ما تزال الرواية الفلسفية، أو الملحمة النثرية التي كتبها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، في أربعة أجزاء وصدرت بين 1883 و 1885، تثير القراءات المتعدّدة للأفكار التي تتكون منها سلسلة المقالات والخطب التي تسلط الضوء على تأملات زرادشت، وهي شخصية مستوحاة من مؤسس الديانة الزرادشتية.
قارب نيتشة الفضائل الإنسانية، كما يراها، إلا أنه مضى بعيداً في تمجيد القوة، حيث يعد من أوائل من صاغوا نظرية الرجل الخارق، حتى إنه يسمّي نفسه "عبوة ديناميت".
وما أفاد نيتشة كثيراً في صياغة أفكاره "المتفجّرة" أنه من أبرز الممهدين لعلم النفس، وكان عالم لغويات متميزاً، وكتب حول المبادئ الأخلاقية والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية منها والمثالية الألمانية. وكتب عن الرومانسية الألمانية والحداثة أيضاً.
وبسبب الجدل التي تستبطنه أعماله، فقد فُهم نيتشة على نحو خاطىء، حيث اتهم بمعاداة السامية وحتى النازية، لكنه ظل يرفض هذه المقولات بشدة ويقول بأنه ضد هذه الاتجاهات كلها. ومع ذلك روّج لأفكار توهم كثيرون أنها مع التيار اللاعقلاني والعدمية، واستخدمت بعض آرائه فيما بعد من قبل أيديولوجيي الفاشية، وتبنت النازية أفكاره.
في "هكذا تكلم زرادشت" التي صدرت ترجمته عن دار الجمل بألمانيا من خلال علي مصباح، نطالع نيتشة مجدداً، وتأسرنا لغته الشعرية التي صهر فيها الفلسفة بالتأمل بالنزعة إلى الاكتمال، فـ"حيثما وجدت كائناً حياً كانت هناك أيضاً إرادة قوّة؛ وحتى في إرادة الخادم وجدت إرادة أن يكون سيداً"، وفيما يأتي مختارات من الكتاب:
فُهم نيتشة على نحو خاطىء، حيث اتهم بمعاداة السامية وحتى النازية، لكنه ظل يرفض هذه المقولات بشدة ويقول بأنه ضد هذه الاتجاهات كلها
لكنكم تظلّون شعباً في نظري حتى في فضيلتكم، شعب بأعين بليدة – شعب لا يفقه معنى للعقل!
العقل هو الحياة التي تجترح نفسها في الحياة؛ وفي المعاناة الخاصة تنمو المعرفة الخاصة، هل علمتم بهذا الأمر من قبل؟
وإن سعادة العقل هي هذه: أن يكون مضمّخاً بالدهن ومعمّداً بالدموع من أجل أن يكون أضحية – هل علمتم بهذا الأمر من قبل؟
وإنّ عماء الأعمى وبحثه وتلمّسه ليست سوى الدليل الشاهد على قوّة الشمس التي يحدّق فيها – هل علمتم بهذا الأمر من قبل؟
بالجبال ينبغي على مريد المعرفة أن يتعلّم البناء! وإنه لقليل أن يكون العقل قادراً على تحويل الجبال.
إنكم لا تعرفون من العقل سوى شرارته، لكنكم لا ترون أي سندان هو، ولا قسوة مطرقته.
لستم صقوراً؛ وهكذا لم يكن لكم أن تخبروا السعادة التي في رعب العقل. ومن لم يكن طائراً، لا يحقّ له أن يبني عشّه فوق الهوى السحيقة!
جيران للصقور، جيران للشمس
هذه هي أعالينا وموطننا: بالغ العلوّ مسكننا، وطريقه وعر على الملوثين وعلى لهفة أطماعهم.
ألقوا نظرة بعيونكم النقية في نبع مسرّتي أيها الأصدقاء! أنى له أن يتعكّر من جرّاء ذلك؟ بل ضاحكاً سيقابلكم بصفائه. فوق شجرة المستقبل نبني عشّنا؛ وغذاؤنا ستحمله لنا الصقور في مناقيرها، نحن المنعزلون!
(…)
وكما الرياح العاتية نريد أن نحيا فوقهم، جيراناً للصقور، جيراناً للثلج، جيراناً للشمس: كذا تحيا الرياح العاتية.
كما الريح أريد أن أعصف بينهم ذات يوم، وبعقلي أقطع أنفاس عقولهم: ذلك ما يريده مستقبلي.
حقاً أقول لكم، ريح شديدة هو زرادشت في وجه كل الأرذال، وإنّه لينصح أعداءه وكل من يبصق ويتقيّأ: إياكم والبصاق في وجه الريح!
جمالي يضحك منكم اليوم أيها الفضلاء، وقد تناهي لي صوته قائلاً: ويريدون أيضاً أن يُدفع لهم أجر!.
إنكم لا تعرفون من العقل سوى شرارته، لكنكم لا ترون أي سندان هو، ولا قسوة مطرقته
تريدون أن يكون لكم أجر، أيها الفضلاء! تريدون جزاء على فضيلتكم وسماءً مقابل الأرض، وخلوداً مقابل يومكم هذا؟
وها أنتم تسخطون عليّ الآن لأنني أعلّم أن لا محاسب ولا موزّع أجور هناك؟ والحقّ أقول لكم إنني لا أعلّم حتى بأنّ للفضيلة جزاءً في ذاتها.
أواه، هذا هو الذي يحزنني: في عمق الأشياء دُسَّت أكذوبة الأجر والعقاب. والآن هي ذي تندسّ أيضاً في عمق أرواحكم أيّها الفضلاء!
لكن لتكن كلمتي مثل خطم الخنزير الوحشي، تقوّض قاع أرواحكم؛ سكة محراث أريد لكم.
ولتُطرح كل خفايا دخيلتكم خارجاً في الضوء؛ وعندما تنطرحون تحت الشمس تربة مقلوبة، مفتّتة، عندها تُفصل أكاذيبكم عن حقيقتكم.
إذ هذه هي حقيقتكم: أنتم أكثر نقاءً من أن تتلوثوا بقذارة هذه الكلمات: انتقام، عقاب، جزاء...
تحبّون فضيلتكم محبّة أم لطفلها؛ لكن متى سمعتم بأم تبتغي أجراً على حبّها؟
وهناك أيضاً أولئك الذين يقبعون في مستنقعهم ويتكلمون من خلال قصبة: الفضيلة أن تجلس ساكناً داخل المستنقع. إننا لا نعضّ أحداً ونبتعد عن طريق من له رغبة في أن يعضّ وفي كل أمر لنا الرأي الذي أعطي لنا.
وهناك أيضاً أولئك الذي يحبّون الحركات ويفكّرون: الفضيلة نوع من الحركات. تراهم جاثين على ركبهم متعبّدين وأيديهم تتحرك بالتسبيح للفضيلة، وليس في قلوبهم من إدراك لشيء من ذلك.
وهناك أيضاً أولئك الذي يعتقدون أن الفضيلة في قولهم: إن الفضيلة أمر ضروري، لكن في أعماقهم لا يعتقدون إلا في أن الشرطة ضرورية.
وبعضهم ممن لا يستطيع أن يرى السمو الذي في الإنسان، يسمّي فضيلة أن ينظر عن قرب إلى كل ما هو خسيس فيه: وهكذا يسمّي نظرته السيئة فضيلة.
في التغلّب على الذات
حيثما وجدت كائناً حياً كانت هناك أيضاً إرادة قوّة؛ وحتى في إرادة الخادم وجدت إرادة أن يكون سيداً.
الحق أقول لكم إن خيراً وشراً خالدين في الثبات – أمر لا وجود له! كل شيء محكوم بضرورة تجاوز نفسه على الدوام.
بقيمكم وكلماتكم القائلة بالخير والشرّ تمارسون سلطة يا مثمّني القيم: وذلك هو حبّكم الخفيّ وبريق روحكم وارتعاشاتها وفورانها.
لكنّ عنفاً أقوى ينمو من داخل قيمكم، وتجاوزاً جديداً؛ فوقه تتكسّر البيضة وقشرة البيضة.
وكل من يريد أن يكون مبدعاً في الخير وفي الشر، عليه أن يكون أولاً مدمّراً وأن يحطّم القيم.
هكذا هو الشرّ الأعظم جزء من الخير الأعظم: لكنّ ذلك هو الخير المبدع.
لنتكلّم عن ذلك يا صفوة الحكماء، وإن كان ذلك شنيعاً. فالصمت أشنع؛ ذلك أن كل الحقائق المكتومة تتحوّل إلى سموم.
وليتحطم كل ما يمكن أن يتحطّم تحت وطأة حقيقتنا! فهناك دوماً بيت للبناء على الأنقاض!
الصنم الجديد
لا شيء فوق الأرض أعظم منّي؛ يد الله المرتّبة أنا، هكذا يدمدم الوحش؛ وليست طويلات الأذنين وقصيرات النظر وحدها التي تجثو على ركبتيها أمامه!
في داخلكم أنتم أيضاً، يا للأسف، أيتها الأنفس العظيمة، يهمس الوحش بأكاذيبه القاتمة! آه، إنّه يستشفّ القلوب الثريّة التي تبدّد نفسها عن طيب خاطر.
أجل، إنّه يستشفّ أنفسكم أنتم أيضاً أيها المنتصرون على الإله القديم! متعبون قد غدوتم جراء صراعكم، والآن هو ذا تعبكم يصبح في خدمة الصنم الجديد!
أبطالاً وشرفاء يريد الصنم الجديد أن يجعل من حوله! وإنه ليعجبه أن يتدفأ بشمس الضمير الهنيء – ذلك الوحش البارد!
سيمنحكم كل شيء ذلك الصنم الجديد إن أنتم عبدتموه: هكذا يبتاع بريق فضيلتكم ونظرة أعينكم الفخورة.
حيثما وجدت كائناً حياً كانت هناك أيضاً إرادة قوّة؛ وحتى في إرادة الخادم وجدت إرادة أن يكون سيداً
من الدودة إلى الإنسان
لقد سلكتم الطريق الطويل من الدودة إلى الإنسان، لكنكم ما زلتم تحملون الكثير من الدودة في داخلكم .. كنتم قردة ذات يوم وإلى الآن ما يزال الإنسان أكثر قردية من أي قرد.
أحب أولئك الذىن ينفقون أنفسهم لصالح الأرض.. أحب الذي يحيا من أجل أن يعرف.. أحب الذي يعمل ويبتكر كي يبني بيت الإنسان الأعلى، ويهيئ له الأرض والدابة والزرع.
أحب الذي يسرف في تبذير روحه إذ هو يهب دوماً ولا يريد الحفاظ على نفسه.. أحب الذي يكون عقلاً حراً وقلباً حراً .. انظروا، إنني المنبئ بقدوم الصاعقة واسمها الإنسان الأعلى..
الخليقة والخالق متحدان داخل الإنسان، هذا الخليط: مادة وشظايا وطين وزوائد وروث وفوضى، كما هو مفكر ومبدع.. هل تفهمون هذا التناقض؟!
هادئة روحي ومشعة، صافية كالجبل عند الضحى، لكنهم يرونني بارداً ومستهزئاً.. أعرف منذ زمن طويل أنّ الشيطان يعد لي مقلباً، وها هو الآن يجرجرني إلى الجحيم !
ولكنك اتخذت من الخطر حرفتك، والآن تمضي في حرفتك إلى حتفك ..
رفاق من الأحياء أحتاج.. لقد أنيرت بصيرتي.. أن أستميل الكثير إلى الخروج عن القطيع، ذلك هو ما جئت من أجله ..
أنظر إلى المؤمنين من كل عقيدة! على من يحقدون أكثر؟ على المبدع.. ذلك الذي يكسر ألواح قيمهم القديمة.. رفاقاً يريد المبدع، لا جثثاً ولا قطعاناً.. إن العقول الأكثر قوة وخبثاً هي التي ظلت تدفع بالبشرية نحو التطور، يوقظون روح المنافسة والرغبة فيما هو جديد وجسور وغير معهود ..
في اللحظة التي ينتهي المرء فيها إلى القناعة الأساسية بأنه لا بد أن تملى عليه أوامر من الخارج، يصبح مؤمناً! لذا لا بد من اكتساب الحرية من أجل إبداع جديد.. من أجل إعلان لا ..لا المقدسة ..
ليس عملاً سهلاً هو النوم، على المرء أن يهيئ نفسه له بالصحو طوال النهار.. عليك بالتصالح مع نفسك، فالذي لم يتصالح مع نفسه نوماً قلقاً ينام؛ عشر مرات عليك أن تضحك في يومك وأن تكون فرحاً، وإلا أزعجتك معدتك ليلاً؛ بيت الداء وأم الأحزان.. عندما يأتي الليل احترس جيداً من طلب النوم! لأنه لا يحبذ البتة أن يُستدعى..
أعرفهم جيداً أولئك الشبيهين بالآلهة، يريدون أن يؤمن الناس بهم، وأن يكون الشك خطيئة، وفي الحقيقة هم لا يؤمنون لا بالعوالم الماورائية ولا بشيء أكثر من إيمانهم بالجسد، وحتى جسدهم شيء مريض بالنسبة لهم، وبودهم لو يخرجون من جلدتهم.. لذا استمعوا إلى الجسد المعافى يا أخوتي.