني.. هكذا قال عضو الكونغرس الأمريكي

القرآن رائع ونموذج للسلوك الإنساني.. هكذا قال عضو الكونغرس الأمريكي


28/11/2019

حالة متفرّدة تلك التي تمكّن عضو الكونغرس الأمريكي الراحل، بول فيندلي، من خلقها؛ إذ في الوقت الذي شغل فيه موقعاً لا يتنازع اثنان على أهميته، فإنّه قد فهم نفسية المتلقي العربي إلى حدّ يبعث على الدهشة، فاختار لغة وطروحات جعلت من شعبيته أمراً مؤكداً.

اقرأ أيضاً: نزع أوهام القداسة: ما بين ترجمة القرآن الكريم وارتداء البدلة
الرجل، المولود عام 1921، في إلينوي- أمريكا، كان يستخدم أدوات الباحث والأكاديمي، لا للخروج بنتائج خلاقة في عالم البحث والفكر، بل ليبعث لدى المتلقي العربي طمأنينة حول أنّ كلّ ما يفكر فيه من طروحات ذات طابع وجداني انفعالي وشعبوي، في مرات كثيرة، مثبت بالعلم والبحث، وعلى مبدأ "شهد شاهد من أهلها"، وأيّة خلطة نجاح مضمونة أكثر من هذه لتكون نجماً لا يشقّ له غبار في العالم العربي؟

 

 

لعلّ من أشهر تلك العبارات والمتلازمات اللفظية التي تفنّن فيندلي في تطويعها وقولبتها، لا تكون لقمة سائغة فحسب، بل ليسيل لها لعاب العربي المتعطش لمن يثبت وجهات نظره بتفوقه دينياً وأخلاقياً: "وجود الإسلام في أمريكا اليوم قوي، بل أقوى من الوجود اليهودي"، وقوله "الحركة الإسلامية ستنتصر في نهاية المطاف"، و"القرآن رائع وممتاز ونموذج للسلوك الإنساني في كلّ لحظة"، و"المسلمون عانوا كثيراً بسبب الصور الزائفة التي انتشرت عن الإسلام في الولايات المتحدة والغرب، ومعظم الأمريكيين يربطون خطأ الإسلام بالإرهاب، وذلك نتاج الجهل؛ فالأمريكيون لم يروا نسخة واحدة من القرآن ولم يقرؤوا أية آية، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتسيء أكثر للإسلام، حتى أصبحت الولايات المتحدة أرض الخوف بالنسبة للمسلمين".

ظاهرة بول فيندلي قد لا تحمل بُعداً فكرياً وبحثياً متفرداً بقدر ما تحمل براعة الإمساك بدفّة الخطاب والإعلام

المقتطفات الآنفة قد لا تبتعد ولو أمتاراً معدودة عن الطروحات التي يطرحها معظم العرب في منازلهم وجلساتهم الخاصة، فما الذي كان متوقعاً حين يُدلي بها عضو الكونغرس السابق، بول فيندلي؟ لا سيما حين كان يستحضر مقتطفات من حوارات جرت بينه وبين ستة رؤساء أمريكيين حول ملاحظات من هذا القبيل، وأخرى مرتبطة بالقضايا العربية العالقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهي الممارسة التي تدغدغ وجدان العربي؛ ذلك أنّ أول من يتبادر لذهنه فيما يتعلق بنموذج: "قال لي، وقلت له"، الصحفي المصري، محمد حسنين هيكل، الذي بنى مجداً صحفياً لافتاً على هذه الممارسة حول ما قيل له وما قاله، وما استطاع سماعه في الكواليس، وما شاهده بأمّ عينه في الاجتماعات المغلقة، بعيداً عن أنّ هذا النمط قريب للنفس الإنسانية لا سيما تلك التوّاقة دوماً لسماع الحكايات واستقائها من "رأس النبع"، فإنّ هذا النمط يقع موقعاً مميزاً في نفس المتلقي العربي، وهو ما التقطه بول فيندلي بمهارة لافتة، ولم يفتأ يستخدمه حتى النهاية.

 

 

ولعلّ الدالة الأبرز على نجاعة ما اختاره فيندلي لتثبيت موطئ قدم راسخ له لدى العالم العربي هو في استذكار كم من مفكر عربي ناقش الأمور ذاتها التي ناقشها فيندلي، عن صورة العرب والمسلمين في الغرب، وإشكالات القضية الفلسطينية في الأوساط السياسية الغربية التي يمسك اللوبي الصهيوني بعنقها، لكن أيّاً منهم تقريباً لم يحظ بالدهشة ذاتها التي قوبلت بها طروحات بول فيندلي، لا لشيء، سوى كونه من "أهلها" الذين شهدوا، فكان له ما أراد، وما وضعه نصب عينيه بعد أن تفرغ للكتابة عقب خروجه من عالم السياسة كوظيفة، ولربما فكرة كونه أمريكياً (غربي بالمجمل)، أسهمت في قدر لا يُستهان به كذلك من حيث إحاطته بهالة من القدسية فيما يتعلق بالتصريحات والرؤى والروايات والسرديات التي يسوقها ضمن كتبه ومحاضراته وحواراته.

المتلقي العربي كان مأخوذاً برواية فيندلي ورأيه في الإسلام والمسلمين وصورة العرب الحقيقية بعكس ما يجري ترويجه في الغرب

حسبنا هنا أن نستذكر جانبين: الأول محاضرة كان قد قدّمها فيندلي في الإمارات العربية المتحدة، وهناك تجلّى الأسلوب والمنهج تماماً (راجع النماذج اللغوية المذكورة أعلاه حول رأيه في الدين الإسلامي والقرآن الكريم)، والثاني ما ذكره هو عن حكاية انجذابه للثقافتين العربية والإسلامية، حين ذهب للتوسط في إطلاق سراح إيد فرانكلين، الذي سُجِنَ في عدن بتهمة التجسّس، بعد أن رآه رجال الأمن في المطار يلتقط الصور للمنشآت، فظنّوه جاسوساً، لكنّه (فيندلي) عادَ به محرّراً وعاد للغرب بحكاية (قدّمها في الحقيقة للعرب) حول عظمة الدين الإسلامي وأخلاق المسلمين! ما يكاد المتأمل يجزم به هو أنّ المتلقي العربي بالمجمل لم يقف لدى سؤال: هل كانت رواية الموقوف البريطاني منطقية؟ ما مدى صحتها؟ هل دفاع فيندلي عنه كافٍ لتصديق أنّ تصوير منشآت في مطار دولة تعاني من القلاقل السياسية محض تصرف عفوي؟ وما يمكن الجزم به أكثر: المتلقي العربي كان مأخوذاً برواية فيندلي اللاحقة، وهي الأهم في وجهة نظره، عن رأيه في الإسلام والمسلمين وصورة العرب الحقيقية بعكس ما يجري ترويجه في الغرب، إلى حدّ لم يُجرِ فيه تدقيقاً على شيء، لا منطقية الحكاية ولا تفاصيلها ولا حقيقة ما حدث في عدن وكيف تنازلت السلطات هناك، على حين غرّة، عن تزمّتها في قضية الموقوف لديها بتهمة التجسّس. حسبُنا هنا أن ننظر لحجم الزخم الشعبوي في عبارة كهذه "فتحت عيني على ثقافة مستندة إلى الشرف والكرامة وقيمة كلّ إنسان، علاوة على التسامح وطلب العلم، وهي معايير عرفت فيما بعد أنها متأصلة عميقاً في الدين الإسلامي، إنّها أهداف كانت ستلقى استحسان أجدادي المسيحيّين"، وعبارة أخرى يقول فيها: "اكتشافي للإسلام عبر إلهام مفاجئ، مثل اكتشاف صندوق كنوز في الزاوية المظلمة في العليّة، بل كان فهمي له كالدرر تتبدّى الواحدة بعد الأخرى مع مرور الزمن".

اقرأ أيضاً: طه حسين إذ يدعو لتذوق القرآن الكريم أدبياً
لا يمكن القول تماماً؛ إنّ فيندلي كان شعبوياً؛ إذ تحمل هذه اللفظة دلالات أقرب للسلبية عربياً، لكن من الممكن تماماً قول إنّ فيندلي من بين أذكى الشخصيات التي فهمت أسرار اللعبة الإعلامية جيداً، وكيف بوسعك أن تكون نجماً لدى العالم العربي؛ إذ لم يحدث مثلاً أن زلّ لسان فيندلي بمثل ما زلّ به لسان جورج غالاوي مثلاً، حين عايرَ الفلسطينيين بالمساعدات التي تقدّمها إيران.

 

 

لقد كان الرجل على درجة عالية من الذكاء والتمرّس؛ حيث لم يترك متسعاً لأيّ انتقاد كان أن يتسلّل لظاهرته، بل هو في مزيد من نقشه الصورة باقتدار ترافع عن البؤساء والفلاحين والسود وجميع مهيضي الجناح، ما لم يترك متسعاً للمتلقي العربي ليشكّك، ولو مرة، في انحيازه المستميت لطرفه، بل هو راح يتقرّب من العربي والمسلم بطرق شتى لا تخلو من ألمعية لافتة في فهم نفسيّة ما يتوق إليه المتلقي العربي، حين تحدّث إليه عن خلفيّته الزراعية  البسيطة، وحين حدّثه عن خسارته موقعه في الكونغرس، عام 1982، بسبب مواقفه المؤازرة للفلسطينيين، وما إلى ذلك.

اقرأ أيضاً: ما علاقة محنة خلق القرآن بصعود الصحوة السلفية؟
هو نفسه، يتحدّث عن ردّة الفعل حياله (تحديداً كتاب "من يجرؤ على الكلام") بنبرة ملؤها الدهشة، حين يقول: "أحدث الكتاب تغييرات عميقة في حياتي، وفتحَ أمامي أبواباً جديدة مثيرة، فهو أسهم في مجيء المسلمين إليّ وذهابي إليهم، وعام 1989، شكّلت الحماسة لفكرة كتابي حافزاً لمجموعة من الرجال والنساء اندفعوا إلى مساعدتي على تأسيس مجلس المصالح القومية "CNI"، وهو منظمة مقرّها في واشنطن، وتضمّ زهاء خمسة آلاف أمريكي يسعون إلى تبنّي سياسات أمريكية متوازنة في الشرق الأوسط"، كما يتحدّث بالدهشة ذاتها حين دعاه أحمد ديدات، عام 1989، للحديث، ورافقته زوجته إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا، ناعتاً تلك الرحلة بـ "واحدة من رحلات عدة شاركتني فيها لوسيل، على طريق استكشاف الإسلام".

اقرأ أيضاً: إلى أي مدى استفدنا من جهود اليابانيين في دراسة القرآن الكريم؟

السؤال الآخر الذي قد يتبادر للذهن: كيف احتفى الفلسطينيون ببول فيندلي؟ في الحقيقة، كان الرئيس الراحل، ياسر عرفات، من أكثر من برع بلعبة الاحتفاء بأيّ منحاز لقضية شعبه، ممن لم يكونوا فلسطينيين، عرباً كانوا أم أجانب، لكن هل بقي زخم الاحتفاء ذاته؟ قد تكون الإجابة المؤسفة: لا؛ ذلك أنّ ما يمكن الانتباه إليه جلياً أفول نجم الزمن الذي سطعت فيه الدبلوماسية الفلسطينية عالمياً بشكل لافت، ويكفينا هنا استذكار الفنزويلي كارلوس، الذي أضاع عمره وحريته لأجل القضية الفلسطينية، لكن أحداً لا يذكره حالياً، ولا يبذل الجهود لتحريره، وإن كان من الضروري بمكان التنويه لأنّ تجربته مختلفة عن فيندلي؛ إذ بقدر ما كان كارلوس مندفعاً و"مجنوناً" ويهجس بالنجومية الثورية، فإنّ فيندلي كان ذكياً وبارعاً في انتقاء لغته والقوالب الفكرية، وتلك المتعلقة بوسيلة التواصل مع الجمهور، فكان لا يعدم الحيلة في الكتابة وإلقاء المحاضرات وإجراء الحوارات، والقفز بخفة وبراعة لافتَين بين حبل الكلام الذي يحمل طابع الشعبوية مرات، وبين الصبغة الأكاديمية والبحثية التي يجتهد في إسباغها؛ لإكساب طرحه مزيداً من العمق.

 

 

موقف فيندلي كان مدروساً إلى حدّ كبير، وهذا لا يُشكّك به، ولا بإيمانه بحقوق المستضعفين، والفلسطينيين على رأسهم، لكنّه يشير لحجم الألمعية اللافتة في إدارته ظاهرته طوال الأعوام التي شهدت نزالاته في الكونغرس، ومن ثم ما تلاها من أعوام تفرّغ فيها للكتابة، فقدّم كتباً متتالية منها: "الخداع: مواجهة الحقائق بشأن العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية"، و"لا صمت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أمريكا"، و"أمريكا في خطر"، وغيرها، والتي كانت تدور في فلك واحد عموماً، لكنّها تشير بوضوح قد لا يشهد خلافاً إلى أنّ التفكير لديه وما يتأتى عن هذا التفكير من عطاء ونتاج كان ممنهجاً مدروساً، ولم يكن هكذا، أي كيفما اتفق؛ لذا، فظاهرة بول فيندلي قد لا تحمل بُعداً فكرياً وأكاديمياً وبحثياً متفرداً كثيراً، بقدر ما تحمل براعة يُشهد لها في الإمساك بدفّة الخطاب والإعلام، وتحديداً ذاك الذي يتعطّش العربي والمسلم لسماعه.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية