الاهتمام الفرنسي المتزايد بالعراق... هذه أبرز الأبعاد والأسباب

الاهتمام الفرنسي المتزايد بالعراق... هذه أبرز الأبعاد والأسباب


04/10/2021

كان من المُلفت قيام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارتين للعراق خلال أقل من عام، ما بين زيارته في أيلول (سبتمبر) 2020، عندما أعلن دعمه السيادة العراقية، وزيارته في نهاية آب (أغسطس) 2021 لحضور مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، والذي كانت فرنسا المشارك الوحيد فيه غير الإقليمي، ممّا أظهر أهمية العراق المتزايدة بالنسبة إلى فرنسا، ولتبدأ بذلك التساؤلات والتحليلات التي تحاول تفسير أسباب وأبعاد ومؤشرات هذه الأهمية.

عقود واتفاقات... الاستثمارات في قطاع الطاقة

تمتلك شركة "توتال"، عملاق الطاقة الفرنسي، ما نسبته 18.5% من أسهم حقل "سرسنك" النفطي في محافظة دهوك بإقليم كردستان، شمال العراق، وهي تطمح لتوسيع استثماراتها في قطاع الطاقة العراقي خارج حدود الإقليم، وضمن هذه المساعي جاء توقيعها اتفاقاً يشمل مجموعة من العقود الاستثمارية في مطلع شهر أيلول (سبتمبر) 2021، بالتزامن مع زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للعراق، وبلغت قيمة الاتفاق 27 مليار دولار، ولمدة تصل إلى 27 عاماً.

عبارات ترحيبية بالرئيس إيمانويل ماكرون في إقليم كردستان العراق... آب 2021

وشملت العقود الموقعة مجالات النفط، والغاز، والطاقة المتجددة، وتضمنت مشاريع استثمارية لاستغلال الغاز المصاحب لاستخراج النفط، والذي عادةً ما كان يتم هدره، وتطوير حقول نفطية في جنوب العراق، وإنشاء محطة توليد كهرباء تعمل بالطاقة الشمسية، إضافة إلى مشروع مد أنبوب ماء البحر إلى الحقول النفطية بهدف استخدامه في عملية الإنتاج، وتتوقع الشركة أن تجني عوائد من إجمالي هذه العقود تصل إلى قرابة 100 مليار دولار.

صفقات نوعية... وزيادة مبيعات السلاح

كانت فرنسا من أهم الدول التي قامت ببيع الأسلحة للجيش العراقي في فترة الحرب مع إيران (حرب الخليج الأولى)، خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أنّ الحضور الفرنسي على صعيد التسليح للجيش العراقي تراجع بعد العام 2003 لصالح عقود التسليح المرتبطة بالشركات الأمريكية، وانحصرت العقود التي حظيت بها فرنسا بعقود أسلحة غير نوعية وبقيمة محدودة، وكانت أبرزها صفقة بيع 24 طائرة هليكوبتر عسكرية للعراق عام 2004، بقيمة بلغت (360) مليون يورو.

اقرأ أيضاً: العراق: زعيم حركة عصائب أهل الحق يشكك بنزاهة الانتخابات مبسقاً... ما أهدافه؟

ومؤخراً، وفي العام 2020 تحديداً، برز التوجه من جديد في العراق لشراء السلاح النوعيّ من فرنسا، بما في ذلك التوجه نحو شراء سفن حربية وطائرات عسكرية من نوع رافال، وجاء ذلك على لسان وزير الدفاع العراقي جمعة عناد، وهو ما جاء بتبرير الحاجة لتنويع مصادر التسليح.

طائرات حربية فرنسية من طراز رافال على متن حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول... تشرين الثاني 2015

وفي نهاية أيلول (سبتمبر) 2021 أكد رئيس لجنة الأمن والدفاع بالبرلمان العراقي محمد آل حيدر، عقب زيارة الملحق العسكري الفرنسي والممثل السياسي للسفارة الفرنسية إلى اللجنة، اطلاع اللجنة على التفاهم الأولي بالتعاقد على بيع طائرات رافال الفرنسية، وكذلك رادارات كشف متطورة وأسلحة دفاع جوي، وأكد آل حيدر على مضي الحكومة العراقية قدماً في هذه الصفقة.

مزاحمة تركيا... العلاقات مع إقليم كردستان

لم تكن فرنسا من ضمن الدول ذات الحضور والفعالية البارزة فيما يتعلق بالتنافس على النفوذ في العراق خلال مرحلة ما بعد العام 2003، إلا أنّ حضورها وثقلها بدأ يتزايد على نحو لافت خلال الأعوام الأخيرة وخاصّة في إقليم كردستان العراق.

ويأتي جانب كبير من أسباب الحرص والاهتمام الفرنسي للتوجه نحو الإقليم من منطلق محاولة مُضايقة ومزاحمة تركيا في ساحة تعتبر حسّاسة واستراتيجية بالنسبة إليها، وذلك بالتزامن مع تزايد حدّة ووتيرة الخلافات بين الدولتين في ملفات دولية عدة، من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى شمال أفريقيا، ويأتي هذا التوجه الفرنسي رداً على التوجه التركي للمزاحمة في المجال الحيوي لفرنسا، وخاصّة تمددها في عدة دول في شمال أفريقيا، وعموم قارة أفريقيا، وبالتالي فهي تسعى للرد بالمثل والضغط عليها في المجالات الحيوية الخاصّة بها.

يأتي جانب كبير من أسباب الحرص والاهتمام الفرنسي للتوجه نحو كردستان العراق من منطلق مضايقة ومزاحمة تركيا في ساحة حسّاسة بالنسبة إليها

وكانت وزارة الخارجية الفرنسية قد نددت في آب (أغسطس) 2020 بالضربات التركية الجوية داخل إقليم كردستان، ووصفت القصف التركي الذي تسبب في حينه بمقتل قائد قوات حرس الحدود العراقي بأنه (تطور خطير)، وبعد زيارته الأخيرة في آب (أغسطس) 2021، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مبادرة، بالتعاون مع الأمم المتحدة، لدعم سيادة العراق، وذلك في استهداف واضح للعمليات التركية داخل الأراضي العراقية.

قوات فرنسية في شمال العراق تشارك في العمليات ضد تنظيم داعش عام 2017

وكان العشرات من الجنود الفرنسيين قد تواجدوا ضمن وحدة مهام التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في قاعدة عسكرية شمال مدينة أربيل، للعمل على تدريب وتطوير قدرات البيشمركة، القوة العسكرية لإقليم كردستان العراق، وكان الدعم الفرنسي لقوات البيشمركة قد تصاعد خلال مرحلة مواجهة تنظيم "داعش" في الأعوام (2014-2017). وخلال زيارة ماكرون في آب (أغسطس) 2021، أكد بقاء القوات الفرنسية في العراق لـ (مكافحة الإرهاب). ويُشار إلى أنّ معظم الاستثمارات الفرنسية - غير النفطية - في العراق تتركز في إقليم كردستان العراق، وبقيمة قدرت في العام 2021 بنحو 3 مليارات دولار.

توازنات النفوذ... والحسابات الجيواستراتيجية

يحظى موقع العراق بأهمية جيواستراتيجية بالغة، ليس فقط بالنسبة إلى فرنسا، ولكن لكل أوروبا، التي تعتبر منطقة الشرق الأوسط بمثابة منطقة ذات تأثير مباشر على أمنها القومي، ومن منظور الولايات المتحدة الأمريكية كذلك، فإنها تبدي حرصها على منع العراق من أن يكون تحت سيطرة ونفوذ منافسيها الدوليين، الصين وروسيا وإيران.

ومن المنظور الأوروبي فإنّ إعلان الولايات المتحدة عزمها سحب قواتها من العراق بحلول نهاية العام 2021، وفق التفاهمات الأخيرة مع العراق، وانحصار المهام بالتدريب، يثير التساؤلات عمّن سيملأ الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الأمريكي، وهنا يبرز التعويل على دور فرنسي يسدّ هذا التراجع في الحضور الأمريكي.

معظم الاستثمارات الفرنسية - غير النفطية - في العراق تتركز في إقليم كردستان العراق، وبقيمة قدرت في العام 2021 بنحو 3 مليارات دولار

وتتجه الحسابات الغربية نحو تطوّرات المنافسة مع الصين تحديداً، والتي باتت تحظى بحضور متزايد على مستوى منطقة الخليج العربي بفعل النمو الاقتصادي المتسارع للصين وزيادة الحاجة إلى صادرات النفط من دول الخليج، وذلك مقابل تزايد الاكتفاء الذاتي من النفط لدى الولايات المتحدة؛ إذ باتت نحو ثلث صادرات النفط السعودية وربع صادرات النفط الكويتية تذهب إلى الصين، فضلاً عن ذلك، وقّعت الصين في العامين الماضيين عقوداً بقيمة عشرات المليارات من الدولارات في مشاريع بُنى تحتية في كل من السعودية والإمارات، واشترت أسهماً ضخمة في كبرى الشركات بدول الخليج.

ومن ثم في نيسان (أبريل) 2021، امتد تصاعد النفوذ الصيني إلى إيران، عبر توقيع الصين اتفاقية شراكة استراتيجية مدتها 25 عاماً مع إيران، وبقيمة تصل إلى تريليون دولار، وهو ما يتزامن مع عروض وضغوط مستمرة على العراق من أجل توقيع اتفاق مماثل مع الصين، الأمر الذي كان وشيكاً بالفعل في عام 2019، خلال حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي.

ماكرون في زيارة لمدينة الموصل العراقية آب 2021

ووفقاً للحسابات الغربية، فإنه إذا ما تمّ اتخاذ مثل هذا القرار بالتوجه العراقي نحو الصين في المستقبل، فإنّ ذلك سيكون له تداعيات خطيرة على المصالح الغربية الاستراتيجية؛ إذ إنّ الخطر سيكون في حال انضمام العراق إلى محور إيراني - صيني - روسي منافس للغرب، وبما أنّ موقع العراق الجغرافي يربط سوريا ولبنان بإيران، ومع اعتبار أهمية سوريا ولبنان لفرنسا، فإنه من الضروري عدم ترك العراق تحت سيطرة الخصوم والمنافسين.

اقرأ أيضاً: العراق.. من الاحتجاجات إلى الانتخابات: "سنتين وبعدنا نريد وطن"

إنّ التوجه الفرنسي يسعى لخلق منطقة عازلة، عبر حضورها على مختلف المستويات بالعراق، وتشكيل عقبة بذلك في طريق التمدد الصيني، وبحيث تقود عملية وقف التوسع الاستراتيجي الصيني من أجل حماية المصالح الاقتصادية الغربية في المنطقة، إضافة إلى تحقيق التوازن بالمنطقة مع النفوذ الإيراني.

تتجه أوروبا نحو التعويل على دور فرنسي في العراق يسدّ التراجع في الحضور الأمريكي ويضع عقبة أمام التمدد الصيني

إنّ غياب فرنسا عن غزو العراق عام 2003 من جهة، وعلاقتها المتوازنة مع باقي دول المنطقة، بما في ذلك إيران، من جهة أخرى، يجعلها الشريك الأكثر قبولاً - من بين الدول الغربية - في العراق. وعلى المستوى العراقي الداخلي أكدّ الرئيس إيمانويل ماكرون على الحياد الفرنسي في العراق، عندما مدد زيارته الأخيرة للعراق، وقام بزيارة العتبة الكاظمية المقدسة عند الشيعة، ومن ثم مدينة الموصل المهمة للسنّة، ومدينة أربيل عاصمة كردستان، ليؤكد بذلك على أنّ الحضور والدور الفرنسي في العراق لن يكون في إطار تعزيز استقطابات داخلية ولجهة على حساب أخرى، بقدر ما يسعى لممارسة دور وتحقيق مصالح تتعلق مع العراق ككلّ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية