يدعونا الجابري في "نحن والتراث" إلى أن نقيم علاقة تاريخية مع تراثنا العربي والإسلامي، بعيداً عن النزعات السلفية التي انتهى بها الحال إلى إعادة إحياء التراث والعمل عليه تحقيقاً وبعثاً، وبعيداً كذلك عن القراءة الليبرالية التي تتخذ من التاريخ الأوروبي مرجعاً معيارياً لها في إصدار حكمٍ على التراث الإسلامي؛ فجملة الأمر في التعامل السلفي والحداثي مع التراث هو اللاتاريخية، وتأجيل مُشكل الراهن نظراً لطغيان الماضي الذي يحلّ بكلّ كثافته.
اقرأ أيضاً: مركزية السياسي في قراءة علي مبروك للتراث
لقد انشطر الوعي العربي الحديث بين الإحياء والتحديث العنيف، ويمكن القول إنّ السرديتين؛ الإحيائيّة والتحديثيّة، يتنازعهما المشكل نفسه، وإن اختلف الجواب النابع عن كلّ سرديّة؛ إنّه مشكل الراهن.
مبتلون بعقدة السلفيّة على جميع الأصعدة فهي ليست جماعة لها نزوعات دينية وتصورية معينة بل هي نموذج تفكير
في إشارة مهمّة، سأسعى لتوظيفها في هذا المقال، لاحظَ ميشيل فوكو أنّ الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط؛ هو الذي أحدث في وعي المُحدثين ما يسمّيه فوكو بـ "أنطولوجيا الراهن"، فجواب كانط عن سؤال التنوير بأنّه خروج الإنسان من حالة القصور إلى حالة الرّشد، أو بصورة أخرى هو في الشعار المعروف، كوجيطو التنوير، القائل: "تجرّأ على استعمال عقلك"، ومن ثمّ، فإنّ كانط قد جعل مشكل الراهن هو منوط الإنسان الحديث، والذي لم يعد يقبل بقراءة خارجية تملي عليه الجواب على أسئلة الراهن.
يمكن أن نقول؛ إنّنا نحن المسلمين المُحدثين لم نكوّن بعد هذا الذي دعاه فوكو بـ "أنطولوجيا الراهن"، لا يوجد لدينا اهتمام بالرهان بما هو كذلك، بل ثمّة حملة هائلة منذ ما يُسمّى بـ "عصر النهضة" على قراءة التراث من كلا الجانبين؛ الإحيائي والتحديثي، على حدّ سواء، مما جعل التراث ملعباً للحاضر من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانية أفقد الراهن طابع الجدّة الذي ينطوي عليه ويظهر من خلاله.
إنّ التراث قد تحوّل على أيدي النخبة العربية بصنفيها إلى عائق تاريخي؛ لأنّهم لم يقدروا أن يحوّلوا هذا التراث إلى مخزون رمزي لأنفسنا؛ بل كان حلبة للصراع الأيديولوجي، وليس لنزاع تأويلات ثريّة كي يكون مستمراً معنا من حيث كونه أفق أنفسنا القديمة، ونقدر من خلاله كذلك على صناعة وعي بالراهن، كما قدر أسلافنا على صناعة وعي بحاضرهم.
اقرأ أيضاً: "الدين والاشتراكية".. هل يمكن تحرير التراث من صراعات الأيدولوجيا؟
نحن مبتلون بعقدة السلفيّة على جميع الأصعدة، ويبدو أنّ السلفيّة ليست مذهباً أو جماعة لها نزوعات دينية وتصورية معينة؛ بل هي بالأحرى نموذج تفكير "براديغم"، وبراديغم السلفيّة يعمل على إلصاق ظهورنا إلى الخلف، والعجيب، أنّه يتمّ في حواضرنا اللجوء إلى السلفيّة حينما يحلّ الراهن بكلّ إشكاليته، كأنّها المأمن والمفرّ.
فالسلفية، عموماً، تمثّل جداراً صلباً يُمكن الاتكاء عليه عندما تحدث هزّة معياريّة للداخل الإسلامي؛ لذلك فهي لا تفتأ تتخذ أشكالاً عديدة وتجليّات كثيرة كي توفّر هذا "الأمان النظري" للذين لا يستطيعون أن يواجهوا الحدث والراهن والحاضر بما هو كذلك، بيد أنّني لا أعني بالسلفيّة هاهنا مجموعة الارتكازات المنهجية التي يتكئ عليها ما نسمّيه السلفي؛ بل أعني بها هذا البراديغم الذي يسيطر على العقل ويشدّ من أزره لتفهّم الإشكالات المعرفيّة والسياسيّة عموماً؛ فالسلفية ليست قضية انتماء، إنّما هي براديغم نظري يعمل على صناعة حائط صدّ تجاه الراهن بإرجاعه إلى العصور الأولى، أو من خلال اعتماد مناظير تريد أن تستلب المناهج من سياقاتها لإسقاطها على التراث والراهن معاً.
اقرأ أيضاً: كيف قرأ زكي نجيب محمود التراث وما أبرز التحولات الفكرية لديه؟
إنّنا في التراث، كما نحن في العالم، ليس لجعل التراث مكاناً كي نخرج من التاريخ، ولكن لأنّ الإنسان كائن زماني بالأساس، يفهم وجوده وعالمه وحياته من خلال معطيات التأويل المسبق والمعرفة المسبقة ومن خلال الانتماء الرمزي لجملة من المعارف، وهو ما ندعوه تراثاً، وإنّ الغلو الحداثي الذي يدعو إلى قطيعة معرفيّة مع التراث، إنما ينطلق من همّ أيديولوجي وليس من أجل تأسيس موقف أصيل ومعرفي من التراث.
لقد انتهى هذا الوهم القطائعي الذي يفهم الإنسان ككائن تاريخي، بل الإنسان كائن زماني، وسلسلة متصلة من المعنى، ولا يستطيع أن يفهم وجوده المتعيّن من صفر معرفي؛ بل هو دائماً ما يلجأ للتراث كموفّر لمعناه، إنّ الموقف الأصيل هو الموقف الذي يجتهد في أن يكون في التراث دون أن يحجب الراهن.
ليست المسألة، إذاً، مسألة قطيعة أو اتصال بهذا التراث أو ذاك، إنّما هي مسألة موقف معرفي بالأساس، ومحاولة تفهّم تراثنا العربي والإسلامي في جملته، دون اتخاذه كوسيلة للتشهي السلفي أو الحداثي. لقد حوّلت السلفيّة والحداثية التراث إلى "أمل" لها تنشده، هو غير موجود في حاضرها وراهنها، فنجد أنّ تلك النّخب تذهب إلى التراث لـ "تتمنّى" منه ما هو غير موجود في أفقها. ويمكن أن أدلّل على ذلك بنموذج للتعاطي السلفي ونموذج للتعاطي الحداثي كذلك:
تحوّل التراث على أيدي النخبة العربية إلى عائق تاريخي لأنّهم لم يحوّلوه إلى مخزون رمزي بل كان حلبة للصراع الأيديولوجي
يدّعي كثير من المتسلفة الحاليين أنّ سبب فرقة الأمّة هو علم الكلام والاختلاف الذي أحدثه في جدارها، وأنّ الأمّة كانت قوية قبل هذا العلم، الذي يصفونه بأحط الصفات؛ وأنّ الحلّ لتصدع الأمة هو العودة للقرون الثلاثة الأولى، ولا يدرك هؤلاء أنّ أوج الفكر الكلامي نشأ في تلك القرون وبزغت مقولاته، وكان هذا الزمن هو "الزمن الإسلامي" الحقيقي؛ حيث الاجتهاد كان مفتوحاً، وكان التداول الإسلامي يعجّ بكافة الآراء، والتمازج بين الحضارات، إنّ كلّ الحضارات هجينة، ما من حضارة نقيّة، ههنا تكمن معضلة الوعي الإحيائيّ-السلفيّ.
ويدّعي، أيضاً، كثيرٌ من المحدّثين؛ أنّ الفكر الإسلامي وصل إلى حالة نموذجية مع برهانية ابن رشد ومتفلسفة الإسلام المشائين، الذي عملوا على أسلمة النسق الفلسفي اليوناني عامة، والأرسطي خاصة، ضدّ شرعانية، أو لنقل بيانية، الغزالي؛ وأن استئناف القول الفلسفي اليوم يبدأ من تلك اللحظة التي انتهى فيها ابن رشد من تدشين مشروعه الفلسفي، الذي أثّر، بلا شكّ، في وصل الغرب القروسطي بأصلِه اليوناني القديم، وربما، أقول ربما ليس إلّا، لم يسهم بهذا الإسهام في الحضارة الإسلامية التي لم تكن تعرف هذا النزوع التجريدي المحض.
اقرأ أيضاً: مفهوم التراث عند مهدي عامل: المعرفة ضد الخصوصية
ولا يدري هؤلاء جهود متكلمة الإسلام، وأصوليّيه، في تقنين آليات عقلية منطقية، ليست أرسطيّة، خاصة مع نقد المعتزلة بدءاً، مروراً بتقويم ابن تيمية للمنطق الصوري وتدشينه لأفكار منطقية تجريبيّة للاستدلال النظري، وتقنين أدوات حجاجية تداولية للتشريع العملي، وهي تلك التي وضعها علماء أصول الفقه في كتبهم؛ فالعقل هو ما قال أرسطو، وما سواه فهو درب من البيانية الهشة، ولا تخفى صورة المتكلم أو الأصولي في مخيال الفيلسوف العربي القديم.
كلتا الرؤيتين؛ الإحيائية والتحديثية، وإن اختلفتا ظاهراً؛ فهما تتحدان في جوهر المشكل: إنه التعامل اللاتاريخي مع التاريخ، كلّ سرديّة تريد "شيئاً" من التراث، ترى أنّه نموذج الإصلاح والاستئناف يبدأ منه، فتضفي طابعاً طوبوياً على هذا "الشيء" وتضفي "نمذجةً" ما عليه، مما يجعل التاريخ ضرباً من التنازع الأيديولوجي، وليس محلاً للبحث الجاد، فالمتسلّفة والمُحدثون هما وجهان لرؤية لاتاريخية واحدة.