"الحضارة الإنسانيّة"... من الثّورة التّكنولوجيّة إلى "ما بعد البشر"!

"الحضارة الإنسانيّة"... من الثّورة التّكنولوجيّة إلى "ما بعد البشر"!

"الحضارة الإنسانيّة"... من الثّورة التّكنولوجيّة إلى "ما بعد البشر"!


24/08/2023

محمد حسين أبو الحسن

في مفاجأة من العيار الثقيل، استقال جيفري هينتون "عراب الذكاء الاصطناعي"، أيار (مايو) الماضي، مبدياً هلعه من التطور المتسارع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، باعتباره مؤشراً لمستقبل خطير على الأبواب، لا يعود القرار فيه للبشر؛ عندما تصبح الروبوتات أشد ذكاءً. هينتون ليس وحده. موجة الفزع ضربت كثيرين من أقطاب عالم التكنولوجيا، فهل يستحق الأمر كل هذا الرعب، أم أن طاقة الأمل لا تزال مفتوحة لإنقاذ البشرية من فناء محقق؟!

صدع في التاريخ

في آذار (مارس) الماضي، وقّع إيلون ماسك مالك شركة تويتر (إكس كورب) وستيف وزنياك أحد مؤسسي "أبل" وماكس تيغمارك أستاذ الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وآخرون كتاباً مفتوحاً، دعوا فيه مع أكثر من ألف وثلاثمئة شخصية عالمية إلى تجميد تطوير أنظمة روبوتات الذكاء الاصطناعي، لخطورة التمادي في تطويرها، دون قوانين أو ضوابط، ما يجعلها تنافس ثم تتفوق على الذكاء البشري وتهيمن على المجتمعات الإنسانية، في ظل عدم الاستعداد الكافي للأخطار المحتملة، بدءاً من الأخطار السيبرانية والسلوكيات المتحيزة، إلى سيطرة الخوارزميات على عقول البشر وتلقينهم معلومات خاطئة أو خطيرة، مثل كيفية صنع سلاح بيولوجي، إضافة إلى سرقة نصوصهم وفنونهم ووظائفهم، وربما الأسوأ، أي تدمير وجودهم.

قبل سنوات صرخ بيل غيتس مالك "مايكروسوفت" بأن الذكاء الاصطناعي "يحتمل أن يكون أكثر خطورة من كارثة نووية"، أما هنري كيسينجر ثعلب السياسة العالمية ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، وأحد مؤلفي كتاب "عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإنسان"، فقد عقد اجتماعاً سرياً، مع كبار خبراء الذكاء الاصطناعي، عام 2016، لمناقشة التغيير المفاجئ أو الصدع الذي يمكن أن تتسبب به الروبوتات الذكية في التاريخ، وخطورة اكتشافها مسار بناء الحضارات. بينما ذهب بيتر ثيل، أحد أبرز ممولي "أوبن إي. آي" إلى أن لا أحد يمتلك دليلاً بشأن كيفية تطوير ذكاء اصطناعي تطويراً آمناً؛ لذلك من الصعوبة بمكان معرفة كيفية التحكم به.

ذهب المفكر الأميركي المهتم بالدراسات المستقبلية راي كورزويل إلى أن التطور التكنولوجي سيضاعف معدلات تسارعه؛ ويفوق ذكاء الإنسان؛ النتيجة تقدم تكنولوجي لا نهائي، ربما يفضي إلى "تمزيق نسيج التاريخ البشري"، اضطرابات في أساليب وطبيعة العلاقات بين البشر أنفسهم، وبينهم وبين عناصر الكون.

بينما توقع المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية الإنسان وعواقب الثورة البيوتكنولوجية" أن يؤدي تطور الآلات إلى أن يظهر معنا إنسان "فائق"، نحيا معه مثلما كان "إنسان نيانديرتال" الفنان يحيا مع البشر. "نحيا معه بضعة أجيال ثم ننتهي، ينتهي الإنسان كما نعرفه".

جدار سميك يقف إلى ناحية منه البشر "الحاليون" وفي الناحية الأخرى أنواع غريبة ممن نسميهم "ما بعد البشر" أو "ما وراء البشر". كائنات مختلفة في قدراتها الذهنية الرهيبة التي ترقى إلى ما لا نهاية عن الإمكانات البشرية المعروفة الآن. لذلك يطرح مفكرون تساؤلات عن جدوى الوصول بالعلم والتكنولوجيا إلى هذا "المأزق الخطير"، وربما كنا على مشارف مستقبل "سلالة بعد بشرية".

"نداء روما"

لاستقصاء الأمور العلمية والأخلاقية والسياسية المرتبطة بهذه التقنيات، نحتاج إلى مزيد من البحث في مخاطر الذكاء الاصطناعي ومزاياه؛ لمعرفة كيفية تجنب المخاطر وإبراز المزايا؛ فمن الخطأ وضْع القرار بشأن مساوئ وإيجابيات تلك التقنيات الناشئة والتحديات الأخلاقية الناتجة منها في أيدي "علماء وخبراء التكنولوجيا" وحدهم؛ هؤلاء لا يتم انتخابهم، ولا يمكنهم تمثيل القيم الثقافية والسياسية ومصالح المواطنين، تختلف رؤاهم عن قِيَم سائر الناس في مناحي الحياة الأخرى.

في هذا الشأن، يشير العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي و"منتدى أبو ظبي للسلم"، إلى "وجه أشمل وأعم" للأزمة، معتبراً أن الإنسانية بلغت "مستوى من التطور التكنولوجي خوّلها، لأول مرة في تاريخها، القدرة على تدمير ذاتها، ونظراً لفشوّ الفكر المتطرّف بكل أصنافه أصبح احتمال استعماله أمراً وارداً، لا سيما في ظل إمكانية انفلات أسلحة الدمار الشامل عن سلطة الدول المسؤولة ورقابتها. وطاول هذا التطور التكنولوجي الأعمى مسار الحياة البشرية من خلال تقنيات الجينوم البشري، وما اجترحت من "معضلات أخلاقية". يفاقم الأمر مأزق البشرية المتمثل في "الانفصام الحادّ الحاصل في منظومة الإنتاج والتوزيع، بين فلسفة الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إلهية أو إنسانية نبيلة".

ومع الإمكانات الهائلة لتقنيات الذكاء الاصطناعي، فإن استخدامها استخداماً خاطئاً قد يؤدي إلى عواقب كارثية على البشرية؛ لذلك يشدد العلامة بن بيه على "المعنيين من قادة دينيين وشركات تقنية وفاعلين حكوميين وغيرهم التعاون لتعظيم فوائد هذه التقنيات وتقليل مخاطرها، وذلك من خلال تطوير إطار أخلاقي يهدف إلى ضمان مراعاة منتجات الذكاء الاصطناعي للمعايير الأخلاقية السامية، من أجل صيانة كرامة البشر وصلاح أمورهم".

ولتحقيق تلك الغاية، اقترح "الاتفاق على أهمية هذا الأمر وضرورته، لأن التخلف عن تنفيذه ينذر بعواقب وخيمة على البشر معنوياً ومادياً. وثانياً، بالتعاون والتشارك في تصميم إطار أخلاقي يكون دليلاً ومرشداً لمطوري هذه التقنيات وعوناً لهم على التجاوب مع مقتضيات الأخلاق ومطالب الإبداع والابتكار (...) اعتماداً على قيم مشتركة بين جميع الناس، وحقوق إلهية المصدر ممنوحة للمؤمن وغير المؤمن، لمصلحة المجتمعات وتنميتها، لا تخريبها وتدميرها".

في هذا السياق، يأتي انضمام "منتدى أبو ظبي للسلم" - ممثلاً لأتباع الإسلام - إلى وثيقة "نداء روما" لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، كانون الثاني (يناير) الماضي، خطوة إيجابية من أجل الإنسانية وإسهاماً في تجنب ارتدادات التقدم التكنولوجي. يقول العلامة ابن بيه إن "الأديان والشرائع في سعيها لترقية البشر تحرص على أن تكون الابتكارات والمنجزات مراعية للأطر الأخلاقية التي تعلي من مكانة الإنسان وتصون كرامته وتحمي حياته".

أم ترى سيتمكن الإنسان من مواجهة تحديات بيئته الجديدة؟!

كلمة السر

اليوم، تقف الإنسانية على مشارف أكبر تحول في تاريخ العالم، وسط حالة من قسوة "اللايقين"؛ إذ تتعدد المنظورات الدينية والأخلاقية والتاريخية والثقافية والإعلامية والنفسية والسياسية والاقتصادية التى تحاول فهم تأثيرات الذكاء الاصطناعي، وتتلاطم الآراء بشأن ما هو صواب أو خطأ، ولا يكاد المرء يعرف إلى أين يتجه الجنس البشري. فالمناخ العام السائد مملوء بالاحتمالات.

تتناول وسائل إعلام "مخاطر الذكاء الاصطناعي" بكثير من الاندفاع وقليل من التدبر، وثمة دائماً خبراء يدعمون هذه الرؤية أو تلك؛ لهذا يصب النقاش العام بشأن مخاطر التقنيات في مصلحة العلم والمجتمع؛ تستدعي مقاربات لحل مشكلات التقنيات الجديدة، واختيار القيم ووجهات نظر العلماء التي ينبغي قبولها أو رفضها.

التحدي الأصعب الآن هو إبقاء البشر في موقع السيطرة، أو ضمن حلقة التحكم، إزاء الآلات الذكية والروبوتات؛ نحتاج إلى أنظمة يعمل فيها البشر جنباً إلى جنب مع الآلات لحل المشكلات الصعبة؛ بحيث تندمج حكمة الحشود مع قوة الحوسبة السحابية. ومن ثمّ لا بديل من إطار تصوري متكامل، منهجاً وتطبيقاً، لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، يركز على المنظور التكنو-اجتماعي للحياة البشرية مع الآلات الذكية. وأحسب أن هذا أقرب إلى التعبير عن المعادلة الفلسفية التى صاغها نيتشه: "أنا أقاوم إذن أنا موجود". إن مقاومة الأخطار هي "كلمة سر الإنسانية"، علينا ألا ننسى معنى الأمل أو نغلق بابه؛ ألا نعتبر أنفسنا عبيداً لتقدم تكنولوجي محتوم، إذا كان لا يخدم غايات الإنسان النبيلة، وألا نستسلم لخوف يقعدنا عن قطف ثمار الثورة التكنولوجية "الرابعة" أو "الخامسة".

يقول مصمم وعالِم الحاسبات جون مايدا إن القضية ليست "نحن أَمْ الآلات؟"، بل "نحن والآلات"؛ إذ يمكننا إنجاز كثير من المكتسَبات، عبر توحيد القوى بينهما... تحقيقاً للوعد وتفادياً للوعيد الرقمي!

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية