
لا تقلّ الروائع القصصية القصيرة لنجيب محفوظ عن رواياته الكبرى من حيث العمق والجمال، وأيضاً الرؤى التي قصها على هيئة أحلام، والتي أودعها ترميزات مكثفة، ما زالت معرض تكهن من الباحثين حول مقاصدها. واحدة من روائعه الصغيرة قصة "الصعود إلى القمر"، التي يتحدث فيها رجل مُترع بالحنين إلى مهندس، يريده أن يُعيد إليه طفولته، بأن يبني قطعة أرض خلاء بتصميم بيته القديم نفسه، بينما يقترح عليه المهندس أن يبنيها مشرباً للعصير ومحلّاً للحلوى لتدرّ عليه الربح، لكنّ الرجل المُترع بالحنين يصف له بيته القديم بحديقته وبغرفتيه وبمكان الفرن البلدي وعشة الدجاج، ومكان تطهير الزهور، ويريد مثلهم، يصدم هذا التفكير الخيالي المهندس، لكن يأخذ هذا الوصف كل قارئ إلى بيته القديم، حتماً كان لكل منّا بيت لم تدخله الحداثة بعد، لكنّه كان أدفأ من كل البيوت التي سكناها.
تذكرت بيت جدي، خاصة في جملة محفوظ: "وأشرت إلى لون المساء الهابط على الحي من خلف القباب والمآذن". ذكرتني هذه الجملة بليل في أقاصي صعيد مصر، وقتها كانت الدنيا أكثر هدوءاً من ذلك، في وقت كانت تنام فيه القرى بعد العشاء، فيتهادى في هذا الليل صوت المديح النبوي والسيرة الهلالية يأتيان من بعيد، كانت الروح تطير، وكان الليل هنالك أغنى من أيّ ليالٍ أخرى في مناطق أكثر وجاهة.
ذكّرني أيضاً بطل الرواية، وهو مصمم على أن يصنع له المهندس المشربيتين، بصبارتين كانتا أمام بيت جدي، وكانت أمي تأخذ عصارتهما وتضعها على شعري، لهذا كلما اصطدم أنفي بتلك الرائحة، عدت طفلة في حجر أمي تلملم شعراً كثيفاً في ضفيرتين، تحكمهما بشريط أحمر، تذكرت الصباح أيضاً، الصباح الخالي من كل حمولة ليلية أو مسؤولية نهارية، كنت أستيقظ مع صوت العصافير، وأرى النور وهو يحلّ على رؤوس الأشجار، ويذهب بظلمة السماء شيئاً فشيئاً، ويترك نداه على أوراق الشجر.
تذكرت جدتي وحماماتها والأدعية التي كانت تقولها حين تدخل العشة، تذكرت أيضاً "التشهد" الذي كانت تقوله على "العجين"، بعد أن تختار عذراء لعجنه؛ لأنّ العذراء في نظرها الأكثر طهارة، تذكرتها وهي تحدث المعجن وهو ممتلئ حتى حوافه بالدقيق المبسوس مع الماء والسمن. تقول: "يا عجين، متعتبش عليّا... دي العافية اللّي فيا"، ثم تغطيه بصينية كبيرة وتتركه ليختمر...، تذكرت رائحة "الشيح" الذي كانت ترميه في الموقد، وهي تتمتم بأدعية؛ كلما ظنّت أنّ الحسد يُحيط بنا. تذكرت كذلك رُعبي الشديد من "خيال المآتة"؛ تلك العصي التي كانت تُثبت على شكل صليب، ويُلبسونها ثياب جدي الواسعة، ويخرجون أكمام الجلباب من طرفيها، ويضعون فوقه عمامته، ويضعونه على رأس الغيط؛ ليمنع الطيور من العبث بالبذور، وتحرك الريح الجلباب وينتفض قلبي رعباً...، ليت كل ما يتراءى لي الآن من خيالات تزعجني في الأيام والزوايا، ليست إلا "خيال مآتة" آخر!
تذكرت اللمبة الكيروسين أيضاً، كانت إضاءتها تشبع الروح بالخيالات، وتملأ النفس بمزاج غريب من السكون والتأمل، وكان يحلو لنا أحياناً صنع أشكال ومخلوقات بانعكاس ظل أصابعنا على الجدران الذي تصنعه اللمبة. تذكرت الحديقة الواسعة خلف البيت التي بَلغتُ فيها شعوراً عميقاً وأنا بعد دون السادسة، لم أفهم معناه إلا بعد ما يقرب من عشرين عاماً، فقد كان يحلو لي أن أجلس صامتة، وأسمع صوت حفيف الشجر والريح تحركه، والماء في مجاريه، وأتتبعه وهو يجري في الشقوق، وأنظر إلى بقع الشمس على الأرض الندية، مع صوت السكون الطبيعي العميق، وكان يأخذني شعور هائل من الفيض والتدفق، وأشعر بأنني والشجرة والشمس والريح والماء نسق واحد لكيان واحد.
عرفت فيما بعد أنّي كنت أمارس التأمل بالفطرة، دون مُعلّم ودون شيخ، ودون أن أفهم الكلمات الكبيرة، فقط سكنني المعنى الكبير.
كان بطل نجيب محفوظ يريد أن يصنع حالة، يشتري زمناً، يقبض على طفولته، لهذا وُفق نجيب محفوظ جدّاً في اسم قصته: "الصعود إلى القمر"؛ لأنّ القمر من بين كل مخلوقات الوجود يرتبط بالخيال والعذوبة والحنين والاستحالة أيضاً.