الإسلام السياسي في السودان: خريطة الانتشار ومستقبل الخيارات

الإسلام السياسي في السودان: خريطة الانتشار ومستقبل الخيارات


29/07/2021

محمد عبدالكريم

حضرت الأحزاب الإسلامية بقوة في عهد الرئيس السوداني المعزول عمر البشير للحفاظ على قبضته القوية على البلاد. وعمله بانتظام على ضخ الأيديولوجيا الإسلامية داخل المؤسسة العسكرية مع ضمان ألا تهدد هذه القوى الإسلامية -التي تمت استمالتها بسبل عدة أبرزها الدعم المالي والتمكين داخل مؤسسات الدولة- سلطته، وأن تظل مجرد وسيلة لإرساء تقليد المصلحة المتبادلة بين المكون العسكري بنظام البشير وظهيره الأيديولوجي. وتسعى مكونات “الإسلام السياسي” في الوقت الراهن، عبر الحفاظ على خريطة انتشارها في الأطراف على وجه الخصوص، للاستفادة من التحديات الحتمية في المرحلة الانتقالية التي تشوبها مخاوف أمنية جمة تهدد مسارها برمته، خاصة أن الثورة لم تستطع جذب القوى الأمنية بكافة مكوناتها إلى صفها.

بينما يواجه “الإسلام السياسي” بشكل متزايد وبالتوازي مع قدرة الحكومة السودانية على تحريك الكثير من الملفات مثل رفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب ودخوله في مسار عملية باريس لإعفائه من الديون ضمن مبادرة الدول المثقلة بالديون، تصورات إقصائية حقيقية من المرحلة الانتقالية رغم الأهمية الكبيرة لدوره المستقبلي في أية استحقاقات ديمقراطية وشيكة.

ما هي ملامح خريطة انتشار الإسلام السياسي في السودان؟

لم تتغير خريطة انتشار “الإسلام السياسي” في السودان وتداخلت مع التوزيع القبلي بشكل ملحوظ. وعول هذا الانتشار، لاسيما في أطراف السودان في دارفور (حيث تتمتع بوضع قبلي مميز حسب باحثون بانقسام السكان بين أصول عربية وأصول أفريقية بنسبة 50% تقريبًا لكل منهما) وشرق السودان على حالة رخاوة الدولة الممتدة منذ عهد البشير، وتمكن عناصر هذا التيار من تمتين شبكات اجتماعية- قبلية قوية حققت نوعًا من “عدم رسمية” الانتماءات السياسية بالتوازي مع التحجيم المستمر لأدوار “مؤسسات الدولة”([1]).

وتتسم خريطة انتشار “الإسلام السياسي” في السودان بتوسع رقعة انتشار التيار وكمون العديد من العناصر في شمالي البلاد وقدرة واضحة على تغيير التحالفات على أسس قبلية وسياسية بغض النظر عن الخطابات الرسمية الحالية لاسيما من قبل المكون العسكري في الحكومة الانتقالية الذي ينظر دون شك للإسلام السياسي على أنه قوة دفع إستراتيجية في المرحلة المقبلة، خاصة بعد إظهار مكونات هذا التيار قدرة هائلة على قبول أية تحولات “أيديولوجية” مقابل استمرار الدور في السياسة السودانية.  

ما أهم متغيرات الإسلام السياسي في السودان “بعد البشير”؟

تمكن تيار “الإسلام السياسي” من امتصاص عدة صدمات في أوقات متقاربة منذ سقوط عمر البشير (أبريل 2019) ودخل التيار بأكمله تقريبًا في مرحلة “سكون” في مواجهة والضغوط المتزايدة لإخراجه من خريطة السياسة الوطنية في السودان، وحافظ على قبوله الارتهان بمواقف ومشروطيات القوى الإقليمية والمكون العسكري بمجلس السيادة، عوضًا عن التفكك والانقسام التنظيمي الذي طال أغلب مكونات قوى الإسلام السياسي وفي مقدمتها حزب المؤتمر الوطني الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين.

وبعد تآكل مكانة التيار الإسلامي السياسية بشكل واضح تحول الاهتمام الرئيس لهذا التيار من الشراكة في الحكم ومرحلة السكون إلى مقاربة أكثر جرأة لمسألة العلاقة بين الدين والدولة وتبني خطاب داعم للمكون العسكري بالأساس، وبشكل واضح رغم تحفظ هذا المكون في التصريح بذلك. لكن يمكن تلمس ذلك الموقف في الحرص على عدم حسم هذه الإشكالية في نصوص اتفاق سلام جوبا وبروتوكلاته المختلفة، حيث أشار الاتفاق إلى الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدّين في السياسة واحترام الحريات الدينية (دون المساس بنص دين الدولة)، ونص على أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات دون تمييز بين الأشخاص على أساس العرق أو القبيلة أو الدين أو النوع أو الجنس أو الأصل، دون أن يحول ذلك من وجود قوانين أو برامج أو أنشطة تهدف إلى تحسين أحوال من تعرض للحرمان من الأفراد أو الجماعات بسبب عنصره أو لونه أو دينه أو أصله الاقليمي أو القومي.

ونصت الاتفاقيات كذلك على أن تقف الدّولة على مسافة متساوية من الأديان والثقافات دون أي انحياز اثني أو ديني أو ثقافي. غير أن الاتفاق نص فيما يخص جنوب كردفان والنيل الأزرق، على”منح المنطقتين صيغة حكم ذاتي” حددت من خلالها اختصاصات السلطات المحلية والفيدرالية، بما في ذلك سن القوانين والتشريعات التي أُتفق على أن تستند لدستور 1974 (الذي كان أقرب ما يكون إلى العلمانية بحسب رأي البعض)، إضافة إلى إنشاء مفوضية قومية للحريات الدينية لحماية حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى، بما يتسق مع الحفاظ على الهويات الدينية.

وهو ما كان ذو دلالة واضحة دفعت محللين سودانيون إلى التأكيد على أن “الإسلام السياسي” سيظل حاضرًا في السياسة الوطنية بالسودان، خاصة أن الأحزاب الإسلامية لديها أنصار وأعضاء في قطاعات مختلفة من البنية الأساسية السياسية الاقتصادية بالسودان؛ لذا فإنهم سينخرطون في المرحلة المستقبلية بغض النظر عن التصور “الثوري” لهم.  

كيف يناور التيار السلفي الإحتواء العسكري ومدنية الدولة؟

وجدت تيارات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها تحالف “نصرة الشريعة” (وهو تحالف من أحزاب إسلامية تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية) العابر للخلفيات الإسلامية أيديولوجيًا، في مسألة “الشريعة” ومواجهتها للدعوات لعلمانية الدولة ذريعة قوية للعودة مجددًا إلى واجهة العملية السياسية في السودان، ودافعًا إضافيًا لمزيد من الحشد والتعبئة والاستقطاب الناجح لمكونات الإسلام السياسي خلف شعار نصرة الشريعة ومواجهة مساعي علمنة السودان ونزع هويته العربية- الإسلامية لاستجماع قواها لخوض أية انتخابات عقب نهاية المرحلة الانتقالية والاحتكام “للصندوق”.

وفي مقابل هذه السياسة ترى النخبة المدنية والعلمانية في السودان أن “الشرعية الثورية” لن تسمح بعودة الإسلام السياسي ومكونات نظام الإنقاذ (التي يوجد بين دوائر مطلعة اعتراف ضمني باستمرار مكوناتها في الحكم أو على الأقل في البنية التحتية للدولة)، إضافة إلى ما يمكن تلمسه بوضوح من توجس هذه النخبة (الحذر للغاية) من الدور السعودي- الإماراتي واحتمال تقلباته في المرحلة الانتقالية، وما هو معروف عن ارتباطات التيار السلفي السوداني تاريخيًا بالسعودية، وقناعة غير معلنة غالبًا بأهمية الدور المصري -رغم حساسياته- في تحجيم أي دور مستقبلًا لجماعة الإخوان المسلمين في السودان، ومن ثم إجهاض مشروعاتها السياسية.

طبيعة علاقة المكون العسكري بمجلس السيادة بقوى الإسلام السياسي –على المستويين الآني والمستقبلي- وما يرجحه محللون من كون هذه القوى رصيد استراتيجي لأية مشروعات مغالبة “ديمقراطية” من قبل عناصر هذا المكون (في ضوء حقيقة انتشار العناصر الإسلامية المؤدلجة في صفوف قوات الأمن والقوات المسلحة).

هل تنجح جماعة الإخوان المسلمين في استعادة التأثير؟

تترقب جماعة الإخوان المسلمون في السودان التوقيت المناسب لاستعادة التأثير فيه بغض النظر عن الصيغة ومدى ملائمتها لأفكار الجماعة من عدمها؛ وتبدو هذه الفرضية صحيحة تمامًا عند مراقبة سلوك الجماعة، ففي مطلع أبريل الفائت بادرت بإصدار بيان قوي حذرت فيه من “أن اتفاق المبادئ الذي وقعه رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان وحكومة عبدالله حمدوك مع الحركة الشعبية لتحرير السودان(شمال) بقيادة عبدالعزيز الحلو؛ إصرار علي المضي في هذا الطريق الشائك المهدد لوحدة البلاد و تماسكها والذي يزرع الفتن بين أبنائها”.

وأكد البيان الذي وقعه مراقب الجماعة عادل علي الله إبراهيم على دعوة الحكومة “إلي التراجع الفوري عن هذا الاتفاق المخزي، وتأجيل كل هذه القضايا لحين قيام حكومة منتخبة وبرلمان مفوض من الشعب”. ودعت الجماعة الشعب السوداني وقواه السياسية والاجتماعية “إلي رفض هذا الإعلان بكل الوسائل السلمية، مؤكدة حرصها التام علي السلام الشامل والعادل الذي يحقن الدماء ويحقق الأمن والاستقرار والتنمية ويعطي الأغلبية حقها في “التحاكم” لدينها وشريعتها التي تصون حقوق غير المسلمين (التي حددتها الجماعة بنسبة لا تتجاوز 2% من سكان السودان).

وكشفت جماعة الإخوان عن موقفها من المرحلة الانتقالية برمتها في جزء من هذا البيان بتأكيدها أن الاتفاق: “تحدٍ صارخ لعامة الشعب وفرض لإيديولوجية القلة بقوة السلاح في دكتاتوريةٍ سافرة وطغيانٍ  مستبد وخضوعٍ وتجاوز صريح لمهام الفترة الانتقالية التي عجزت الحكومة وفشلت في الوفاء بها فشلًا ذريعًا فأحالت حياة المواطنين إلي جحيمٍ لا يطاق فالكهرباء والوقود والخبز والدواء والتعليم والأمن أصبحت أماني صعبة المنال وانصرفت عنها  إلي فرضٍ للعلمانية والتطبيع وتغيير المناهج وتكميم الأفواه ومحاربة القيم والفضيلة”. ولفتت إلى أن “الشعب السوداني الأبي لا يمكن لفردٍ أو قلةٍ أن تقوده معصوب العينين، وتفرض عليه ما يصادم دينه وعقيدته وتقرر في قضاياه المصيرية الكبرى والاستراتيجية دون تفويض منه أو الرجوع  إليه([2])“.

وإلى جانب كشف البيان للتوجه الاستراتيجي للجماعة في الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية فإنه كشف عن استعداد حقيقي للجماعة للعودة إلى المشهد السياسي والتأثير في مجريات الأمور في أية استحقاقات “انتخابية” مقبلة وبأجندة واضحة تمامًا لا تمانع في أية ترتيبات سياسية مع القوى الفاعلة في المرحلة الحالية.

ما أهم استجابات القوى المدنية والعسكرية تجاه دور “الإسلام السياسي”؟

تظل استجابة القوى المدنية التي تقود المرحلة الانتقالية بالتعاون مع المكونات العسكرية والأمنية وشبه العسكرية رافضة رفضًا قاطعًا لعودة دور “الإسلام السياسي” في السودان بغض النظر عن تكييفه أو صياغته. وتحظى هذه الاستجابة بدعم كبير من أطراف إقليمية ترى أن أي مظهر “للإسلام السياسي” في السودان نكوصًا على منجزات ثورة ديسمبر وإسهاماتها (الأطراف) في دعم نظام “مجلس السيادة” في السودان. ويشترك في هذه الاستجابة المكونات العسكرية “المعارضة” التي يتم دمجها بالتدريج في إدارة المرحلة الانتقالية في السودان لاسيما المتمركزة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.

أما المكون العسكري داخل مجلس السيادة والمكون شبه العسكري (لاسيما في إقليم دارفور الذي يمثله تقارب “قوات الدعم السريع” مع المكونات القبلية- الدينية في الإقليم) فإنه يتعامل بانتهازية واضحة، وفق شواهد كثيرة أبرزها الموقف من مسألة “دين الدولة” ورؤيتهم تأجيله للمؤتمر الدستوري المزمع في نهاية المرحلة الانتقالية، وكذلك في تحركات قوات الدعم السريع الداخلية وحرصها على الانتشار في أهم المدن والمراكز السودانية. وسيتم على الأرجح استغلال قابلية التيار الإسلامي ومكوناته لأي دور سياسي، حتى بتكلفة مرتفعة، وتوظيف أفكار هذا التيار وحشده لتحقيق مكاسب سياسية مهمة.    

لماذا يظل “الإسلام السياسي” رقمًا مجهولًا في استكمال المرحلة الانتقالية؟

بالنظر إلى تنوع أطياف “تيار الإسلام السياسي” في السودان، وشموله بعض القطاعات الصوفية، فإن هذا التيار لا يزال يتمتع بقاعدة جماهيرية “ورقمية” مهمة في المرحلة الانتقالية وعند تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والتمهيد للانتخابات التشريعية والتنفيذية. في المقابل يؤكد قادة لبعض المكونات المدنية بالمرحلة الانتقالية (أبرزهم في الحزب الشيوعي السوداني) أنه ثمة حالة من “اختطاف” المرحلة الانتقالية وانهماك في مرحلة “محاصصة” سياسية وأمنية واقتصادية جارية بالفعل في العام الحالي 2021 بعد اتفاق جوبا للسلام، وتعزز هذه الرؤية، التي تملك أساسًا من الصحة وإن شابها مبالغة في التعميم، تصور استمرار تمتع “الإسلام السياسي” بدور مرتقب في المرحلة المقبلة مع ملاحظة عدم تماسك ووضوح رؤى المكون المدني الحالي، مقابل مرونة أكبر –وبراجماتية مفهومة إلى حد كبير- في تصورات المكون العسكري لمستقبل البلاد عند نهاية المرحلة الانتقالية، وتقوية لموقف الجيش في مواجهة ما يعتبره استقواءً “مدنيًا” بدول أجنبية وجهد مستمر لتشويه دور الجيش وتصنيفه على أنه جهة سياسية أو جماعة مصالح ضيقة.    

ما خيارات “الإسلام السياسي” في المرحلة الانتقالية؟

تظل خيارات “الإسلام السياسي” في السودان، بعد تجارب تصادمية في المنطقة وفي مصر على وجه الخصوص، محصورة في التحرك في هامش ضيق للغاية، ورهن حركته بإرادة سياسية لقوى من قبيل المكون العسكري بمجلس السيادة أو الوصول لتفاهمات ومراجعات جذرية تلقى قبول بعض المكونات السياسية “المدنية”.  

ويمكن إيجاز خيارات الإسلام السياسي المحتملة على النحو التالي

تكوين تحالف إسلامي واسع يرتكز على التجاوز المرحلي لأزمة “التيار الإسلامي” الحالية ويتلمس نقاط الاتفاق بين المكونات السلفية والصوفية وجماعة الإخوان المسلمين من أجل تكوين قاعدة “إسلام سياسي” ذات شعبية معقولة حتى الآن، وتشكل في مجملها قوة انتخابية مهمة لا يمكن تجاهلها في جميع الأحوال، على الأقل عبر حشدها لدعم توجه سياسي بعينه أو ترجيح خيارات سياسية صعبة.

التحرك وفق فكرة “الذئاب المنفردة” وترتيب اتفاقات متعددة مع العديد من مكونات قيادة المرحلة الانتقالية الحالية (لاسيما ذات الخلفية العسكرية أو القبلية في مناطق دارفور وشرقي السودان)، وهو خيار يطبق حاليًا بشكل كبير وستظهر ملامحه أكثر مع أول استحقاق انتخابي في السودان.

المغامرة باستعراض حجم الدعم الشعبي الذي يتمتع به الإسلام السياسي وسط فئات تراجعت أصواتها على خلفية “المد الثوري الوطني” لثورة ديسمبر، وربما تجد متنفسًا وقبولًا في ضوء تردي أوضاع المواطنين السودانيين الاجتماعية والاقتصادية. غير أن هذا الخيار يدفع التيار برمته نحو “السيناريو المصري” وانقطاع أي تأثير سياسي للتيار الإسلامي.

عن "مركز الإنذار المبكر"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية