الظاهرة الجهاديّة في الإسلام السياسيّ: منابعها وتطوّرها

الظاهرة الجهاديّة في الإسلام السياسيّ: منابعها وتطوّرها

الظاهرة الجهاديّة في الإسلام السياسيّ: منابعها وتطوّرها


21/04/2024

عمار بنحمودة

نروم يف هذه الورقة البحثي ّ ة، تناول مسألة الظاهرة الجهادي ّ ة يف إطار اإلسالم السيايس ّ . وتقوم خطة العمل عىل ّ التمييز بني مصطلحي »الجهاد« و»الجهادي ّ ة«، وبيان الفرق بني »اإلسالم« و»اإلسالم السيايس ّ «. فنهتم ّ يف القسم األول ّ من الدراسة مبنابع »الجهادي ّ ة«، انطالقا من رافدين أساسيني؛ األو ّ ل: تجريبي ّ ، قام من خالل »الجهاد الشعبي«، وقد ّ اتخذنا من هذا الصنف عينتني: وهام تجربتا »عمر املختار« و»عبد الكريم الخطايب«. أم ّ ا الرافد الثاين، فتنظريي ّ ويقوم عىل عرض املتون النظري ّ ة ألدلجة »الجهاد« وتحويله إىل »جهادي ّ ة«. وقد عرضنا أهم ّ آراء رموز هذا التيار ّ وتأويلهم ملفهوم »الجهاد«، أمثال: »حسن البن ّ ا« و»سي ّ د قطب« و»أبو األعىل املودودي«، ثم ّ نتعرض يف القسم الثاين ّ من العمل إىل املراحل التي مر ّ ت بها اإليديولوجيا الجهادي ّ ة، وأهم ّ ها توظيف الجهادي ّ ة يف الحرب ضد السوفيات ّ ومسارات األسطرة، ثم ّ مسارات عوملة الجهادي ّ ة يف تجربة »القاعدة« وصوال إىل احتكار »الجهاد« وبروز »الجهادية ّ الطائفي ّ ة« يف العراق. وقد حاولنا من خالل عرضنا لهذه املراحل، فهم طبيعة اإلسالم السيايس ّ ودراسة تاريخية مفهوم ّ »الجهاد« ورحلة تحو ّ له تنظريا وتوظيفا وأسطرة وأدلجة واحتكارا وطائفي ّ ة إىل »جهادي ّ ة« تستجيب لحاجات املؤول وتغّي ّ الواقع السيايس. 4 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ مقدمة: ّ ليس مفهوم »الجهاد« أقل ّ إثارة للشغب من مفهوم اإلسالم السيايس يف الفكر اإلسالمي الحديث. ولنئ أمكن ّ التمييز بني »اإلسالم« مفهوما شامال لكل ّ األنساق التأويلي ّ ة التي فك ّ رت داخل أطره واعتمدته مرجعية لتأويلها، ّ و»اإلسالم السيايس ّ « الذي يؤمن أصحابه بإسالم حريك ّ ، ويتبن ّ ون تأويال أقحم الد ّ ين يف كثري من القضايا السياسية، ّ ليحو ّ له إىل رؤية إيديولوجي ّ ة، فإن ّ ه ميكن بنفس املعيار التمييز بني »الجهاد«، باعتباره مفهوما ديني ّ ا تضمنه القرآن ّ وعج ّ ت بذكره السرية النبوي ّ ة و»الجهادي ًّ ة« أو »الجهاديني« و»هام عملي ّ ا تعبريين عن أدلجة حديثة للجهاد، أو تحوله ّ إىل هدف قائم بذاته، وبدأت أدلجة »الجهاد« بصيغته الحديثة تلك يف كتابات »سيد قطب« )ت 1966م( والحقا »عبد السالم فرج« يف كتاب »الفريضة الغائبة« )1980( الذي جعل »الجهاد« فرض عني، وليس فرض كفاية، ويف دعوة ّ الفلسطيني اإلخواين ّ القطبي »عبد الله عزام« )ت 1989 ّ م( إىل »الجهاد« ضد ّ االت ّ حاد السوفيايت عسكري ّ ا بعد تدخله 1 فقد تالزمت املنابع الترشيعية للجهادية مع تجربتها الواقعية يف ميادين ملصلحة النظام الشيوعي يف أفغانستان.« ّ مختلفة مثل أفغانستان والعراق وسوريا. وشهدت الخطابات الجهادي ّ ة رصاعات تأويلية، مثلام خاضت التنظيامت ّ الجهادي ّ ة حروبا كثرية باسم الرشعي ّ ة الديني ّ ة وصل حد ّ االقتتال بينها؛ فكيف تشك ّ لت معامل »الجهادي ّ ة«؟ وما هي أهم ّ التطورات التي شهدتها يف إطار اإلسالم السيايس؟ ّ لإلجابة عن السؤالني، آثرنا اعتامد منهج تاريخي يراوح بني رصد منابع »الجهادية«، وتتبع مساري تطورها ّ الفكري ّ والواقعي. 1 ّ - منابع »الجهادية«: أ- مرياث الجهاد الشعبي: ّ لعل أقل ّ أنواع »الجهاد« حظ ّ ا من الدراسة يف سياق البحث عن مسار نشأة »الجهاد« هو »الجهاد الشعبي«، وهو ّ الن ّ وع الذي وظ ّ فه بعض القادة الوطني ّ ني من أجل تحرير أوطانهم من االستعامر. ولعل ّ من أهم أسباب هذا اإلهامل: ّ اإليديولوجيا؛ فالجمع بني أنواع »الجهاد« الش ّ عبي و»الجهاد« الد ّ ويل هو إضفاء رشعية عىل »الجهاد«. يف الوقت ّ الذي نظرت كثري من الدراسات إىل النوع األول، باعتباره دفاعا رشعيا عن األوطان حفظ ألصحابه صفة »املجاهدين« ّ و»املناضلني«، بينام أضحى النوع الث ُ اين م ّ دانا دولي ّ ا وموسوما باإلرهاب لتور ّ طه يف قتل املدني ّ ني والعمليات التفجريية التي استهدفت الطائرات واملباين. 1 عزمي بشارة، تنظيم الدولة المكنّى "داعش" الجزء األوّل، إطار عام ومساهمة نقديّة في فهم الظاهرة، ط،1 قطر، المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات، 2018 ص ص ،96 97 5 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ فالجهاد الش ّ عبي هو »جهاد« وظ ّ ف الخطاب الديني توظيفا براغامتيا من أجل إضفاء قداسة عىل الحركات التي ّ واجهت االستعامر. ولعل من أبرز األمثلة عىل ذلك تجربة »عمر املختار« )ت 1931 ّ م( يف ليبيا، وهو شيخ تلقى ثقافة ّ دينية تقليدية يف الزوايا، »وبعد أن حفظ القرآن وأتم علومه بزاوية الجغبوب ... وّله السيد محمد املهدي شيخا عىل »زاوية القصور« بالجبل األخرض بقرب املرج، فقام بتعليم أوالد املسلمني وإكرام من يأوي إىل تلك الزاوية من ّ الفقراء وعابري السبيل، وفض ّ املنازعات بني قبائل العرب والسعي يف مصالحهم. وسار يف الناس سرية مدحه عليها 2 وقد انتقل »عمر العقالء، وأغمضت مهابته عيون غريهم، واحرتمهم الناس لفضله البادي يف كل ناحية من نواحيه.« ّ املختار« إىل تشاد لتأدية وظيفة دعوي ّ ة وجهادي ّ ة ضد االستعامر الفرنيس، ويف سنة ،1906 رجع إىل ليبيا. وعندما ّيبية اإليطالية عام ،1911 »أمر بتجنيد كل من كان صالحا للجهاد من قبيلة العبيد التابعة لزاوية اندلعت الحرب الل ّ )القصور(، فاستجابوا لندائه، وأحرضوا لوازمهم، وحرض أكرث من ألف مقاتل... ثم ّ رشعوا يهاجمون العدو ليال ونهارا، 3 ّ وكانت غنامئهم من العدو تفوق الحرص.« ّ إن ّ هذه السرية املخترصة ميكن أن تكشف لنا معامل »الجهاد الشعبي« الذي يقوم عىل قيادة دينية تقليدية ذات ّات ّ صال مبارش بالناس ومنسجمة مع البنية القبلية القامئة يف املجتمع. وتوظ ّ ف ثقافتها الدينية واكتسابها الرشعية ّ القبلية من أجل إقناع الناس بالجهاد، وهو مفهوم يعني مقاومة املستعمر والدفاع عن األرض والعرض. ولذلك، فبقدر ُ ما ي ْسَبُغ ّ عىل »الجهاد« منزع ديني ترتجمه مصطلحات »الجهاد« و»الشهيد« و»الكفار«، فإن له جذورا راسخة يف ّ األخالق العربي ّ ة والبنية القبلية للمجتمع الليبي؛ إذ أضحى »الجهاد« مرتبطا بقيم الرشف وحرمة األرض والعرض ّ ورفض الغزاة األجانب. وكان لهذا التفاعل دور أسايس يف جعل »الجهاد« ينشأ يف إطار تدين شعبي متتزج فيه العقائد ّ الدينية بالثقافة الشعبي ّ ة السائدة، وتسبغ عليه قيم الرشف والشجاعة. ّوإن ّ الناظر يف سرية »عبد الكريم الخطايب« )ت 1963م( ليلحظ تشابها كبريا مع سرية »عمر املختار«؛ فقد كانت ّ نشأته يف إطار قبيل ّ وتلقى بدوره ثقافة دينية تقليدية. وقد اختلف بتوليه مناصب قضائية. ولذلك تبدلت مواقفه ّ من اإلميان بالت ّ عايش السلمي إىل تعبئة القبائل يف األسواق واملساجد. »فدعا القبائل واألهلني إىل عقد اجتامع عام يف ّ معسكره، فلب ّ ى السواد األعظم دعوته عن طيب خاطر، وتقاطروا عىل معسكره زرافات ووحدانا؛ وهناك وقف األمري 4 ّ خطيبا بينهم... فاتفق الجميع عىل الجهاد والدفاع إىل آخر نقطة من دمائهم.« ّ إن ّ محر ّ كات »الجهاد« تتمث ُ ل يف بنية قبلية تحظى فيها األرض بقداسة وي ّ ستنفر الن ّ اس من أجل الدفاع عنها، ّ وترشعن الحرب ضد ّ املستعمر باسم »الجهاد«. وتلك هي املالمح العام ّ ة »للجهاد« الشعبي، وهو »جهاد« دفاع عن ّ األرض، غايته الد ّ فاع عن امللكي ّ ة واالستقالل. وقد فتح هذا النوع من »الجهاد« الباب أمام اإلسالم الحريك من أجل 2 أحمد الزاوي، عمر المختار الحلقة األخيرة من الجهاد الوطني في ليبيا، ط،1 بيروت، دار المدار اإلسالمي، ،2004 ص 56 3 علي محمد الصالبي، الشيخ الجليل عمر المختار، نشأته وأعماله واستشهاده، ط،1 بيروت، المكتبة العصريّة، )د، ت( ص 17 4 رشدي الصالح ملحس، سيرة األمير عبد الكريم الخطابي، ط،1 مصر، المطبعة السلفية، 1343هـ، ص 31 6 الظاهرة الجهاديّة في الإسلام السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ توظيف »الجهاد« يف إطار فكر الجامعة والدفاع عن مصلحة »اإلخوان« يف مواجهة األحزاب األخرى، فضال عن رشعية مقاومة املستعمر. ب- أدلجة الجهاد: ّ ّ را يف الفكر اإلسالمي ّ الحديث، ليس ملجرد إعالنه عن نهاية نظام ّ لقد مث ّ ل سقوط الخلافة الإسلامية حدثا مؤث ّعم ّ ر قرونا طويلة، وحفظ، ولو شكلي ّ ا، للمسلمني دولة تجمعهم، وإمنا ألن ّ ه تزامن مع سياسة استعامرية شملت كثريا ّ من الد ّ ول اإلسالمي ّ ة. فنتجت عنها حركات تحرري ّ ة وجدت يف املنظومة اإلسالمي ّ ة رافدا ترشيعي ّ ا للدعوة إىل »الجهاد« ّ وقتال املستعمر. ويف هذا اإلطار، خص ّ ص »حسن البنا« )ت 1949 ّ م( »رسالة يف الجهاد« جعل منه فريضة عىل كل ّ مسلم. وقد استحرض آيات من القرآن وأحاديث نبوي ّ ة لتكون قاعدة ترشيعي ّ ة وحجية عىل وجوب »الجهاد«. وقد أقام 5 ومل يكتف بتأويل تلك اآليات تأويال يالئم أطروحته التي تلزم »بالجهاد دعامة »الجهاد« عىل قتال كل من مل يسلم. ّ القتايل ّ «، وإمنا دع ّ م رصح دعوته بآراء الفقهاء، فتبن ّ ى تعريفا يعترب »الجهاد« يف الرشيعة »قتل الكفار ونحوه من رضبهم ونهب أموالهم وهدم معابدهم وكرس أصنامهم واملراد االجتهاد يف تقوية الدين بنحو قتال الحربيني والذميني 6 ّ )إذا نقضوا( واملرتدين الذين هم أخبث الكفار للنقض بعد اإلقرار والباغني...« ّ إن ّ الس ّ قف الذي يحد »الجهاد« هو أن ال يكون بحسب وجهة نظر »حسن البنا« أداة للعدوان وال وسيلة 7 ّ للمطامع الشخصي ّ ة. ولكن وظيفته األساسي ّ ة هي حامية الدعوة وضامن السلم وهداية الناس إىل الحق والعدل؛ فالحرب مل تكن غاية يف حد ذاتها، وإمنا هي وسيلة لنرش الدعوة. ّ وأخريا ينفي »البنا« أن يكون هناك جهادان: يجعالن من الجهاد الحريب جهادا أصغر ومن جهاد النفس جهادا 8 ّ أصغر، بل إنه يعترب هذا الحديث الضعيف، وهو من كالم »إبراهيم بن عبلة« وسيلة مغرضة ترصف الناس عن أهمية القتال واالستعداد له. ّ لقد مث ّ ل »الجهاد« أحد الدعائم التي أقام عليها »البنا« مفهوم جامعة اإلخوان؛ فهو فريضة دامئة إىل يوم ّ ّ سان والقلم واليد وكلمة الحق عند 9 ّ »أول مراتبه إنكار القلب وأعالها القتال يف سبيل الله، وبني ذلك جهاد الل القيامة. 5 انظر: رسائل اإلمام الشهيد حسن البنا، ط،1 دار األندلس، ،1965 ص 44 6 المرجع نفسه، ص 50 7 انظر المرجع نفسه، ص 54 8 انظر المرجع نفسه، ص 58 9 انظر المرجع نفسه، ص 138 7 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ السلطان الجائر وال تحيا الد ّ عوة إال ّ بالجهاد وبقدر سمو ّ الد ِ عوة وسَعِة أفقها تكون عظمة الجهاد يف سبيلها وضخامة ّ الث ُ من الذي يطلب لتأييدها وجزالة الثواب للعاملني.«10 ّ يعد ّ »حسن البن ّ ا« املؤسس لجامعة اإلخوان املسلمني، وأحد املنظرين الذين نقلوا »الجهاد« من طوره العفوي ّ )الجهاد الشعبي( إىل إيديولوجيا قن ّ نت الجهادي ّ ة وحو ّ لتها إىل منظومة تحكم فكر الجامعة وتحدد عالقتهم باآلخرين ّ املختلفني، وهو ما سيجعله أحد مبدعي مفهوم اإلسالم السيايس ّ ، باعتباره حركة تجمع بني الدعوة والقتال أو ما عّب ّ عنه بثنائي ّ ة الر ّ وحاين أو العميل ّ أو املصحف والسيف، وهي العنارص اإليديولوجي ّ ة املكو ّ نة للجهادية. ّ إن تبني »البن ّ ا« ملفهوم حريب للجهادي ّ ة سيكون له األثر الكبري يف توجيه آراء كثري من دعاة اإلسالم السيايس. ّ ولذلك، فقيمة املفاهيم التي أس ّ سها »البنا« هي كونها تنسجم مع رؤية الجامعة من الإخوان المسلمين. ولذلك، تحتاج ّ مسارات الفهم والتأويل يف إطار هذه املنظومة، إما إىل مسايرة دعوات »البنا« إىل »الجهاد« أو محاولة تعديلها ّ وتبيئتها. إننا إذاً إزاء مسارين: مسار تعديل ومسار تربير وتطبيق. ّ نحاول يف هذا املستوى التأكيد عىل أثر السلطة املرجعي ّ ة التي أقامها مؤسس جامعة اإلخوان »حسن البنا« ّ ّ وا من بعد وظيفة الت ّ نظري والتوجيه من منطلق الجمع بني سلطة الكلمة والسيف. ويعترب »سيد قطب« عىل من تول ّ من أهم منظ ّ ري »الجهاد« الذين سيكون آلرائهم أثر عميق يف فكر الجامعات الجهادي ّ ة املقاتلة؛ فقد اعتمد رسدية ّ إسالمي ّ ة تؤص ّ ل »الجهاد« القتايل يف الفرتة النبوي ّ ة؛ وذلك من خالل الت ّ مييز بني حقبتني؛ األوىل: هي مرحلة الدعوة ّ السلمي ّ ة، والثانية: هي مرحلة مجاهدة الكف ّ ار بالس ّ يف والسنان، »ثم ّ كان الكفار معه بعد األمر بالجهاد ثالثة أقسام: ّ أهل صلح وهدنة وأهل حرب وأهل ذمة.«11 ّ وقد سعى إىل ترشيع »الجهادي ّ ة« اعتامدا عىل حجي ّ ة النص ّ القرآين. ولنئ ّ عمد »البن ّ ا« إىل تجميع اآليات التي تحث ّ عىل »الجهادي ّ ة« دون متييز بينها، فإن ّ منهج »سيد قطب« قد قام عىل االنتقاء، فجعل من سورة »براءة« مؤرشا عىل استقرار أمر الكفار مع النبي عىل ثالثة أقسام: محاربني له وأهل عهد ّ وأهل ذم ّ ة. وكانت تلك الس ّ ورة أمرا بقتال أعداء النبي من أهل الكتاب حت ْ ى يعطوا الجزية أو يدخلوا اإلسالم وأمرا ّ بجهاد الكفار واملنافقني والغلظة عليهم12. ّ ومل يكتف »سي ّ د قطب« بحجي ّ ة القرآن وسيلة لإلقناع برشعية »الجهاد«، وإّن ّ ا حاول أن يقد ّ م حججا عقلي ّ ة لدعم رأيه. فقد استخلص من تأويله آي القرآن أن ّ الحركة الجهادية هي مواجهة ّ متكافئة ألنظمة واقعي ّ ة عملي ّ ة، سواء أكان بالدعوة والبيان أم بالقو ّ ة والجهاد، إلزالة األنظمة والسلطات القامئة ّ عليها. وقد عنى بالواقعي ّ ة الحركي ّ ة أن ال تثبت تعاليم الدين عند تأويل بعينه، وإّنا تصل بالتأويل إىل فهم »الجهاد«، ّ ّ ها من األرض جميعا. وذاك هو املفهوم اإليديولوجي »للجهاد« الذي باعتباره منهجا قامئا عىل إزالة الطواغيت كل ّحو ّ له إىل »جهادية«. 10 المرجع نفسه، ص 14 11 سيّد قطب، معالم في الطريق، ط،10 مصر، دار الشروق، ،1979 ص ص ،55 56 12 المرجع نفسه، ص ص ،55 56 8 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ لقد بر ّ ر »سيد قطب« الجهادي ّ ة بوجود حركة واقعي ّ ة متنع الد ّ عوة التي يؤمن بها، وهو يؤسس منطق الجهادية ّ عىل مبدأ املحاكاة. فامدامت الحركة التي تواجه »الجامعة املجاهدة« توظ ّف آلي ّ ات واقعي ّ ة، فإن ّ ذلك يربر بحسب سوى عنف مضاد13. ّ وجهة نظر »سي ّ د قطب« مواجهتها بآليات واقعية. فالكلمة تواجه بالكلمة. والسيف يقابل السيف. وما دواء العنف ّ وقد جعل »سي ّ د قطب« من الجهادي ّ ة قامئة عىل قاعدة ديني ّ ة هي إخالص العبودي ّ ة لله ورفضه كل أشكال العبودية ّ للبرش يف إطار متييزه املجتمع اإلسالمي ّ عن املجتمع الجاهيل. وحد ّ د مقاصد الجهادي ّ ة بأنها تخلية المجتمعات بني ّ اإلسالم، وبني كل فرد له حري ْ ة االختيار. فإن ّ وجد املسلمون مقاومة وحربا واجهوا ذلك بالقتال والحرب. والجهادية ّ مؤس ّ سة عىل متخي ّ ل ميي ّ ز صاحبه بني مملكة البرش )الجاهلي ّ ة( ومملكة الله يف األرض )إسالم الجامعة(. والجهادية سعي دائم إىل إحالل مملكة اإلله بدل مملكة البرش. ّ وقد بلغ تأويل »الجهاد« يف تصور »املودودي« )ت 1979 ّ م( حد ّ الجمع بني »الجهاد« الدفاعي والهجومي، وهو ّ مفهوم جديل يرد ّ به عىل تصور املسترشقني »للجهاد« الذي أضحى يف نظره مؤثرا يف كثري من املسلمني، وهو يقوم ّ عىل رشاسة الطبع والهمجية وسفك الدماء، وهو »صورة من مواكب الهمج املحتشدة، مستلة سيوفها متقدة صدورها ّ بنار التعصب والغضب متطايرا من عيونها رشار الفتك والنهب، عالية أصواتها بهتاف الله أكرب، زاحفة إىل األمام. ما ّ إن رأت كافرا حت ّ ى أمسكت بخناقه وجعلته بني أمرين: إم ّ ا أن يقول كلمة »ال إله إال ّ الله.« فينجو بنفسه، وإما أن يرضب عنقه، فتشخب أوداجه دما.«14 ّ املشوهة. فهم بحسب تصور »املودودي« قوم يتقاتلون ويتناحرون فيام بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة15. ّ وهذه الصورة هي مرآة ملتخي ّ ل استرشاقي راوح بني تشويه صورة »الجهاد« اإلسالمي، وبني تلميع صورته ّ ومن هذا املنطلق، أقام تقابال بني حروب إسالمي ّ ة يف سبيل الله وحروب غربية يف سبيل الشهوات الدنيئة ّ واألهواء الذميمة واملطامع األشعبية )نسبة إىل أشعب(. فام يقوم به »املودودي« -بحسب وجهة نظره- هو إعادة صورة »الجهاد« إىل أصلها، بعدما لحقها التزوير والتمويه. فرتاجع املسلمني عن »الجهاد« هو نتيجة انخداعهم ّ بحجب الص ّ ورة البشعة للغرب وتزوير صورة »الجهاد« اإلسالمي. 13 يقول رينيه جيرار: "إنّ المحاكاة القائمة على الرغبة تفضي تلقائيّا إلى الصراع؛ ألنّ انصباب رغبتين على موضوع واحد يؤدّي إلى اعتراض كلتيهما على األخرى." رينيه جيرار، العنف والمقدّس، )ترجمة سميرة ريشا(، ط،1 بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة/ المنظمة العربيّة للترجمة، ،2009 ص 248 14 أبو األعلى المودودي، الجهاد في سبيل هللا، ص ،1 نسخة إلكترونيّة على الرابط التالي: انظر: المرجع نفسه، ص 1 9 الظاهرة الجهاديّة في الإسلام السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ ال يختلف »املودودي« عن »سي ّ د قطب« يف اعتامد مفهوم إيديولوجي لإلسالم و»الجهاد«. فاإلسالم »فكرة ّ حسب فكرته ومنهجه العلمي.«16 ّ انقالبي ّ ة ومنهاج انقاليب ّ يريد أن يهدم نظام العامل االجتامعي ّ بأرسه، ويأيت بنيانه من القواعد ويؤسس بنيانه من جديد ّ وهو ميي ّ ز بني الحرب التي تكون غاياتها شخصية و»الجهاد« الذي يرمي إىل »سعادة البرش وفالحهم وله فكرة ّخاص ّ ة ومنهاج علمي ّ مختار لسعادة املجتمع البرشي ّ والصعود به إىل مدارج الفالح. فكل حكومة مؤسسة عىل فكرة غري هذه الفكرة ومنهاج غري هذا املنهاج يقاومها اإلسالم، ويريد أن يقيض عليها قضاء مربما.«17 ّ ولذلك، فقد كان »الجهاد يف سبيل الله« داللة عىل جميع أنواع السعي وبذل الجهد، وهو »كل عمل تقوم به ّ ملصالح العامة وسعادة املجتمع ابتغاء ملرضاة الله، ال تريد به مغنام أو مكسبا يف الحياة العاجلة.«18 »فالجهاد« يف ّ سبيل الله مفهوم طوباوي يعني أن مقاصد »الجهاد« ال تشوبها األغراض املادي ّ ة أو الطائفي ّ ة والقومي ّ ة. إنه مفهوم ّ متعال يستمد ّ رفعته من قداسة املرجع وقداسة املقاصد، إال ّ أن ّ ه رغم طابعه الطوباوي ّ يت ّ خذ بعدا واقعيا من خالل ّ تأكيد »املودودي« عىل دعوته االنقالبية؛ فاإلسالم نظام كّل ّ شامل وفق هذا التصو ّ ر غايته القضاء عىل كل النظم ّ البائدة والجائرة، وهو مفهوم شمويل ال حدود لألرض التي ينشد تغيريها وأسلمتها، وهو يتحقق بإرساء حكومة ّ إسالمي ّ ة غايتها »إسداء املعروف إىل الرعية والرتفيه عنهم من غري فرق بني عامتهم وخاصتهم، وال تجعل نصيبا من ّ موارد الدولة إال كنصيب عامة الناس.«19 ّ لقد اتفق منظرو الجهادي ّ ة إذن عىل اعتبارها فريضة ال يقترص مفهومها يف إطار تأويل سن ّ ي طابعه سلطوي عىل ّ مجر ّ د األمر باملعروف والنهي عن املنكر باستعامل الكلمة، وال يت ّ صل باملفهوم الص ّ ويف الدال عىل مجاهدة النفس، وإمنا ّ صار مفهوما سياسي ّ ا إيديولوجي ّ ا يقوم عىل توظيف القو ّ ة من أجل الدفاع عن أرايض املسلمني أو فرض نرش اإلسالم يف ّ دول أخرى. وقد بدت الجهادي ّ ة يف مفهومها السيايس ّ شمولي ّ ة يف عدم اقتصارها عىل رقعة جغرافية دون أخرى، فهي ّ تشمل أرض الله الواسعة دون حدود، وهي دعوة طوباوي ّ ة؛ ألن مقاصدها نرش السعادة بني البرش وإحالل رشيعة ّ الله وحكمه بدل رشيعة البرش بتصو ّ ر أن ّ نرش اإلسالم وتطبيق التعاليم اإللهي ّ ة سيحق ّ ق للبرش الس ّ عادة بحد ّ السيف، ّ وهي أيضا دعوة سياسي ّ ة ال تعترب الد ّ ين شأنا شخصيا، وإّن ّ ا تنص ّ ب مجموعة املجاهدين وصية عىل اإلسالم واملسلمني؛ ّ فهي تدفع عنهم العدوان، وتجعل من »الجهاد« فريضة عىل كل ّ مسلم، وهي تنرش الدعوة يف أرض الله الواسعة. فإن وقف أحد يف طريقها قاتلته ليخّل بينها وبني الناس. 16 المرجع نفسه، ص 3 17 المرجع نفسه، ص 4 18 المرجع نفسه، ص 5 19 المرجع نفسه، ص 18 10 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ إن ّ هذه الد ّ عوات التي مث ّ لت جوهر اإلسالم السيايس ّ وأداته الكتساب الرشعي ّ ة لهي نتيجة طبيعية لواقع ّ استعامري ّ فرض من خالل عدوانه آلي ّ ة املقاومة وشعورا بالخوف عىل الهوي ّ ة اإلسالمية، انقلب دعوة إىل »الجهاد« ّ والد ّ فاع عن األوطان. ولكن ّ ه أضحى من بعد االستقالل آلية لل ّص ّ اع عىل الرشعي ّ ة السياسية من خالل االعتامد عىل ّ املرجعي ّ ة اإلسالمي ّ ة وترشيع العنف املوج ّ ه ضد ّ الدولة »بالجهاد يف سبيل الله« من خالل استحداث مفهوم الجاهلية ّ وإسقاط مفهوم الطواغيت عىل الحكومات واألنظمة التي تعارضها الجامعة وال تتوافق معها يف تصور الحكم. فقد ّ حاول دعاة اإلسالم السيايس ّ »الفصل بني مهمة »الجهاد« ومهم ّ ة الد ّ عوة عىل أساس نظرية األمر باملعروف والنهي ّ عن املنكر، وعرب التفسري الذي قدموه للمنكر، ووظيفة املسلمني يف إزالته كواجب وضعه اإلسالم عىل عاتقهم، وتفسري ّ اإلسالم عىل أن ّ ه يف أحد جانبيه نظام لحكم يصل إىل سد ّ ته بالقو ّ ة الثورية، ويقيم حكمه وحضارته عىل أنقاض سائر الحضارات الفاسدة املوجودة يف العامل.«20 ّ ّ د املفهوم اإليديولوجي للجهادي ّ ة مسار عنف يستبعد كل الطرائق السلمي ّ ة، وال يرى يف الغرب سوى عدو لقد ول ّ كافر يجب قتاله. وتكمن خطورة هذا املسار التأوييل ّ يف استبعاده سبل املحاكاة العلمية للغرب بدل محاكاة العنف ّ والتأكيد عىل القتال. ويكمن مأزق الجهادي ّ ة يف إسقاط أحكام قدت يف زمن الغلبة عىل واقع يشكو فيه املسلمون ّ الضعف والعجز عن مجاراة نسق التطو ّ ر الذي شهدته الحضارة الغربية. فقضت هذه املسارات إما بااللتجاء إىل ّ الغرب ذاته من أجل تحويل الجهادي ّ ة إىل مفهوم حريب ّ فع ّ ال، وهي الحالة األفغاني ّ ة. أو بتحويل قبلة الجهادية من ّ مقاومة العدو ّ البعيد إىل العدو ّ القريب، مثل تحو ّ ل وجهة الجهادية يف العراق من قتال األمريكيني إىل قتال الشيعة. ّ والنتيجة األخرية هي أن ّ الجهادي ّ ة، رغم تأكيد دعاة اإلسالم السيايس ّ عىل مرجعي ّ اتها النبوي ّ ة وحجيتها القرآنية، ّ ّ ر باألحداث السياسي ّ ة وتتحو ّ ل مفاهيمه بحسب حاجات املؤول، وهو ما أثبتته ّفإن ّ ها تظل ّ مفهوما تاريخيا يتأث ّ ّ رت آراء املنظرين للجهادية يف العراق ّ رصاعات الفتاوى وصدامات التنظيامت الجهادية يف العرق وسوريا. فقد تأث ّ وسوريا بطبيعة املجتمع ومامرسات العدو ّ الذي يرشعن »الجهاد« ضده، سواء أكان قريبا أم بعيدا. 2 ّ - تطو ّ ر الجهادية: أ- مسار التوظيف واألسطرة: ّ نتناول يف هذا القسم عي ّ نة من »الفكر الجهادي ّ « نقلت املقوالت الجهادي ّ ة التي أس ّ سها »حسن البن ّ ا« و»سيد ّ قطب« و»املودودي« من طور التنظري إىل طور التطبيق يف أفغانستان، وهي جهادي ّ ة التقت فيها املصالح األمريكية ّ مع أحالم الجهادي ّ ني بتحرير أفغانستان ومقاتلة العدو السوفييتي »الكافر«. واجتمعت فيه سلطة اإلفتاء والحشد ّ والتمويل لترش ّ ع الحرب باسم »جهاد الكفار«. 20 محمود محمد أحمد، تطور مفهوم الجهاد دراسة في الفكر اإلسالميّ المعاصر، ط،1 بيروت، الشبكة العربيّة لألبحاث والنشر، ،2015 ص ص ،131 132 11 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ يؤص ّ ل »عبد الله عزام« »الجهاد«، باعتباره فريضة وأعظم عبادة، وهو إذا أصبح فرض عني ال يؤخر21. ويصري ّ فرض عني إذا دخل العدو أرض اإلسالم، مثل دخول الروس إىل أرض أفغانستان. ويبقى »الجهاد« فرض عني، حتى تستعيد كل بقعة كانت إسالمية إىل أرض اإلسالم وإىل يد املسلمني مبا يف ذلك إسبانيا22. ّ وحني يتحول »الجهاد« إىل ّ فرض عني، فال يستأذن املجاهد أحدا قياسا عىل أن املرء ال يستأذن أحدا إذا هم بالصالة. ّ وخالصة مرشوعي ّ ة »الجهاد« أن ّ ه أصبح يف املرحلة النهائي ّ ة )يف عرصنا( فرض عني ضد ّ كل ّ الكفار يف األرض23. ّ ولذلك ال يجوز للمسلمني أن يكتنزوا أو يد ّ خروا من أموالهم شيئا؛ فال بد أن تدفع جميع أموالهم »للجهاد«. ّ فدفع الصائل اعتامدا عىل مرجعي ّ ة »ابن تيمية« )ت 1328 ّ م( التي يتبن ّ اها »عبد الله عز ّ ام« مقدم عىل فرائض ّ العبادات، فيجب »عىل الناس أن ينفروا ولو مشاة، يجب عىل األردين أن يأيت ماشيا من عامن إذا مل يجد مثن التذكرة )املسافة حوايل 4700 كلم(. واملرصي أن يأيت من القاهرة ولو ماشيا )املسافة تقريبا 4600 ّ كلم(، والسعودي أن يأيت ّة والكرثة )املسافة حوايل 4400 كلم(، مع امليش والركوب.«24 ّ من مكة ولو ماشيا مع القل ّ إال ّ أن ّ اسرتاتيجية »الجهاد« يف أفغانستان ال تقوم عىل مجر ّ د ترشيع ديني يعتمد فيه »عبد الله عزام« عىل ّ »ابن تيمية« و»أحمد بن حنبل« )ت 855 ّ م(، وإمنا يقوم أيضا عىل أرضي ّ ة واقعي ّ ة أساسها جمع التربعات لدعم هذه ّ الحرب »الجهادية«؛ فالفتوى ليست مجرد تأويل نظري، وإّنا هي تجسيد عىل أرض الواقع. وكذلك تجنيد املقاتلني؛ ّ فقد خضعوا إىل دورات تدريبية يف معسكرات الجهاديني قبل انتقالهم إىل أفغانستان. واألسلحة وإن اعرتف »عبد الله ّ ّ د أن تلك األسلحة قد اقتنيت بأموال املسلمني25. ّعز ّ ام« بأنها أمريكي ّ ة الصنع، فإنه يؤك ّ إن ّ املنظور الوحيد الذي يرشعن تلك الحرب هو »الجهاد«. ولذلك، يرفض »عبد الله عزام« كل تأويل يعترب ّ ّ ل التي بناها »الجهاد« األفغاين. ّ الحرب الحقيقية بني أمريكا وروسيا. فذلك االدعاء حسب زعمه هدم لعقيدة التوك ّ وعلامء ال يجوز استفتاؤهم، وهم الذين يعارضون »الجهاد« ويتخذون من بعض الذرائع سببا إلضعافه وإبطاله26. ّ فيميز بني علامء يجوز استفتاؤهم، وهم يف نظره أولئك الذين يؤمنون برسالة »الجهاد« األفغاين ويحثون عليها، 21 يقول عبد هللا عزام: "فالجهاد فرض عين عليك حتى تموت، وكما أنّ الصالة ال تسقط عن اإلنسان إال إذا مات، فالجهاد ال يسقط عن اإلنسان إالّ إذا مات. احمل سيفك وامض في األرض، ال ينتهي فرض العين أبدا حتى تلقى هللا." موسوعة الذخائر العظام في ما أثر عن الشهيد الهمام عبد هللا عزّام، ط،1 باكستان، مركز الشهيد عزام اإلعالمي، ،1997 ج،4 ص 447 22 انظر: عبد هللا عزام، المرجع نفسه، ج،4 ص ص ،424 .425 )إضافة المسافات من عندنا(. 23 المرجع نفسه، ج،4 ص 426 24 المرجع نفسه، ج،4 ص 437 25 يقول عبد هللا عزام: "أتحدى حتى اآلن رجال يأتيني ببيّنة أنّ أمريكا قدمت قطعة سالح واحدة بدون ثمن، وصواريخ )استنجر( هذه أمريكا قبضت ثمن كل صاروخ سبعين ألف دوالر من أموال المسلمين." المرجع نفسه، ج،4 ص 438 26 يقول عبد هللا عزام: "ال يجوز استفتاء الناس الذين بال علم، وال يجوز استفتاء العلماء الذين بال خبرة، ال يعرفون حال الجهاد. ال يعرف حال الجهاد إالّ الذي عايش الجهاد." المرجع نفسه، ج،4 ص 440 12 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ و«الجهاد« ال ميكن أن يؤو ّ ل عىل غري الوجه الذي آمن به هؤالء »العلامء«. ولذلك، يؤكد »عبد الله عزام« أن ّ »دراستك ليست جهادا، علمك ليس جهادا، جلوسك مع إخوتك يف حلقات دراسي ّ ة أو دعوية ليس جهادا، الجهاد ّ هو القتال، ما دامت راية القتال مرفوعة، ما دامت األسن ّ ة مرشعة وما دمت تتمت ّ ع بالصحة، وبإمكانك أن تحمل ّ السالح.«27 ّه ّ إن خالصة متخي ّ ل الجهادي ّ ة يف نظر »عبد الله عزام« أنه »جهاد« إسالمي ضد إلحاد سافر وكفر بواح، ومحل ّ أفغانستان لتندحر الشيوعي ّ ة من تلك األرض؛ إال أنه بالتوازي مع ترشيع »الجهاد« وتحويله إىل »براكسس« سعى ّ »عبد الله عز ّ ام« إىل أسطرته من خالل عرض قصص وشهادات عن كرامات املجاهدين. وقد اتجهت األسطرة نحو ّ ّ د ات ّ صاله بعامل الغيب، وتدعم أطروحة السند اإللهي ّ إضفاء قداسة عىل املجاهد حي ّ ا ومي ّ تا، ومنحه قوة خارقة تؤك ّ للمجاهدين. واستند »عبد الله عزام« إىل سرية النبي وصحابته من أجل اإلقناع بحقيقة الكرامات التي حفت ّ بجهاد األفغان وحربهم ضد السوفيات. وحرص أيضا عىل إثبات صدق الروايات املنقولة من أرض املعركة28. وتعرض الكرامات قصصاً وشهادات تتجّل ّ بها القدرة اإللهي ّ ة الخارقة يف بعض الظواهر العجيبة، مثل قصة الطيور التي تدافع عن املهاجرين، والتي جعلت الصحفي اإليطايل يسلم29 ّ ، أو تحطيم الجهاد األفغاين لكل ّ املقاييس الطبية؛ فحني يجزم األطباء مبوت مقاتل يشفى30 ّ ، أو ظهور كرامات رائحة الدم الطيبة لخمسة من املجاهدين،31 وغريها من الحكايات ّ وشهادات الصحفيني األجانب لتحقيق مصداقي ّ ة أكرب للخرب. ولضامن فاعلي ّ ة املقد ّ س وتحصينه من كل نقد، يرى »عبد ّ الله عز ّ ام« أن »الكرامات ال ينكرها إال جاحد أو جاهل«32 ّ . ولذلك، ال اختيار أمام املرء سوى أن يصد ّ ق، أو أن يصنف جاحداً ً أو جاهال ّ ، ويقيم حجي ّ ة رأيه عىل موقف »ابن تيمي ّ ة« الذي يقر ّ بالخوارق والكرامات، ويعدها وسيلة إلقامة دين الله. والحديث عن الكرامات ليس حكرا عىل هذه التجربة. وإّن ّ ا عج ّ ت الروايات الشعبية يف تجربة »عمر ّ املختار« الجهادي ّ ة بقصص الخوارق والبطولة؛ إال ّ أن ّ فضل »عبد الله عز ّ ام« كان يف نقل تلك الكرامات من مجرد ّ ّ قها يف موسوعته ودعمها ّ روايات شعبي ّ ة قد تغلب عليها الخرافة أو التصو ّ ف الشعبي إىل الزمة من لوازم »الجهاد« وث ّ بحججه. ويبدو أن ّ مسار الت ّ قديس الذي سعى »عبد الله عز ّ ام« إىل إثبات حقيقته يف »الجهاد« األفغاين ّ هو رد فعل ّ عىل مسار التدنيس الذي شكك يف »الجهاد«، ونقد االتجاه إىل أفغانستان بدل فلسطني، وكشف العالقة الوطيدة بني ّ الجامعات املقاتلة يف أفغانستان والواليات املت ّ حدة األمريكية. فاألسطرة تغيري لوجه الحقيقة، طمسا للعالقة بالواليات ّ املتحدة األمريكي ّ ة، وتأسيسا ملتخي ّ ل العالقات مع القوى الغيبية. 27 المرجع نفسه، ج،4 ص 459 28 يقول عبد هللا عزّام: »يجمع المراقبون أنّ الجهاد األفغاني خارقة من خوارق العصر أذهلت المؤرخين أن يفسّ روها وحارت عقول المراقبين في فهمها« عبد هللا عزّام، موسوعة الذخائر العظام، ج،2 ص 93 29 انظر: المصدر نفسه، ج،3 ص 827 30 انظر: المصدر نفسه، ج ،4 ص 327 31 المصدر نفسه، ج،1 ص 659 32 المصدر نفسه، ج،1 ص 659 13 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ ب- عوملة الجهادية: ّمك ّ نت تجربة »الجهاد« األفغانية من تكوين تجمع جهادي عريب ّ مه ّ د لتشكيل الجبهة اإلسالمي ّ ة العاملية لجهاد ّ اليهود الصليبيني. »وصدر بيانها األو ّ ل يف صورة فتوى، الذي دعا لقتل الأمريكان وقتالهم حت ّ ى يكفوا عن جرامئهم ّضد املسلمني.«33 ّ وقد قامت هذه الفتوى عىل اعتبار األمريكيني واليهود كفارا معتدين صائلني عىل أرض املسلمني ّ وعرضهم. ورش ّ عت بذلك لقتلهم بأي ّ ة طريقة ممكنة. فأضحى ذلك واجبا عىل كل مسلم قادر عىل »الجهاد«؛ فهو ّ فرض عني ال يحتاج الخارج إليه إىل إذن أحد. وقد مثلت أحداث الحادي عرش من سبتمرب سنة إحدى وألفني نقطة ّ تحو ّ ل رئيسة يف مسار الجهادية، وهي وإن كانت تتويجا ملرحلة نشاط »تنظيم القاعدة« الذي انتقل من مهده ّ األفغاين إىل عملي ّ اته النوعية يف مناطق أخرى، فقد استند إىل عقيدة راسخة، وهي العداء للنظام األمرييك الذي ّ أضحى النظام العاملي الوحيد املهيمن يف العامل بعد سقوط االتحاد السوفييتي. ويعترب »الجهاد العاملي« نتيجة ّ طبيعي ّ ة لتنامي مشاعر الكره للنظام العاملي الجائر الذي أسهمت يف انتشاره »الرقابة األمني ّ ة والرصاعات الد ّولية التي ّشكل املسلمون طرفا فيها.«34 ّ وهو أيضا نتيجة طبيعي ّ ة لثورة االتصاالت التي مكنت من معاينة رصاعات املسلمني ّ ضد أعدائهم يف العامل. ووف ّ رت أرضي ّ ة للدعوة عرب القنوات التلفزيوني ّ ة الدعوي ّ ة، ومنحت التنظيامت الجهادية آليات جديدة للتعبئة والتجنيد باستعامل وسائل االتصال الحديثة35 ّ . وقد مثلت أحداث الحادي عرش من سبتمرب وسيلة ّ لنرش فكر القاعدة وتوجيه كثري من الناقمني عىل الوضع العاملي ليجدوا يف »الجهادي ّ ة« إيديولوجيا أصولية ملناهضة ّ العوملة، وهو ما جعل »كريستينا هلميتش« تطلق عىل هذا الصنف من الجهادية »الجهاد السلفي الكوكبي«36. فقد ّ امتد أثره يف العامل بأرسه. وكانت تفجريات الحادي عرش من سبتمرب الوسيلة األنجع لتحويل هذا التنظيم إىل العدو ّ األو ّ ل للواليات املت ّ حدة األمريكي ّ ة، حيث ذاع صيته يف وسائل اإلعالم العاملي ّ ة. وقد متي ّ ز بخلق تنظيم عاملي ّ استغل ثورة ّ االت ّ صاالت ليتمكن من نرش أفكاره وكسب األنصار. فوسمت هذه املرحلة من »الجهاد املعومل« بأن ّ ها تضم ناشطني ّ عزلتهم الحياة يف املنفى »عن بيئتهم العسكري ّ ة السياسي ّ ة األصلية، وصبغتهم برؤية عابرة للحدود.«37 ّ ال تعرتف بأي ّ حدود للد ّ ول أو بنطاق محد ّ د »للجهاد«. وتقوم بترشيع العنف من أجل مواجهة العدو البعيد. وأضحت أمريكا ّ العدو ّ األو ّ ل لهذا التنظيم الذي دعا إىل توحيد املسلمني يف مواجهة عدو ّ هم الخارجي. 33 أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي صلى هللا عليه وسلم، ص.185 على الرابط التالي:عزمي بشارة، تنظيم الدولة المكنّى "داعش"، الجزء األوّل إطار عام ومساهمة نقديّة في فهم الظاهرة، ص 113 35 "وصف حميد مير، الصحافي الباكستاني ومؤرخ السيرة الذاتيّة للشيخ بن الدن، كيف راقب رجال القاعدة مدبرين جرّاء تعرّض معسكراتهم التدريبيّة للقصف األمريكي في تشرين الثاني نونبر العام ،2001 وقال حميد مير: "كان كل رجل من رجال القاعدة يحمل جهاز كمبيوتر نقاال إلى جانب رشاشة الكالشينكوف." عبد الباري عطوان، القاعدة التنظيم السري، ط،1 بيروت، دار الساقي، ،2007 ص 147 36 عزمي بشارة، تنظيم الدولة المكنّى "داعش"، الجزء األوّل إطار عام ومساهمة نقديّة في فهم الظاهرة، ص 113 37 توماس هيغهامر، الجهاد في السعوديّة، قصّ ة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ط،1 بيروت، الشبكة العربيّة لألبحاث والنشر، ،2013 ص 151 14 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ وقد تناسلت عن هذا التنظيم مجموعات محلي ّ ة للجهادي ّ ة لعل ّ من أهمها فرع القاعدة يف العراق الذي مثل ّ نواة صنف جديد من الجهادية بدأ متوافقا مع القاعدة وانتهى مختلفا معه. ّ ج- مرحلة الجهادية الطائفية: ّ كان لسقوط النظام البعثي يف العراق سنة ثالث وألفني أثر كبري يف البنية السياسي ّ ة والسوسيولوجية للمجتمع ّ العراقي. فقد سب ّ ب االحتالل األمرييك وصعود أحزاب طائفي ّ ة إىل الحكم مارست التمييز واضطهدت »أهل السنة« ّ يف العراق يف تنامي مشاعر النقمة، وتحو ّ ل الجهادي ّ ة من صيغتها القاعدية )نسبة إىل القاعدة( القامئة عىل مواجهة ّ إىل ّ األمريكيني إىل حرب طائفي ّ ة استهدفت يف البداية األمريكيني وحك ّ ام الشيعة عىل حد ّ سواء، ثم ّ تحولت تدريجيا ّ حرب طائفي ّ ة ضد ّ العدو ّ القريب ال تفر ّ ق بني عسكري ّ ومدين ّ ، وتستعمل أسلوب التفجريات االنتحاري ّ ة والسيارات ّ املفخ ّ خة والعبوات الناسفة إلضعاف الخصم الشيعي واالنتقام من سياساته الجائرة ضد ّ أهل السنة يف العراق. وقد استطاع »أبو مصعب الزرقاوي« )ت 2006 ّ م( حشد املقاتلني وخاصة األجانب منهم الذين كانوا يف العراق أصال. ّ واتخذ نهجا سلفي ّ ا جهاديا تجاوز استهداف الجيش األمرييك إىل استهداف الشيعة واملدنيني. فكان »يخوض معركة ّ اإلسالم ضد ّ املرشكني والكف ّ ار والرافضة، كام يزعم، ومل يكن قابال ألية مساومات أو حلول وسطى، ورّب ّ ا مل مييز بني ّ ّ ها يف خانة الكفر. وتعر ّ ض »الزرقاوي« لنقد علني االحتالل والحكومة والشيعة وبعض فصائل املقاومة بوضعها كل ّ من مرشده نفسه، »أيب محم ّ د املقديس ّ «. كام قام علامء الصحوة اإلسالمية أمثال »سلامن العودة« بانتقاد تنظيم القاعدة عىل تسامحه مع الزرقاوي.«38 ّ وقد أشاد »الظواهري« بأداء »الزرقاوي« وأثنى عىل التزامه بالعقيدة، إال ّ أن ّ ذلك مل يحجب التحو ّ ل الذي شهدته التجربة الجهادي ّ ة من قتال العدو ّ البعيد عىل نطاق عاملي إىل قتال العدو البعيد ّ والقريب. ولكن يف نطاق إقليمي ّ مت ّ صل مبشاكل العراقي ّ ني ومعاناتهم. وقد صن ّ ف »فواز جرجس« »الزرقاوي« يف ّ إطار االنتامء »إىل موجة جديدة من السلفيني الجهاديني املأخوذين بسياسات الهوية والكفاح لتنقية اإلسالم وأرايض ّ املسلمني من املرتد ّ ين. وهكذا يتصد ّ ر الشيعة حسب هؤالء الئحة األعداء الحقيقيني أو املتخيلني.«39 وبعد مقتل »أيب مصعب الزرقاوي« أعلن »أبو عمر البغدادي )ت 2010 ّ م(« إقامة »دولة العراق اإلسالمية« التي أصدر »بن الدن« )ت 2011 ّ م( بيانا صوتيا لتأييدها وإضفاء الرشعية عىل قيامها ضامنا النضوائها تحت لواء القاعدة زمن ضعفه. فكان ّ إعالن الد ّ ولة »مثرة تزاوج اللحظة العراقية واملوروث الثقايف لفكرة الخالفة.«40 ّ واصل يف نهج الجهاد الطائفي، وشهد بني عامي 2006 و2008 بناء جدران عازلة بني األحياء يف بغداد ورمي عرشات الجثث يوميا يف الشوارع الفاصلة41. 38 عزمي بشارة، مرجع مذكور، ص 122 39 فوّاز جرجس، داعش إلى أين؟ جهاديو ما بعد القاعدة، ترجمة محمّد شيّا، ط،1 بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ،2016 ص 82 40 فالح عبد الجبار، دولة الخالفة التقدم إلى الماضي، ط،1 قطر، المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات، ،2017 ص 74 41 انظر: المرجع نفسه، ص 76 15 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ ولعل ّ ما اعتربته بعض القيادات السلفي ّ ة انحرافا عن النهج السلفي ّ قد أفاد جبهة النرصة يف تجربتها »الجهادية« يف مطلع عام 2012 ّ التي عادت إىل األمنوذج الجهادي ّ الذي تبنته القاعدة، وهي تقيم بنيانها الجهادي عىل مواجهة ّ النظام السوري القائم عىل مرشوع علامين. ويرى البعض أن ّ هدفها األسايس السري عىل خطى »أيب مصعب الزرقاوي« يف تبنيه مفهوم »المركزية« »الجهاد« وتأسيس رسايا جهادية دون االرتباط بروابط تنظيمية واضحة. وهدفها دفع ّ صائل الغزاة، إال ّ أن ّ البعض اآلخر يرى فيه مكم ّ ال ملرشوع »الجهاد« يف بالد الر ّ افدين ودولة العراق اإلسالمي ّ ة؛ ألن ّ »الجوالين« نشأ يف كنف الجهاد العراقي، ومن ثم ّ فهو من أتباع »البغدادي«42. د- مرحلة احتكار الجهاد: ّ كان إعالن »أيب بكر البغدادي« عن قيام »الدولة اإلسالمية يف العراق والشام« مثريا للخالف منذ بدايته؛ فلم ّ تكن مسألة إعالن ضم ّ جبهة النرصة أمرا يقبله التنظيم يف سورية ال ملجر ّ د النزعة السلطوي ّ ة التي حف ّ ت بنشأة الدولة ورغبة قادتها يف احتكار القرار، وإّن ّ ا الختالف أساليب املواجهة بني التنظيمني. فلنئ استطاعت »جبهة النرصة« كسب ّ حاضنة شعبي ّ ة وتركيز جهودها عىل مقاومة النظام متهيدا لقيام إمارة إسالمي ّ ة، فقد كان هاجس »داعش« التمدد ّ وإن بقوة السالح ومقاتلة إخوان األمس من الجامعات املجاهدة أو القبائل املعارضىة التي رفضت البيعة لتنظيم الدولة43 ُ ، وأصبح الخالف واضحا بني امل ّ ؤمنني بإمارة الحرب والرافضني منح الدولة اإلسالمي ّ ة بيعة عامة، وبني املدافعني ّ عن الد ّ ولة واملؤمنني برشعيتها. وبدأت بذلك، حرب الرسائل بني الطرفني التي رسعان ما تحو ّ لت إىل حرب حقيقية. ّ قام منهج »تنظيم الدولة« عىل مجال الد ّ ولة الذي بدأ باحتالل أراض يف العراق وأهم ّ ها املوصل، ثم ّ متدد يف ّ املناطق السني ّ ة ويف سوري ّ ة، وكان متدده عىل حساب التنظيامت األخرى التي خّيت بني املبايعة أو القتال. وقد خاض ّ التنظيم مواجهات عسكري ّ ة ضد معارضيه من الجامعات املقاتلة أو القبائل. ّ تبن ّ ت »داعش« منهجا جديدا يف »الجهاد« يقوم عىل احتكار الرشعي ّ ة الجهادي ّ ة وترشيع قتال كل معارض ّ للدولة. فجرى »توسيع تفسري الفتاوى بشأن جهاد دفع الصائل العتبار األم ّ ة معر ّ ضة عموما لتدخ ّ ل خارجي. ومن ّ هنا، فإن »الجهاد« فرض عني ال يستأذن فيه أحد44. ّ واستطاعت »داعش« بحكم سيطرتها امليدانية فرض تأويلها ّ »للجهاد« واحتكاره. »فأقدم التنظيم عىل قتل كثري من املشايخ املخالفني له مم ّ ن يحظون مبكانة لدى العامة. وكان شيوخ التنظيم يف قامئة املستهدفني، باعتبارهم األكرث ابتداعا.«45 وبالتوازي مع سياسة تصفية املختلفني 42 حمزة المصطفى، ضمن كتاب جماعي: تنظيم الدولة المكنّى "داعش" الجزء الثاني التشكّل والخطاب والممارسة، ط،1 المركز العربي للدراسات واألبحاث، ،2018 ص 231 43 يقول فواز جرجس: "ويدهس المرء من المستوى الذي بلغته "النصرة: في غرز نفسها وسط المجتمعات المحليّة في سورية، وعلى نقيض الموقف الذي كان لتلك المجتمعات من "داعش". فقد دافع المثقفون السوريون المعارضون لألسد عن "النصرة" باعتبارها معتدلة وجزءا من المجتمعات المحلية، بينما هم عارضوا داعش"في تطرفها وطموحاتها في التوسع خارج الحدود." داعش إلى أين؟ جهاديو ما بعد القاعدة، ص ص ،167 168 44 انظر عزمي بشارة، مرجع مذكور، ص ص ،200 201 45 المرجع نفسه، ص 2018 16 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة من الشيوخ فقد احتكرت »داعش« املنابر يف املساجد. وحاولت فرض تأويلها من خالل تطبيق الحدود ومعاقبة ّ املخالفني عقوبات علني ّ ة. وفرضت تصو ّ راتها عىل الربامج التعليمي ّ ة، فحذفت مثال مادة الرتبية اإلسالمية التي ّ اعتربتها مرتبطة بالنظم العلامني ّ ة وأقر ّ ت ماد ّ ة الرتبية الجهادي ّ ة. وباملقابل، خاضت »داعش« حربا شاملة ضد كل ّ التنظيامت التي وقفت يف وجهها. ومل يعتمد التنظيم عىل الد ّ عامة الدينية وتأثري الشعور الديني لتجنيد املقاتلني ّ يف حربه »الجهادية« فحسب، وإّن ّ ا وظ ّ ف أيضا الوسائل املادية لجمع املقاتلني مثل تخصيص رواتب لهم ومتكينهم ّ من حوافز يف حاالت الن ّ رص وحياة اجتامعي ّ ة ال تخلو من تسهيل سبل الزواج واإلقامة. فكان التحو ّ ل التدريجي من ّ جهادي ّ ة قامئة عىل العقيدة إىل جهادي ّ ة االرتزاق الذي وسم التنظيم وكثريا من املنتمني إليه، وهو ما جعل »فواز ّ جرجس« يرج ّ ح فرضية تسّت النظام البعثي القديم باسم »داعش« من أجل تطبيق سياساته والعودة إىل السيطرة ّ عىل املشهد السيايس46 ّ ، وهي فرضي ّ ة تثري االختالف ولكن ّ األكيد أن ّ الجهادي ّ ة قد شهدت طورا جديدا من التوحش ّ واستعراض العنف جعل من »تنظيم الدولة« عاجزا عن اكتساب الحاضنة الشعبية مثلام نجح يف ذلك »تنظيم ّ النرصة«، بل إن ّ ه وج ّ ه الطاقة »الجهادي ّ ة« ضد ّ كل منافسيه من التنظيامت األخرى التي تتفق معه يف املبادئ الكربى، ّ ولكن ّ ها ترفض الخضوع لسلطته. فكانت »التجربة الجهادي ّ ة« التي قامت عليها سياسة »داعش« سلطوي ّ ة متوحشة تستعرض العنف من أجل ترهيب أعدائها وضامن الوالء لها وتؤسس مستعمرة للعقاب من أجل إخضاع الناس ّ وحملهم عىل الطاعة قرسا وال تخلو من نزعة براغامتية يف التعامل مع مفهوم »الجهاد«. خاتمة: ّ ّ ر بالظروف التاريخية ّ لقد بي ّ نا من خالل استعراض املراحل التي مر ّ بها مفهوم »الجهاد« والجهادي ّ ة أنه تأث ّ وبنزعات اإلفتاء املختلفة التي تدخ ّ لت فيها مرجعي ّ ات ديني ّ ة تراوحت بني التعامل مع »الجهاد« باعتباره آلية مقاومة ّ أو توظيفه من أجل دفع الصائل. واختلفت املواقف بني أولوي ّ ة »الجهاد« ضد ّ البعيد وإكساب الحركة الجهادية بعدا ّ عوملي ّ ا، وبني الرتكيز عىل العدو ّ القريب وتحويل »الجهاد« إىل أداة حرب طائفي ّ ة أو حرب سياسي ّ ة ضد نظام بعينه مثلام هو الحال يف سوريا أو ليبيا. ّ ولكن ّ ه فضال عن هذا التقسيم، أمكننا القول إن ّ الجهادي ّ ة قد مر ّ ت مبرحلتني أساسيتني: املرحلة األوىل اكتسبت ّ فيها رشعي ّ ة الدفاع عن األرض وقتال املستعمر، وهو صنف مل يلق اإلدانة الدولي ّ ة لدفاعه عن قضايا عادلة. لكن ّ الصنف الثاين الذي بدأ ينترش بعد تجربة الجهادي ّ ة األفغاني ّ ة، فقد كان محل ّ نزاع وضعفت رشعي ّ ته الدولية من ّ خالل بروز مفهوم اإلرهاب وتحو ّ ل أهداف »الجهادي ّ ة« إىل أهداف مدني ّ ة. فقد التبس مفهوم الجهادية مبفهوم ّ اإلرهاب وطغت عليه النوازع اإليديولوجي ّ ة. وانقلب من حرب ضد ّ أمريكا وحلفائها إىل حرب طائفي ّ ة ضد ّ الشيعة أو حرب سياسي ّ ة من أجل إزاحة أنظمة بعينها وسمت بالكفر. وقد تراوحت التجارب الجهادية من هذا 46 انظر: فوّاز جرجرس، مرجع مذكور، ص -135 155 17 الظاهرة الجهاديّة في اإلسالم السياسيّ عمّ ار بنحمّ ودة ّ الصنف بني القدرة عىل اكتساب الحاضنة الشعبية وإقناعها مبرشوعها الجهادي، وبني الفشل يف اكتسابها نتيجة ّ سياسة التوح ّ ش وفرض مستعمرة العقاب عىل السك ّ ان وتطبيق الحدود عىل الن ّ اس بشكل استعرايض ومعاداة كل ّ الرافضني للمبايعة وغري املؤمنني برشعي ّ ة »الدولة اإلسالمية«. ّ وقد واكب هذا االختالف خالفا مل يتجس ّ د حروبا عىل أرض الواقع، وإمنا تجسد أيضا يف شكل حرب فتاوى جعلت ّ ّ ة رشعي ّ ة لتربير مواقفه وتأويله للجهاد، ويجن ّ د شيوخه للرد ّ عىل الخصوم. ولعل من أبرز تلك ّكل فريق يبحث عن أدل ّ الحروب الكالمي ّ ة ما جد بني »داعش« و»جبهة النرصة«، وهي يف الحقيقة حرب بني منهجني مختلفني يف رؤية املشهد ّ السيايس ّ ، ويف التعامل مع الحاضنة الشعبي ّ ة ويف تصور »الجهاد«. ّ خالصة القول إن »الجهاد« مفهوم مرن تتغّي حقائقه بتغّي ّ املرجعي ّ ة الديني ّ ة التي متث ّ ل سنده النظري وبحسب ّ ّ نا يف سياق عرضنا ألنواع »الجهاد« قد أغفلنا ألسباب منهجية الواقع الذي يفرض ترجيح تأويل عىل تأويل آخر. ولعل ّ أمناطا أخرى وظفها بعض الزعامء السياسيني من أجل إضفاء رشعية عىل سياساتهم ومؤسساتهم، وهي تخرج عن ّ دائرة اإلسالم السيايس وفق الحدود التي ضبطناها، مثلام فعل الرئيس التونيس الراحل »الحبيب بورقيبة« الذي ّ أطلق عىل نفسه اسم »املجاهد األكرب« واحتكر تأويل الخطاب الد ّ يني، ويعترب بورقيبة أن تحرير الوطن من ّ ّ ف. وقد رصح بهذا ّ االستعامر هو »الجهاد األصغر«، بينام »الجهاد األكرب« هو كسب معركة التنمية وتحدي التخل ّ املوقف يف أكرث من خطاب، ونذكر عىل سبيل الذكر قوله: »لذلك أعلنا غداة االستقالل أن كفاحنا مل ينته، وأن معركة ّ التحرير، وإن استمر ّ ت فيام بعد لتجسيم السيادة يف كل ّ ميدان، قد فتحت يوم االستقالل عهد الجهاد األكرب ضد ّف.«47 ّ . هذه الص ّ فة الرئيسة والخاص ّ ية الكربى التي متث ّ ل جوهر الد ّ ين واألساس الحقيقي ّ لكل قراءة أخرى التخل ّ اختلفت عن هذه القراءة تعترب من منظور الخطاب السيايس ّ معادية للجوهر الحقيقي والسامي لإلسالم؛ فالعالقة ّ بني اإلسالم والد ّ ولة ال تقبل التوظيف إال ّ من جهة واحدة: أجهزة السلطة الحاكمة. وما عدا ذلك، فهو تآمر عىل ّ الدولة والشعب.«48 ذلك هو الصنف الذي ميكن أن نطلق عليه »مأسسة الجهاد وتقنينه« ليصري أداة بناء بدل ّ أن يكون »جهادا« حربي ّ ا ال هم ّ ألصحابه سوى القتال والقتل واستعراض العنف، إال ّ أن ّ الثابت يف مفهوم الجهادية ّ يف كل ّ هذه األنواع هو طابعها السلطوي ّ القائم عىل فرض تأويل بعينه. ولعل ّ أقل ّ أنواع الجهادي ّ ة سلطوية هي ّ الشعبية لقيامها عىل مرشوعية الدفاع عن األرض وقناعة املجاهدين بسمو الهدف الذي يدافعون عنه، وهو تحرير ّ أوطانهم من االستعامر. أم ّ ا األنواع األخرى، فكان من السهل تشويهها باسم اإلرهاب أو العنف أو التوحش أو ّ الطائفي ّ ة أو استهداف املدنيني الذين ال ذنب لهم. فقد ظل ّ مفهوم الجهادية مرتاوحا بني مرجعيات مقدسة ترشعنه ّ ومامرسات مدنسة تشوهه

عن "المركز العربي لدراسات التطرف"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية