
هشام النجار
تكشف الأحداث على مستوى صناع القرار والمؤسسات في مصر والأردن التعامل مع الأحداث بخطوات وقرارات محسوبة وميزان دقيق، ما ينم عن خبرات عميقة وفهم لمكامن المخاطر والتحديات، فيما ظهر التباين النسبي في المواقف الشعبية بين غالبية المصريين ممن يعرفون حدود التعاطف ولا يقدمون على خطوة تفيد الطامعين الإقليميين، وقطاع من الأردنيين أظهر قابلية للانخداع بالعاطفة، ما عكس ضحالة معرفته بخرائط المؤامرات والخطط الحقيقية لأطراف الصراع.
هناك مشتركات عديدة ومؤثرة بين البلدين، فكلاهما الأقرب جغرافيًا إلى الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وفيهما أهم وأقوى فرعين لجماعة الإخوان في المنطقة والعالم، وعقدا مع إسرائيل اتفاقات سلام وخاضا أزمات معقدة لموازنة المخاطر، بين تحجيم وكبح التدخلات الخشنة والناعمة في شؤونهما الداخلية من قبل قوى أجنبية وكيانات ثورية تارة، ومؤدلجة تارة أخرى ترفع شعارات خدمة القضية الفلسطينية، مقابل التصدي لخطط إسرائيل التقليدية المتعلقة بالوطن البديل والتهجير.
ما ميز مصر عن الأردن وجعل وضعها أفضل خلال مرحلة فارقة يمكن أن تقود إلى تحولات ومعادلات جديدة في المنطقة أمران، الأول: تحييد القاهرة مبكرًا بشكل شبه كلي لجماعة الإخوان على مستوى الحضور التنظيمي والأنشطة والأدوار المحلية والإقليمية، والثاني: بالتوازي مع التعاطف مع الفلسطينيين وقضيتهم وحقوقهم، هناك تكتل شعبي ورسمي حول رؤية موحدة مبنية على فهم يراعي موازين القوى العالمية وعدم اقتصار التهديدات على تلك النابعة من المشروع الإسرائيلي.
يكفي النظر إلى فرضية استمرار جماعة الإخوان في المشهد المصري إلى ما بعد السابع من أكتوبر العام الماضي على مستوى الانتشار والحركة وحرية العمل التنظيمي بطول الجغرافيا المصرية وعرضها، في وقت ظهر من حجم عملية طوفان الأقصى وتصريحات وبيانات قادة حماس مع بداية إطلاقها أنها تهدف إلى استدراج إسرائيل لرد قاس يسقط فيه الآلاف من الضحايا في غزة، ما يؤدي إلى إشعال حرب كبرى بين العرب وإسرائيل.
تمكنت مصر خلال عام عصيب وشديد التعقيد على مستوى التكتيك السياسي واتخاذ القرار الإستراتيجي من المواءمة بين منع إسرائيل من استغلال الفرصة السانحة لتنفيذ أطماعها القديمة المعروفة، وتفويت الفرصة على القوى المؤدلجة والطائفية بالمنطقة التي سعت لتوريط مصر والأردن في الصراع المسلح الشامل، وساعدها ما جرى التمهيد له بشأن تفكيك كل كيانات الإسلام السياسي وفي القلب منها جماعة الإخوان، وهي الأداة الرئيسية لتنفيذ مشاريع القوى الخارجية.
تتيح المقارنة بين الأردن ومصر مع وجود جماعة الإخوان وبدونها رؤية زاوية مهمة بجانب زوايا عديدة أمسك بها صانع القرار، تلك المتعلقة بكبح الأطراف المختلفة للحيلولة دون خلط الأوراق وإعادة تدوير تيار الإسلام السياسي في المشهد وفقًا لمعادلات تنتج عن تحول مصر من مكان الوسيط إلى طرف في الصراع وعن تغير تعاطيها مع الملف الفلسطيني بمجمله والدخول في تحالفات جديدة علاوة على إدخال سيناء في المعادلة الصراعية بين من يريدونها وطنًا بديلًا ومن يريدونها ساحة إسناد.
استفادت مصر من التكاتف الشعبي مع رؤية الدولة في ظل الخلط غير المسبوق للأوراق واستغلال العاطفة الإنسانية لتمرير خطط تدميرية أعتى من تلك التي صاحبت وأعقبت ثورات ما عُرف بالربيع العربي، ووضح الوعي المصري العام لما ترمي إليه جماعة الإخوان من دعاياتها المكثفة المضادة، فيما يتعلق بمحاولاتها حرف غضب الشارع العربي باتجاه الأنظمة والحكومات العربية ما يمهد لإعادة إنتاج نفسها في المشهد.
وتبين من تسلسل الأحداث، بداية من المظاهرات داخل الأردن والاشتباك مع القوات الأمنية ومزايدات جماعة الإخوان المتكررة على الموقف الرسمي والتماهي مع تحريض ولعب قادة حماس غير المسؤول بالملف الأردني، مرورًا بخطط زرع ميليشيات مسلحة، وصولًا إلى عملية البحر الميت أخيرا، أن الأردن يفتقر نسبيًا إلى هذين العاملين، وأن النخب الحاكمة والمؤسسات تواجه الأطماع والتحديات المركبة دون تحييد كامل للطابور الخامس ووكلاء مفترضين لمركز محور إقليمي، ودون التكاتف الجماهيري المطلوب مع الدولة، حيث تطغى العاطفة وتشوش على رؤية المخاطر والمؤامرات بوضوح.
ما لا يدركه قطاع من الأردنيين أن الأطماع الإيرانية والإخوانية الشعاراتية الفارغة في ضم الأردن كجبهة تابعة لما يُطلق عليه “محور المقاومة” تستفيد منها إسرائيل بشكل عملي وواقعي، وهي التي أظهرت مهارة في ترجمة الأطماع والخطط إلى واقع من منطلق امتلاك تفوق عسكري نوعي وتقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة وقدرة استخباراتية عالية.
بات من المعلوم وفقًا للخبرة المكتسبة مما جرى في غزة ولبنان مآل ونتائج هذه الحراكات والممارسات مسبقًا، ففي الظاهر يبدو أن المنطقة (ومن ضمنها الأردن) واقعة بين مشروعين غير عربيين متنافسين (إسرائيل وإيران)، بينما تبين عمليًا أن الإيرانيين وأذرعهم الشيعية والإخوان ببدائيتهم وإمكاناتهم المتواضعة وبطئهم الشديد وحساباتهم الحذرة وترددهم في الإمساك بزمام المبادرة ورؤيتهم القاصرة، يخدمون المصالح الإسرائيلية.
وتترقب تل أبيب في كل مرة الفعل البدائي المُفتقِر للاستشراف المستقبلي من محور قابع في التاريخ والغيبيات مستخدمًا آليات القرن الماضي، لتوظفه هي بردود حاسمة جسورة وبقوة غاشمة مُبيدة، ما يجعلها تربح في الساحة تلو الأخرى في نهاية المطاف مستفيدة من تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي والعسكري.
وفيما خطط الإيرانيون لتعويض خسارتهم لحركة حماس من خلال التموقع في الضفة الغربية والأردن لاكتساب القدرة على الضغط على إسرائيل من الشرق، من المرجح أن تصب الفوضى الناجمة عن النشاط الميليشياوي الطائفي في الجنوب السوري والغرب العراقي والعمق الأردني والانقسامات التي ستحدثها ممارسات تيار الإسلام السياسي بهذه الساحات، بالتوازي مع ضعف أداء محور إيران على كافة المستويات، في مصلحة إسرائيل.
واستساغ قطاع من الأردنيين مواقف التصعيد والإدانة سيرًا وراء عاطفة خادعة؛ إذ أن إشعال الداخل الأردني وخلق اضطرابات في الحدود والشارع عبر جهود جماعة الإخوان لا يخدمان المصلحة الفلسطينية والعربية، بقدر ما يلبيان حاجة إسرائيلية متعلقة بخطط التهجير والتأثير على الحالة الأردنية الماضية في أدائها المتوازن وصمودها، على الرغم من الضغوط الهائلة.
يسند الأردن صمود الفلسطينيين دبلوماسيًا وإنسانيًا وإغاثيًا كما يقف في المقابل حائلًا دون دخول الأردن في صراع المحاور وجعله ساحة لن يستثنيها التفوق الإسرائيلي النوعي إذا سنحت فرصة ضمه إلى غنائمه الجيوسياسية.
وتسبب تصدر جماعة الإخوان مشهد التحريض -وهو ما تدركه المؤسسات وصانع القرار الأردني ويغفل عنه الجمهور العاطفي- في التعتيم على مسؤولية وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200 عن محاولات إثارة الفتنة وتهييج الشارع الأردني وضرب مكوناته بعضها ببعض عبر آلاف الحسابات الوهمية على منصات التواصل؛ حيث هاجمت تلك الحسابات التي يديرها عملاء للموساد، الأردن كنظام سياسي وشككت في مواقفه تجاه فلسطين.
وتغيب عن قطاع واسع من الجماهير الأردنية المُساقة خلف عاطفتها والمتأثرة بدعايات جماعة الإخوان حقيقة أن بلاده في قلب المشروع الإسرائيلي التوسعي (الوطن البديل) الذي تأمل قوى التطرف الإسرائيلي استهدافه، ليسهل التهجير من جهة والاستيلاء على باقي الأراضي الفلسطينية، لذلك لن تتوانى تل أبيب عن توظيف أي نشاط عسكري ميليشياوي خارج سلطة الدولة ينطلق من الأردن في خلق ذريعة للتدخل فيه بما يخدم أهدافها.
ويدرك صانع القرار في كل من مصر والأردن أن الاستثمار الجيوسياسي طويل الأمد للحسابات والممارسات قصيرة النظر للإخوان وحماس وإيران، والمتعلق بإعادة رسم الخرائط والتغييرات الديمغرافية هو امتياز إسرائيلي، بالنظر إلى أن زرع المظاهر الميليشياوية وزعزعة استقرار دول جوار فلسطين، خاصة مصر والأردن، يمهدان لنجاح خطط التهجير.
وكما لم تُخف إسرائيل مخططها المتعلق بسيناء لاستيعاب سكان غزة، لم تخف مخططاتها بشأن جعل الأردن وطنًا بديلًا للفلسطينيين، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق آرييل شارون بعد خروج القوات الفلسطينية من لبنان عام 1982 حين دعا الفلسطينيين إلى إقامة دولتهم فوق أراضي الأردن، كما عبر رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو مرارًا عن نيته ضم الضفة الغربية وغور الأردن إلى إسرائيل، مستعملًا المصطلح اليهودي للضفة (يهودا والسامرة)، وهو ما يُترجم عمليًا بالطرد والتهجير وبناء المستوطنات.
في ضوء هذه المخاطر المركبة التي بعضها يخدم البعض الآخر يعرف أغلب المصريين حدود التعاطف مع الفلسطينيين بما يتناسب مع أولويات بلدهم وأمنه القومي بالتوازي مع مراعاة ما يفيد وما يضر الثوابت الفلسطينية والعربية، لذلك لا يحولون موقفهم إلى عداء مفتوح مع إسرائيل، مقابل توخي عدم الانخداع بمحور خدمت كل قراراته وممارساته على الأرض الأهداف والأطماع الإسرائيلية.
ما ينبغي للأردنيين تعلمه من المصريين هو التحلي بالهدوء والالتفاف حول النخبة الحاكمة ودعم صانع القرار والتعامل مع التهديدات الفائقة بنظر ثاقب وعدم الانجرار وراء محاور والتيقن من أن تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان عامل إضعاف للجبهة الداخلية فيلزم تحييده، بل تهميشه.
ويخدم ما تفعله إيران، من توسيع لنطاق الفوضى وزرع للميليشيات لتتمكن من التفاوض لتحقيق مصالحها في حرب تديرها عبر وكلائها، في النهاية مصلحة إسرائيل التي ثبت أنها أكثر اللاعبين الإقليميين مهارة وأقدرهم على ترجمة الأطماع إلى واقع عملي بعقل وتقنيات ونشاط استخباري متطور ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين.
العرب اللندنية