تشهد الأوساط السياسية في أمريكا على صعيد الانتخابات الرئاسية هجمة معاكسة من قبل الديمقراطيين، بعد الترشيح الأوّلي لكاميلا هاريس، نائبة الرئيس، بدلاً من بايدن، وقد جاءت هذه الهجمة المعاكسة بعد حدثين متزامنين؛ الأول: المحاولة الفاشلة لاغتيال "المرشح الرئيس السابق ترامب"، واستثمار المحاولة من قبل الجمهوريين بإظهار مظلومية (ترامب)، والثاني: حالة الارتباك داخل الحزب الديمقراطي بعد المناظرة التي انعقدت بين (بايدن وترامب)، والتي ظهر فيها ترامب متفوقاً على بايدن، فيما لم تسعف تبريرات بايدن من الرضوخ في النهاية لضغوطات حزبه وإعلان التنحي عن الترشح وتقديم نائبته (هاريس) مرشحة للحزب الديمقراطي.
هاريس "الخبيرة القانونية المعروفة"، وفي حال اعتماد الديمقراطيين ترشيحها كما هو متوقع، تمتلك العديد من نقاط القوة؛ أبرزها إجماع الديمقراطيين، وتأييد حكام الولايات من الديمقراطيين لها، وأصولها الأفريقية الآسيوية، والاحتمالات الواسعة بتأييدها من قبل السود والأقليات، بالإضافة إلى تأييدها من قبل النساء وفئة الشباب الطامحة إلى التغيير، ومقارنة عمرها مع ترامب الذي كان يأخذ على بايدن تقدمه بالعمر، وكل ذلك أظهرته استطلاعات رأي تشير نتائجها إلى أنّها تحظى بفرصة منافسة قوية، مقارنة مع بايدن، وهو ما بدأ يظهر أيضاً في تصريحاتها حول معرفتها بكيفية التعامل مع ترامب، وخطابات الجمهوريين التي تنم عن مخاوف من ترشيحها، ومع ذلك يتوقع أن يكون أداؤها في المناظرات المرتقبة مع ترامب معياراً مهمّاً لدى الناخب الأمريكي في تحديد اتجاهاته.
ومع ذلك، فإنّ نقاط القوة هذه تُعدّ نقاط ضعف من ناحية أخرى، فكونها امرأة ستكون أمام تحديات، ومن غير الواضح مدى تقبل المجتمع الأمريكي أن تكون امرأة بموقع الرئاسة، ثم إنّ انتماءها للأقليات سلاح ذو حدين، فاندفاع الكثير منهم لانتخابها على هذا الأساس، سيدفع بترامب على الجهة المقابلة إلى خطاب تقسيمي يركز على الأمريكيين من غير الأقليات، وهو ما يعني الذهاب إلى ساحة ضرب وحدة المجتمع الأمريكي، ومن المرجح أن يكون برنامج هاريس هو برنامج الديمقراطيين تجاه قضايا التنمية الاقتصادية وعدالة الضرائب والتأمينات الصحية
وليس مستغرباً هذا التفاعل الواسع من قبل الإعلام العربي مع الانتخابات الأمريكية للدرجة التي تحولت معها هذه الانتخابات إلى قضية وطنية، ذلك أنّ وصول هاريس أو ترامب سيرتب تبعات وقرارات على المنطقة، ففي حال نجاح ترامب فمن المرجح، وفقاً لأبرز السيناريوهات، أنّ سياسات أمريكا في المنطقة ستكون أكثر حدّية، ووفقاً لثنائية "دعم مطلق لإسرائيل، وضغط مطلق على إيران"، وهو ما يعني مواجهات مع إيران ووكلائها، لا سيّما أنّ تصريحات ترامب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس (فانس) تؤكد على دعم لا محدود لإسرائيل ومطالبة بإنهاء حرب غزة سريعاً، تمهيداً لتشكيل تحالف من الدول السنّية ضد إيران. ورغم أنّ الديمقراطيين ملتزمون بدعم إسرائيل، إلا أنّ مواقفهم في حال نجاح هاريس ستكون مواصلة "الليونة" في المفاوضات السياسية مع إيران، و"الردع" العسكري لمواجهة ضربات وكلاء إيران في المنطقة، وبالتزامن فإنّ (هاريس) لن تقدّم جديداً على سلفيها (أوباما وبايدن) على صعيد القضية الفلسطينية وعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، إذ ستواصل الإعلان عن الالتزام بحل الدولتين بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، مع التأكيد على العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل، وضمان أمنها وتفوقها العسكري، وتزويدها بالأسلحة الدفاعية "المناسبة" التي تلبي متطلبات الأمن الإسرائيلي، بالاضافة إلى مواصلة إنجاز اتفاقات التطبيع العربية مع إسرائيل، وتحديداً مع المملكة العربية السعودية.
من جهتها، فإنّ الأنظمة والحكومات في الشرق الأوسط، بما فيها الحكومات العربية والإسلامية، تتعاطى بحذر شديد في التعبير عن مواقفها تجاه المفاضلة بين (ترامب وهاريس)، لكنّ غالبيتها، في إطار براغماتية سياسية، تفضل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وخاصة (المملكة العربية السعودية والإمارات، بالإضافة إلى مصر وتركيا)، فهذه الدول عانت الكثير بالتعامل مع الإدارة الديمقراطية، وفي مفاصل تمسّ العلاقات الاستراتيجية بينها وبين أمريكا، ومع ذلك فربما تبدي هذه الدول تحفظات على تعاطي ترامب مع القضية الفلسطينية، ومن المفارقات هنا أنّ إيران التي تدرك أنّها على قائمة الاستهداف الترامبية تتشارك مع دولة مثل الأردن في هواجس من عودة ترامب، رغم اختلاف المرجعيات، فلدى الأردن حساباته الخاصة لسيناريوهات خطيرة في حال عودة ترامب، بمرجعية احتمالات إعادة طرح صفقة القرن، والتعرض لضغوط جديدة للتعاطي معها، بالتزامن مع ضغوط أخرى على السلطة الفلسطينية للقبول بها، في ظل موقف إسرائيلي أصبح رافضاً لاستمرار السلطة الفلسطينية ولحركة حماس، ومن المرجح أن يزداد تشدداً في حال وصول ترامب إلى السلطة.
وفي الخلاصة؛ فإنّ نجاح ترامب سيكون أكثر تفضيلاً، وبصورة أكبر لدى غالبية حكومات المنطقة، بمرجعية تقاطعات بينه وبينها، تتجاوز أهداف ضبط الأدوار الإقليمية التي تمارسها القيادة الإيرانية، كما أنّ ترامب يعتمد سياسات أكثر وضوحاً ومباشرة من الديمقراطيين، وهو لا يؤمن بمقاربة إمساك العصا من منتصفها، رغم الأدوار الفاعلة للدولة العميقة في أمريكا، والتي ستعمل على "ضبط" سياساته وردوده الانفعالية تجاه القضايا الدولية والإقليمية.