الخلايا النائمة في حاضنة العنف

الخلايا النائمة في حاضنة العنف

الخلايا النائمة في حاضنة العنف


18/01/2024

ما بات يسمى اليوم بالخلايا النائمة يشكل التهديد الأكبر الذي يمكن أن يتعرض له مجتمع من المجتمعات، ويبدو أن هذا التشبيه ليس تشبيهاً اعتباطياً، فهو مستمد من طبيعة الخلايا السرطانية التي تعيش طوراً في حضانة الجسم قبل أن تنشط، فتتفشى فيه، وتفتك به.

 

الخلايا النائمة المضمرة في جسد المجتمع لها هذه الطبيعة، مادام هناك من يشعرون بالغربة في مجتمعاتهم، ويعتبرونها فاقدة للشرط الإيديولوجي الذي يقوم وجودهم عليه، أو مناقضاً له. هؤلاء يرون أنّ من واجبهم العقائدي، الذي يشكل منظومتهم الأخلاقية، هدم هذه المجتمعات من الداخل، ما دامت تناقض العقيدة التي ينتهجونها. ما يفيدنا في هذا التوصيف هي العلاقة الاغترابية التي تنظم أفراد هذه الخلايا داخل المجتمع؛ إذ يعتبرون المجتمعات التي يتواجدون بها منافية لطبيعة الحقائق التي يعتنقونها. والمشكلة تكمن في طبيعة هذه الحقائق، فهي من طبيعة خلاصية ومطلقة، ترتكز أساساً على نفي وإلغاء الآخر، وعدم النظر إليه إلا كنقيض يُحتم الواجب تصفيته أو إخضاعه، ومن دون هذا لن تتمكن هذه الجماعات (الخلايا النائمة) من تحقيق تصوراتها وعقائدها على أرض الواقع.

وما يتم تجاهله غالباً البحث العميق في منبع هذه الخلايا، أو بالأحرى حصره بالمتشددين دينياً فقط، وكأنّ كل من هم خارج منظومة التطرف الديني أفراد أسوياء، أو أنّ أفراد هذه الخلايا أو من ينتمون إليها لاحقاً لم يكونوا يوماً من الأيام أطفالاً ليس لهم علاقة بأي إيديولوجيا. ماذا عن المنبع الرئيس الذي يغذي الجذور الاغترابية للإنسان؟ الإنسان الذي يحرم من حريته وحقوقه، ويفقد إمكانية المشاركة في حياة مجتمعه، في واقع تنتجه سلطة تمارس عمليات التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بالتأكيد لا بد أن يجابه هذا الواقع بالقوة أو بالفعل؛ لأن الإنسان من دون قيمة يفقد معنى وجوده، والوتر العاطفي الذي يمكن أن تعزف عليه هذه العقائد التي تمنح الوهم صفة الحقيقة، تجعل هذه الأوهام تعيناً للفرد وخلاصاً له في الوقت ذاته، وهو ما يمكن أن يكون البديل لحالة انعدام المعنى.

يتعين على الضحية كي تحقق خلاصها أن تصبح من الجلادين حين تحين الفرصة

هذه المعاني الخلاصية التي تعين الذات في العالم تعيناً زائفاً، يتم تلقينها للطفل، لتشكل فيما بعد حدود تصوراته ورؤيته للعالم. فالرؤية التي يدعمها الشعور بعدم العدالة، ستكرس الطفل ضحية في عالم، سيعاقبه الطفل عندما يكبر. فأطفال المجتمعات العربية يعيشون في مناخ جميع معاييره قمعية ابتداء من الأسرة، مروراً بالمؤسسة التعليمية والمجتمع، انتهاء بالسلطة الحاكمة، وهي رأس الهرم الذي يضفي سطوته على جميع مناحي الحياة، فماذا لو أضيفت إلى هذا كله حروب أهلية، أو احتلال، أو قمع سياسي، حينها سيتعرفون على أعلى درجات العنف السياسي والاجتماعي، إنه العنف وقد وصل إلى مرحلة التوحش.

في أوقات الاحتراب التي تحرض الجانب اللاواعي من حياة الأفراد، يغدو من الضروري محاكمة الثقافة التي تنتجها الحرب ونقدها، كي لا تنقلب الثقافة على مضامينها الإنسانية، وتتحول إلى ثقافة عنفية، بالتالي إن أي وسيلة معرفية يتوخى منها إنتاج خطاب عقلاني يحتفي بالإنسان باتت ضرورة، وخاصة في واقع كواقعنا. ففي ظل الحروب الدائرة في البلاد العربية أصبح التفنن في إنتاج العنف كالتفنن في إنتاج السلع؛ كماً ونوعاً، حتى مناسيب الألم اختلفت مع تقدم الوقت واستمرار الحرب، فالحدث الذي كانت تُفغر الأفواه أمامه، صار يمر الآن كأنه لم يكن، وهذا ما يؤكد أن العنف تحول إلى ثقافة ضحيتها الأولى أطفالنا، الذين مازالوا في طور التأثر؛ حيث يشغلون موقع المتلقي.

هذا الموقع هو ما يحدد خطورة الخطاب الثقافي العنفي الموجه للطفل؛ لأنه سيشكل فيما بعد كيانه المعرفي والأخلاقي من دون أن يمتلك الفرصة لوعي هذا الخطاب، فأي ثقافة سيتلقاها مبنية على أسس عنفية مادية أو رمزية، سيقوم فيما بعد بإعادة إنتاجها، حسب تعبير بيير بورديو؛ إذ يتعين على الضحية كي تحقق خلاصها أن تصبح من الجلادين حين تحين الفرصة. فلا يخفى على أحد ما يعانيه الطفل العربي من عنف اجتماعي وسياسي وخاصة في مناطق الحروب، فالأطراف المتصارعة زجت الطفل في معركة لا علاقة له بها، ذنبه الوحيد أنه وجد في واقع لم يختره بنفسه، ليعايش ويعيش حرباً مارست عليه كل أشكال العنف من(قتل وتشريد ونزوح وتجويع وعسكرة وخوف وتخويف ورعب وترعيب).

 المقدمات الخاطئة ستسفر عن نتائج خاطئة، سيدفع ثمنها المجتمع بكامله، ما لم نُعد النظر جدياً بشكل الثقافة التي يتعرض لها الطفل

لا ريب في أنّ المقدمات الخاطئة ستسفر عن نتائج خاطئة، سيدفع ثمنها المجتمع بكامله، ما لم نُعد النظر جدياً بشكل الثقافة التي يتعرض لها الطفل، فغياب القيم المدنية والإنسانية عن هذه الثقافة، تجعل من الآخر أيّاً كان موضوعاً للنفي والإلغاء، وهو بدوره سينتج في مراحله المتقدمة ثقافة الحرب. بهذه الأنماط من التربية التي تقوم على مصادرة الذات الفاعلة وتعليقها، سنجعل من أطفالنا مستودعاً إستراتيجياً للعنف وخلايا نائمة تتحين الفرصة المناسبة للظهور. ومع الأسف الفرص المعلنة كثيرة في واقع يتربى فيه الأطفال على الثقافات ما قبل المدنية، والتي تدعمها كل الإمكانات العنفية الضامرة والظاهرة في بنى المجتمع ومؤسساته، فمع تقلص العلاقات الإنسانية وضمورها داخل حقل العنف، ستتقلص الفرص لإنتاج خطاب ثقافي، يقوم على مبدأ الاعتراف والتعاون والتشارك، التي من شأنها أن تنتج عقداً اجتماعياً، يكون سبيلاً إلى صياغة هوية وطنية ذات بعد إنساني ومدني، لذلك بات من الضروري تفكيك الحوامل المعرفية للخطاب العنفي من أجل إتاحة ممكنات تجفيف منابع العنف الذي يستهدف إنسانية الإنسان.

الصفحة الرئيسية