الألفية الثالثة .. هل هي محنة الشعوب؟!

الألفية الثالثة .. هل هي محنة الشعوب؟!


23/04/2022

".. ما من قضية تستحق أن يُقتل في سبيلها إنسان بريء" (ألبير كامو).

أطلق العالم على القرن الـ 20 تسمية "القرن الدموي" لما شهده ذلك القرن من حروب كبرى، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، لم ينج من شرورها أي بلد من بلدان العالم، فالذي لم يصبه القتل والتدمير والخراب، أصابه الفقر والجوع والتصنيف والتمييز، وحروب صغيرة أخرى لم ينتبه لها المؤرخون لانشغالهم بالحروب الكبرى، ونزاعات داخلية كانت ولا تزال حتى اليوم محنة الشعوب ومقتلها.

صدر في عام 2003، كتاب بعنوان "قرن من أجل لا شيء، الشرق الأوسط، من الإمبراطورية العثمانية حتى الإمبراطورية الأمريكية" لـ "جان لاكوتور وغسان تويني وجيرار خوري" عن دار ألبان ميشيل في باريس، ودار النهار في بيروت، وجاء الكتاب باللغة الفرنسية. 

فتحت الألفية الثالثة أبوابها بالغزو الأمريكي لأفغانستان بحجة أنه تدخل لوقف الصراع الداخلي بين تنظيم طالبان والسلطة الحاكمة

ويتحدث الكتاب عن دموية القرن العشرين، ويطرح إحصائيات تشير إلى أنّ الموت والجوع والمرض والجهل يشمل ثلثي سكان العالم. فإذا كانت 100 عام من تجارب العالم في الحروب والعنف والإرهاب لم تغيّر من ذهنية السلطات في التحكم بشعوب العالم، فهل ستكون الألفية الثالثة هي الوريثة الشرعية للقرن الدموي، أو قرن اللاشيء؟

فتحت الألفية الثالثة أبوابها بالغزو الأمريكي لأفغانستان بحجة أنه تدخل لوقف الصراع الداخلي بين تنظيم طالبان والسلطة الحاكمة، ثم انسحبت بعد عقدين من الزمن بنتيجة ترسيخ الإرهاب والتطرف الديني والسياسي، بعد أن سلّمت زمام السلطة إلى تنظيم طالبان الذي وافقت أمريكا ذاتها في مجلس الأمن على تصنيفه تنظيماً إرهابياً.

ونقلاً عن "سادات فردوس أباري" في مقال نشره على موقع "أنقرة"، بلغ عدد القتلى في أفغانستان خلال 20 عاماً، وهي فترة الوجود العسكري الأمريكي هناك، 241 ألف نسمة، من بينهم 71 ألف من المدنيين، هذا عدا النازحين واللاجئين والمهجّرين في أنحاء دول العالم. 

ولم تكتفِ بلد الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، بالتدخل في أفغانستان، فتابعت مسيرتها في الدفاع عن حرية الشعب العراقي بغزوها العسكري له، وأضرمت النار في العراق ليشتدّ النزاع الداخلي، فتصل به الحال إلى ما وصلت إليه في الوقت الراهن. هذا ما ورثته البلدان المتقدمة، الدفاع عن الحريات بالعنف والقتل والدمار، والقتال في سبيل الاستحواذ على ثروات العالم والتحكم في مقدراته. 

أما ما ورثته بلدان "الربيع العربي" من دموية وعنف؛ فحدث ولا حرج؛ فالحرب السورية السورية، فاقت جميع الحروب الأهلية في القرنين الماضي والحالي، قياساً بعدد سكان سوريا، لا لأنها أسفرت عن مئات آلاف القتلى ومعوقي الحرب وملايين المهجّرين قسراً من بيوتهم ومدنهم وبلداتهم وقراهم، وعن تحويل الناس إلى نازحين ولاجئين، في ما يفترض أنه وطنهم، ومشردين، في 4 جهات الأرض، بل لأنها حرب أشعلتها سلطة باغية، حالت دون أن تصير سوريا وطناً ودولة، ودون أن يصير السوريون شعباً. فهي، أي الحرب، ليست مجرد نزاع على السلطة والثروة، وليست مجرد سعي لإثبات الذات المستبدة مقابل ذوات السوريين والسوريات الإنسانية الحرة، بل هي فعل قهري مُتعمَّد لطمس هوية الشعب الوطنية، وتدمير بناه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، مقابل هوية السلطة الواحدة، والحاكم الواحد، والحزب الواحد، تحت مسمى "الحزب القائد".

الحرب السورية السورية، فاقت جميع الحروب الأهلية في القرنين الماضي والحالي، قياساً بعدد سكان سوريا

الشعب السوري كله ضحية إرهاب سلطة متوحشة راكمت قوتها من دماء الشعب وعرقه وقوَّة عمله وقوت أطفاله. ذهنية الإرهاب؛ لا تقاتل من يقاتلها فحسب، إنما تمتد إلى كل من يسعى إلى السلم والسلام، وأعني المجتمعات التي لا ذنب لها، ولا علاقة لها بالنزاعات الدولية، والتنافس الضاري على الغنائم، بل لا علاقة لها بالنزاعات السياسية داخل الدولة ذاتها، لكن السلطات المتحكمة تضعها أمام خيارين: إما المشاركة في الحرب، أو الهروب منها إلى المجهول، وفي كلتا الحالتين هي تدافع عن بقائها، وقد يكون هذياناً مضاداً للخوف، كهذيان الإجرام في ذهنية الإرهاب، كما هو "تواطؤ دفين" حسب "جون بورديار"؛ أي إنه موروث عنفي في اللاوعي الإنساني.

القطيعة مع الحب والسلام، بكل أشكاله وتعقيداته ومعانيه، أدّت إلى حفظ موروثات القرن العشرين وما سبقه في أذهاننا كبشر، بدءاً من الأناشيد الوطنية والسياسية التي تحمل كل معاني العنف والدفاع عن النفس، فمنظمة طلائع البعث في سوريا تبدأ بتنظيم التلاميذ منذ الصف الأول الابتدائي، مرسخةً في أذهان الصغار كل أشكال العنف عبر النشيد الخاص بها " ... نضيء كالمصباح، ونحمل السلاح.. للوحدة التي سقاها أهلنا بالدم.." ونشيد شبيبة الحزب الشيوعي السوري "لاحت رؤوس الرماح تلمع فوق الروابي، هذي وفود الشباب هيا رفاقي للكفاح" فكرة السلاح هي فكرة الدفاع عن النفس ولا تأتي عبثاً، إنما تأتي من الخوف من الآخر المختلف التي رسختها المواريث العنفية، وفكرة الكفاح من ثم.

ومن الملاحظ أنّ ما يلي ذاك القرن سيكون أخطر بكثير على البشرية جمعاء، والحرب الروسية الأوكرانية أكبر دليل على ذلك، حيث أثّرت بوضوح على اقتصاد العالم، وهددت حياة 80 بالمئة من سكان العالم، الذين يلفحهم الفقر والشقاء، لقد بدأ العالم المتقدم يعد العدة ويوفر احتياطاته الاقتصادية، باحتكار بعض المواد الأساسية خوفاً من الغد المجهول، فانطلقت آلية الاحتكار وارتفاع الأسعار وتآكل دخول العاملين والعاملات.

 ذهنية الإرهاب لا تقاتل من يقاتلها فحسب، إنما تمتد إلى كل من يسعى إلى السلم والسلام، وأعني المجتمعات التي لا ذنب لها

لكن الأخطر من هذا كله التلويح باستعمال الأسلحة النووية، ولو مجرد التلويح التهديد، فهذا وذاك يدلان على عدمية أخلاقية وانتكاس الإنسان إلى أسوأ ما في تاريخه. فلكم يشعر الإنسان بالعار لحسبان مشعلي الحروب بشراً.

من زاوية الحروب والنزاعات والفتوحات يعد تاريخ البشرية حتى اليوم تاريخاً دموياً، منذ أن هُرقت أول نقطة دم على الأرض، فاستساغها الإنسان، فاخترع، بحكم التطور، فكرة القرابين البشرية لحيازة السلطة والثروة والمكانة الرفيعة و"المجد"، في كل زمان ومكان، وأصبحت القوة تتصدر المشهد العالمي، وتتحكم بأخلاقياته. الإرهاب قوة، لكنها قوة لا أخلاقية، وحقوق الإنسان قوة، لكنها قوة أخلاقية. لقد تعايش الناس مع هذا التناقض الأخلاقي في معنى القوة، وهو تناقض يدفع العالم إلى حافة الهاوية، لغلبة قوة الإرهاب وقوة الشر.

الزمان هو الزمان نحن من نجعله جيداً أو سيئاً، وكذلك المكان. لا ذنب للألفية الثانية أو الثالثة، ولا ذنب للحداثة، التي صارت تعزى إليها جميع الشرور.

".. ما من قضية تستحق أن يُقتل في سبيلها إنسان بريء" (ألبير كامو). 

مواضيع ذات صلة:

العنف الثقافي.. كيف يمهد أرضية الحروب؟‎

من ينقذ الطفولة من انتهاكات الحروب وسماسرة الموت؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية