الصراع في الشرق الأوسط يأتي في الوقت المناسب بالنسبة لروسيا

الصراع في الشرق الأوسط يأتي في الوقت المناسب بالنسبة لروسيا

الصراع في الشرق الأوسط يأتي في الوقت المناسب بالنسبة لروسيا


كاتب ومترجم جزائري
14/11/2023

ترجمة: مدني قصري 

منذ أكثر من شهر تحوّل الاهتمام العالمي من أوكرانيا إلى غزة. ومن هذا التحوّل تستفيد روسيا كثيراً.

منذ بداية القتال بين حماس وإسرائيل، وروسيا الاتحادية تناور بشدة بموقفها الخاص في الشرق الأوسط. لا شك أنّ صلاتها البنيوية مع كل اللاعبين في الأزمة الحالية تسمح لها بتنفيذ إجراءات وإلقاء خطابات لا يوجد أي بلد أوروبي آخر على استعداد للقيام بمثلها.

في 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 استقبل نائب وزير الخارجية الروسي والممثل الخاص للرئاسة الروسية للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، قادة حماس في موسكو. وفي الوقت نفسه تظل العلاقة بين إسرائيل وروسيا قوية، ويتم الحفاظ عليها بشكل خاص من خلال تأثير مجتمع المهاجرين المؤثر في إسرائيل، الوافدين من الاتحاد السوفييتي السابق.

بالنسبة لموسكو، تُشكِّل سلسلة الأحداث التي بدأت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) تحوّلاً أشبه بضربة حظ وفرصة غير متوقعة. لقد انتقلت الحرب في أوكرانيا إلى حيّزٍ خلفي في الاهتمام الإعلامي والدبلوماسي، ويقدّم الكرملين نفسَه بصفته صانع السلام بين إسرائيل وحماس. فهل ستتيح "حربُ السوكوت" لروسيا بإعادة إطلاق نفسها على الساحة الدولية مع تسجيل نقاط في سياق مواجهتها الجيوسياسية مع الولايات المتحدة، التي تعتبرها المسؤولَ الرئيسي عن الفوضى الحالية في الشرق الأوسط؟

استثمار فرصة استراتيجية

تشكل هذه الأزمة، بالنسبة للاستراتيجية الروسية في أوروبا، فرصة غير متوقعة. فهي تأتي في وقت يحتاج فيه الاتحاد الروسي إلى استراحة ضمن التعبئة الدولية ضد عمليته العسكرية في أوكرانيا. لا شك أنّ الانتقال النسبي إلى خلفية الصراع الروسي الأوكراني يفيدها بشكل مباشر وعلى نطاق واسع. ولو فقط لأنّ واشنطن أرسلت لإسرائيل أسلحة كانت مخصصة في البداية لأوكرانيا.

منذ أكثر من شهر تحوّل الاهتمام العالمي من أوكرانيا إلى غزة. ومن هذا التحوّل تستفيد روسيا كثيراً

في خريف عام 2023 عجزت الجهود الأوكرانية من أجل استعادة أراضيها في تحقيق تأثيرات استراتيجية. إنّ الأراضي التي استعادت جيوشُ كييف السيطرةَ عليها منذ بداية حزيران (يونيو) جد مهمة، لكنها تظل غير متناسبة مع 20% من الأراضي الوطنية التي احتلتها روسيا وضمّتها بشكل غير قانوني. بالنسبة لموسكو تتيح الأزمة في الشرق الأوسط طيَّ صفحة الهجوم الأوكراني المضاد بسرعة أكبر، من أجل جعل الهجوم يبدو وكأنه حدث غير مهم.

بالإضافة إلى ذلك، تستحوذ الحرب في الشرق الأوسط على اهتمام وأنشطة القنصليات العالمية، في الوقت الذي يَظهر فيه انخفاضٌ ملموس في الدعم لأوكرانيا: في بولندا بسبب الصراع المرتبط باستيراد الحبوب الأوكرانية إلى أوروبا، وفي الولايات المتحدة في سياق الأزمة المؤسسية في الكونجرس، وفي أوروبا الوسطى، كما هي الحال في سلوفاكيا، حيث أدى فوز رئيس الوزراء الجديد روبرت فيكو إلى إضعاف وحدة الاتحاد الأوروبي في مواجهته مع روسيا.

وفيما وراء القادة فإنّ هناك أيضاً وسائل الإعلام والرأي العام في جميع أنحاء العالم التي أصبحت حالياً أقل اهتماماً بالمسرح الأوكراني والقتال العنيف الدائر في دونباس، بسبب التركيز على الصراع في الشرق الأوسط، وهو ما يوفر لروسيا شكلا من أشكال الراحة.

 

التكافل الوثيق بين جمهورية إيران الإسلامية والاتحاد الروسي يشكل مصدر قلق خاص لإسرائيل؛ فهو يمكن أن يعمل لصالح الاعتدال تجاه حزب الله

 

أمام الأمم المتحدة تمكنت روسيا من تعزيز مكانتها كزعيم للمعسكر المناهض للغرب، الحريص على حماية السكان المدنيين في غزة.

أمّا كيف ستستغل روسيا هذه الفترة من الراحة الإعلامية والدبلوماسية النسبية فأمرٌ لن يتضح على الفور. إنّ إعادة ترتيب مواقع القوات البرية، والحملات الدبلوماسية الثنائية، وتعبئة أصدقاء الكرملين في المنظمات المتعددة الأطراف، وتطوير سرد جديد حول الحرب في أوكرانيا، وما إلى ذلك، فهي مسائل يجري الإعداد لها في موسكو في الوقت الحالي. لكنّ نتائجها وآثارها لن تظهر إلا عند نهاية العام، ولا سيما خلال المؤتمر الصحفي التقليدي للرئيس فلاديمير بوتين.

من المؤكد أنّ روسيا لن تعيد ترتيب موقعها كلاعب إقليمي في أوروبا الشرقية، بل كلاعب عالمي، وخاصة في الشرق الأوسط. فهكذا قدّمت في 16 تشرين الأول (أكتوبر) مشروع قرار إلى الأمم المتحدة يهدف إلى التوصل إلى وقف إنساني لإطلاق النار في غزة. ولا شك أنّ رفض هذا النص - بسبب الأصوات "المعارضة" التي صوتت بها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا واليابان – أتاح لها تعزيز موقفها، في نظر ما يسمى ببلدان الجنوب، وخاصة الدول الإسلامية، وموقعِها كزعيم للمعسكر المناهض للغرب، الحريص على حماية السكان المدنيين في غزة. وذلك، مع التنديد بالانحياز الغربي لإسرائيل، وإلى حد تقديم نفسها كدولة تدافع عن القانون الدولي.

حشد حلفائها في المنطقة

بالنسبة للسياسيين الواقعيين الروس، تمثل هذه الأزمة أيضاً فرصة لتعبئة شبكات تحالفاتهم في العالم العربي والتركي والفارسي، وعلى نطاق أوسع، في العالم الإسلامي. قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، كانت روسيا الاتحادية تعزّز بشكل مستمر تواجدها في المنطقة.

في خريف عام 2023 عجزت الجهود الأوكرانية من أجل استعادة أراضيها في تحقيق تأثيرات استراتيجية

وفي العالم العربي، ابتداءً من عام 2015، أعادت روسيا تفعيل التحالف القديم مع عائلة الأسد لإنقاذ النظام في سوريا، من خلال تدخل عسكري حاسم. كما عززت علاقاتها التقليدية مع مصر في مجالات الأسلحة والأغذية الزراعية والطاقة. وقامت روسيا بدعم حليفتها الجزائر، كما استعادت موطئ قدم لها في ليبيا بدعمها للمشير خليفة حفتر. بل إنها انخرطت في التعاون مع المملكة السعودية في إطار أوبك+.

وفي ما وراء العالم العربي، وجدت روسيا في إيران مُورِّداً للطائرات المسيّرة للحرب في أوكرانيا، فضلاً عن الدعم في المحافل الدولية. ثم إنّ التقارب بين الرئيسين الروسي والتركي تقاربٌ حقيقي، حتى وإن كان هذا التقارب لا يثير أوهامَ تحالفٍ متين.

 

بعد ادعائها الدور الرائد في الحرب ضد الإسلام السُنّي العنيف، كيف يمكن لروسيا أن تدعي دور الوسيط، في حين أنها ترحب بزعماء حماس؟

 

فالصراع الحالي يتيح لروسيا إحياء هذه التحالفات البنيوية حول مسألة قديمة تراجعت في العالم الإسلامي وهي القضية الفلسطينية. لابد من التأكيد على تميز موقف روسيا في المنطقة لصالح هذا الصراع: فهي قادرة على حشد حلفائها في ما وراء خطوط الانقسامات الداخلية في المنطقة. ولا شك أنّ الأزمة الحالية، التي تعيد تنشيط العداء إزاء إسرائيل في الآراء العربية والفارسية والإسلامية بالمعنى الواسع، تؤكد على مركزية طرفٍ - روسيا - أراد الغرب مع ذلك أن يجعل منه طرفًا منبوذاً.

وهنا أيضاً لن تظهر تأثيرات هذا الموقف جميعها على الفور؛ إذ ستحاول روسيا، على المدى المتوسط، الاستفادة من وضعها الحالي لمواصلة تحديها لثقل الولايات المتحدة في المنطقة. ومع ذلك فمن المؤكد أنّ المكاسب الفورية  المباشرة يمكن استكمالها بمكاسب استراتيجية في المنطقة، إذ يمكن لروسيا أن تستغل الأزمة للتأكيد على مركزيتها، ولتذكير حلفائها بأنها تتحدث إلى الجميع، وأنه يمكنها بالتالي المطالبة بدور الوسيط. لكن بشرط الحفاظ على علاقتها مع إسرائيل.

الحفاظ على قنواتها في إسرائيل

إذا كانت روسيا تطالب بمكانة مسكونية في الشرق الأوسط، فإنها معوَّقة حالياً في إسرائيل بسبب عدة عوامل. لقد تلقت الدولة اليهودية بقلق كبير تحركات الحشود في داغستان، وهي جمهورية ذات حكم ذاتي تابعة للاتحاد الروسي وذات أغلبية مسلمة، ضد رُكّابِ رحلةٍ جوية قادمة من تل أبيب. 

وبعد ادعائها الدور الرائد في الحرب ضد الإسلام السُنّي العنيف، كيف يمكن لروسيا أن تدعي دور الوسيط، في حين أنها ترحب الآن بشكل متكرر بزعماء حماس؟

ويخشى العديد من القادة في إسرائيل من تعزيز محور موسكو - طهران وحماس في سياق العملية الإسرائيلية في غزة. إنّ التكافل الوثيق بين جمهورية إيران الإسلامية والاتحاد الروسي يشكل مصدر قلق خاص لإسرائيل؛ فهو يمكن أن يعمل لصالح الاعتدال تجاه حزب الله، ولكنه يمكن أن يساهم أيضاً في أقلمة (إضفاء الطابع الإقليمي) على الأعمال العدائية.

في هذه الأزمة، لدى روسيا الكثير مما ستخسره مع إسرائيل. شبكات نفوذها متعددة: أكثر من مليون نسمة (من أصل 9 ملايين) جاؤوا من الاتحاد السوفييتي السابق. وهم يشكلون أكبر جالية مهاجرة في إسرائيل، ولهم شخصيات عامة مؤثرة في المجالات السياسية والاقتصادية والمالية والإعلامية والتكنولوجية. فهل روسيا محكومٌ عليها بحكم موقفها الحالي بِإهدار رأسمالها في إسرائيل؟ يعتقد العديد من المراقبين أن ّالعلاقات الثنائية بين موسكو وتل أبيب وصلت الآن إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.

باختصار يجد الموقف الروسي في الشرق الأوسط نفسه عند مفترق طرق. فإمّا أن يكتفي الموقفُ بالتعامل مع الأزمة الحالية باعتبارها وسيلة لصرف الانتباه، وعندها سوف تغتنم روسيا بعد ذلك فترة الراحة الإعلامية وانخفاض الضغوط الدبلوماسية لتعزيز مواقفها في أوكرانيا. وإما أن تتولى دور تعزيز الجهات الفاعلة المناهضة لإسرائيل في الشرق الأوسط، بل إنها سوف تنفصل أكثر فأكثر عن الغربيين الذين تم حشدهم لصالح أمن إسرائيل. أو، أخيراً، تختار روسيا المسار الضيق كوسيط محتمل: في هذه الحالة فحتى يقبلها الإسرائيليون كوسيط فلا بد من تصحح التوترات العديدة في العلاقة الثنائية بين موسكو وتل أبيب.

مصدر الترجمة عن الفرنسية :

Le conflit au Proche-Orient tombe à pic pour la Russie




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية