الرّغبة في التّغيير بين شباب إيران.. تسدل السّتار على مشهد "الشّاه" و"الخميني"

الرّغبة في التّغيير بين شباب إيران.. تسدل السّتار على مشهد "الشّاه" و"الخميني"


21/03/2022

يوسف بدر

هل يفزع "الملا" في إيران الإسلامية من الانتقال إلى الجمهورية العلمانية؟!

طوال التاريخ السياسي والديني في إيران، كان الفقيه شريكاً للسلطة؛ وذلك باسم الإنابة عن "الإمام الثاني عشر الغائب"، الذي باختفائه يسقط إمكان تحقيق الدولة العادلة، ولو حتى كان على رأسها حاكم من شيعته. لكن حاجات الناس وتنظيم الحياة تستلزم إقامة الدولة، ولذلك تدرجت سلطة الفقهاء تدرجاً موازياً للسلطة السياسية؛ إذ كانت في يدهم الجوانب الشرعية من تعليم وقضاء وحسبة وتقليد وفتوى وجمع الزكاة والخمس والصدقات. فتعاظمت مكانتهم في أذهان المجتمع، وأصبحوا يشكلون طبقة أرستقراطية إقطاعية قادرة على مناكفة الدولة وشل حركتها وتحريك الشارع ضدها. 

كان هذا الشكل المؤسسي يشبه السلطة "البابوية الكاثوليكية"، في عصور ما قبل بناء الدولة الحديثة في أوروبا، وتخلصها من هذه السلطة التي بررت بتفسيراتها الدينية معاناة الطبقات الكادحة واستبداد السلطة الحاكمة.

كانت الدولة البهلوية التي أسسها رضا شاه عام 1925، نقطة فاصلة في تاريخ إيران السياسي والاجتماعي، فقد جاء الملك الجديد من أسرة غير ملكية، ولكنه استطاع أن يستميل رجال الدين من أجل اعترافهم به ملكاً للبلاد؛ بخاصة أنهم كانوا يقلقون من تحول إيران إلى نظام "الجمهورية" الذي يضر بمكانتهم. فقد كانت تجربة "الجمهورية الكمالية التركية" ماثلة أمامهم، وكان يرعبهم القضاء على السلطة والمظاهر الدينية في تركيا. 

ولذلك، دعموا استمرار النظام الملكي في إيران في مواجهة دعاة الجمهورية والمطالبين بالتحديث والاشتراكيين والشيوعيين.

لم تأتِ الرياح بما تشتهي السفن

سافر رضا شاه إلى تركيا وأقام فيها شهراً لكي ينقل تجربة كمال أتاتورك إلى بلاده؛ فعاد وعكف على تنحية رجال الدين جانباً، من خلال إصلاحات شاملة، من تغيير الزي الرسمي للبلاد وحرية الحجاب ونشر الحياة المدنية الحديثة ونزع السلطات من رجال الدين حتى من جهاز القضاء، وقطع الإعانات الحكومية عنهم، وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي الذي سلبهم أملاكهم وأوقافهم. 

كان رضاه شاه يسعى إلى تهميش طبقة رجال الدين؛ لأنها بمثابة عقبة وحائط صد أمام التحديث والتطوير؛ إذ كان يعتبر أن الـ"آخوند" و"الملا" (من ألقاب رجال الدين في إيران) هم الذين يقومون بتربية العقل الإيراني على الخرافة والجهل باسم الدين.    

أدرك رجال الدين في إيران تدريجياً أنهم لم يعودوا يستطيعون أن يشاركوا في شؤون الدولة، وأن يتحكموا في سياستها وساستها ومجتمعها مثلما كانوا يفعلون من قبل، لا سيما في فترة حكم "القاجار" التي أطاح حكمها رضاه شاه. 

ولذلك حاول رجال الدين عامةً تجنب الصراع المباشر مع أسرة بهلوي، وعدّلوا من "خطابهم الديني" وأصلحوه؛ لكي ينسجم مع الحياة الجديدة، ومع أفكار طبقة المثقفين والمتعلمين التي ظهرت مع الدولة الجديدة. واستفادوا من السياسة التعسفية والاستبدادية لثاني الحكام البهلويين، وهو محمد رضا شاه، الذي حكم إيران ما بين 1941 حتى 1979، وانتقموا لأنفسهم؛ إذ قدموا أفكارهم الدينية والشريعة الإسلامية كحل لاستبداد الشاه، وهو ما رسخ في أذهان الجماهير أن "الإسلام والشريعة ورجل الدين" هم الحل.

وقد ساعدهم الشاه نفسه على خطتهم للانتقام؛ إذ فتح لهم المنابر في الحسينيات والجامعات والإعلام من أجل التصدي للشيوعيين والماركسيين الذين كان يقلق منهم على استقرار حكمه. 

لكن رجال الدين والإسلاميين، كانوا أيضاً مثل بقية الأحزاب الأخرى، يتحركون في تشكيلات سياسية وحزبية وجماعية قادرة على تشكيل جبهة منظمة وموحدة ضد السلطة الحاكمة.

عاد لينتقم

إذا ما نظرنا إلى الدستور الإيراني بعد ثورة 1979، التي أطاحت الشاه وأعلنت تأسيس "الجمهورية الإسلامية"؛ نجد أن طبيعة النظام الجديد فيه، تبدو كأنها مرحلة انتقامية في مسار جدلي (ديالكتيكي) مع العهد السابق، فقد تمت "أسلمة" الجمهورية في إيران؛ ضماناً من رجال الدين لئلا تنزلق إيران إلى "العلمانية" التي كانوا يخشون منها. وضماناً أيضاً لئلا تشارك الاتجاهات المعارضة للإسلاميين كالماركسيين أو القوميين في الدولة الجديدة.  

وكان النظام الجمهوري الذي رفضوه من قبل فرصة لهم الآن للتخلص من النظام الملكي الذي قضى على سلطتهم الدينية داخل المجتمع الإيراني. 

والنقطة الأهم، أن هذا النظام هو الوعاء السياسي القادر على استيعاب نظام "ولاية الفقيه" بما يتماشى مع العصر الحديث.  فهذه المرة لم يفكر رجل الدين في تقسيم السلطة بين "السياسية" للحاكم و"الدينية" للفقهاء؛ بل كان ابتكار مؤسس الجمهورية الإسلامية، آية الله الخميني، هو دمج السلطة السياسية والدينية في شخص واحد، هو "الولي الفقيه"، يكون على رأس هرم السلطة، تحت اسم "المرشد الأعلى" الذي مهمته حماية الأجهزة المختلفة للدولة من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصيلة، كما جاء في الدستور الإيراني. 

أي أن أجهزة الدولة المختلفة كالسلطة التنفيذية والقضاء والبرلمان وغيرها من مؤسسات، تخضع لسلطة رأس هرم السلطة "الولي الفقيه". وهو ما تبعته تحولات تضمن لرجل الدين ومظاهره وأفكاره موقعاً في مركز السلطة والمجتمع في إيران، بعدما كان يقبع قبلها في الهامش.

لقد كان مشهد "اللص الهارب رضا مرمولك" في الفيلم الإيراني الشهير، "السحلية"؛ حينما هرب من السجن، بعدما استقر الأمر للثورة، في زي رجل دين، وانبهاره بتقدير الناس ورجال الدولة لشخصه لمجرد أنه ارتدي زي "الملا"، بعدما كان يطاردونه من قبل لأنه لص. وأيضاً استغرابه حينما فتح التلفاز ووجد أن رجل الدين بات يتحدث في كل شيء بداية بالطب حتى السياسة وتربية الطفل. بمثابة مشهد يلخص كيف تحول المجتمع في إيران وهيمن عليه رجل الدين في كل شيء باسم "ولاية الفقيه".

الجيل الجديد

لقد ساعدت حوادث ثورة 1979 وبعدها الحرب العراقية - الإيرانية، رجال الدين على تمرير أدبياتهم وأفكارهم بين الشباب؛ لكن الوضع اختلف الآن، وهناك جيل جديد لم يعايش معاناة جيل الآباء الذين قدسوا مكانة رجل الدين؛ بل يرفض هذه الجيل القيود التي فُرضت عليه ويتطلع إلى الانفتاح نحو العالم، فهو يآمل انفراجة في العلاقات الخارجية إذا ما نجح إتمام الاتفاق النووي في تحسين علاقات بلاده بالغرب. 

وبرؤية موضوعية، هذا لا يعني أن جيل الشباب كله مع هذا التغيير؛ بل هناك قاعدة من الشباب ما زالت يسيطر عليها خطاب المؤسسة الدينية، بخاصة الذين تعلموا في الحوزات الدينية.

لكن المظاهر الجديدة التي طرأت وبدت على الشباب الإيراني، خلال بدء احتفالات رأس السنة الإيرانية (النوروز)، بالرقص في الشوارع وحرية العلاقات الشخصية وعدم الالتزام الكامل بالحجاب، والظهور بصورة مختلفة عمّا ترسمه السلطة، على صفحات التواصل الاجتماعي؛ تكشف أن هناك تغييراً قد حدث بين الأجيال الجديدة في إيران، والظروف باتت لا تساعد السلطة على منعه بالقوة؛ بخاصة أن هناك مخاوف من ثورة هذا الجيل، الذي تشارك فيه المرأة بفاعلية، وبصورة تبدو فيها العنوان القادم للتغيير في إيران والقضاء على سلطة جيل الآباء، التي شكلتها رؤية رجل الدين. 

ولكن أيضاً، رجال الدين وخلال "خطبة الجمعة"، يعبرون بشدة وانفعال عن قلقهم من التحولات التي طرأت على المجتمع الإيراني؛ خشية أن ينزع ذلك منهم سلطاتهم، فنجدهم يحذرون من عدم الالتزام الكامل بالحجاب، ويعتبرون ذلك بداية لانحراف الشباب والتبعية للغرب. ويعلقون بالرفض على ركوب المرأة للدراجات البخارية. ويدعمون البرلمان الذي يسيطر عليه المحافظون والمتشددون في قانون "تقييد الإنترنت" بعدما اتهموا وسائل التواصل الاجتماعي بأنها شكلت عالماً موازياً لتغيير أفكار الجيل الجديد من الشباب.

المحصّلة

إن السلطة الدينية والاجتماعية لرجل الدين لم تختفِ في أي فترة من فترات تاريخ إيران؛ بل كانت تتناوب بين المركز والهامش. وطبيعة المجتمع والثقافة الإيرانية تبعث على ذلك.

مثل صعود رجل الدين في نظام "ولاية الفقيه" انتقاماً في إطار "جدلي"، من العهد البهلوي الذي دفع بسلطة الملالي إلى الهامش في السياسة والمجتمع.

يقلق رجال الدين حالياً من التحولات التي طرأت على الجيل الجديد من الشباب، التي قد تقضي على مكانتهم، وتأتي بالجمهورية "العلمانية" التي فزعوا منها منذ إعلانها في جارتهم تركيا على يد كمال أتاتورك.

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية