الأغنية العربية: سيرة للحب والشعر والموت

الأغنية العربية: سيرة للحب والشعر والموت


04/09/2022

أورد ابن قيم في مؤلَّف "روضة المحبين" (70) لفظاً عن الحب، ولا يُعدّد عشرات الألفاظ كدليل على وفرة اللغة العربية من حيث مشتقاتها اللفظية؛ بل للإحالة إلى مكانة الحب في المجتمع؛ فالعرب لا تتفنن في التسميات الجامحة إلا في "ما اشتد الفهم له" أو "ما كثر خطوره على قلوبهم"، ويستكمل تعقيبه بكتابة مفردات الحب مع ما تحمل من إيحاءات انتحارية مثل؛ "الوصب" "الكمد" "اللذع" وغيره، كفاتحة لفصول شملت مصائر مختلفة في قصص الحب.

لا تشذّ مفردات الحب السقيمة في المعجم اللغوي، والمستخدمة في القصائد والأغنيات، عن صورة الحب لدى ابن قيم؛ بل تتجلى أصالته حيث لا ينقص بالجفوة ولا يزيله الأذى، ويذيل كلامه بأبيات عدة شعراء. وبالرغم من أنّ المؤلف لم يورد جميع أسماء الحب، فهو يعود في فصول لاحقة إلى استعراض آراء مخالفة ويحتمي باسترساله بقصائد متفرقة، باعتبار أنّ الشعراء العرب أكثر جرأة من الرواة في إعلان غرامياتهم؛ فقد جرت العادة في المؤلفات العربية اللعب على الأضداد بنسب الآراء والأفكار إلى أشخاص وفرق. ونجد في طوق الحمامة لابن حزم، وهو رجل سياسة وقاضٍ مسلم، أنّه يتعمد كتابة الشعر في مواضع تعقيباته داخل سياق السرد، وعندما يستكمل الكتابة عن العشاق وأبواب الحب يستعيذ بالله، ويطلب منه الستر، ممّا يخلق لدينا الانطباع بأنّ الوقوع في الحب أمر جسيم، وليس أدلّ على ذلك من توصيف الحب بالوقوع.

 

نشأت قصة حب وردة وبليغ حمدي كتحقيق لقصيدة بشار بن برد بأنّ الأذن تعشق قبل العين أحياناً، إذ حرّضت أغنية "تخونوه" التي قدّمها بليغ للعندليب على هذا الحب في قلب وردة دون أن تراه

 

 نستذكر تجربة الشاعر أحمد رامي الذي أحبّ أم كلثوم منذ أن رآها في حديقة الأزبكية، وما أن طلب منها أن تقرأ قصيدته الأولى "الصبّ تفضحه عيونه"، حتى عرف أنّه وقع في غرامها إلى الأبد، في حين ظلت تنظر إلى أحمد رامي الشاعر، وليس الرجل على حدّ وصفها، ممّا دفعه إلى كتابة: "عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك". وفي مرة اشتد الخلاف بينهما، وقالت له أم كلثوم: "يا ريتني ما عرفتك يا شيخ"، فحزن، وكتب: "من أنتِ حتى تستبيحي كرامتي فأهين فيك كرامتي ودموعي... وأبيت حران الجوانح صاديا أصلى بنار الوجد بين ضلوعي". وبعدها كتب: "حيرت قلبي معاك، حأفضل أحبك من غير ما أقولك".  

ما يسترعي الانتباه في تحولاته العاطفية بين التذلل والكبرياء والأمل في الوصال في مجموعة مواقف ومشاعر تحولت إلى أغنيات، هو أنّنا نعجز عن القطع حول تحقق الحب بالحالة الأولى أم الثانية أم الثالثة؟ لا سيّما أنّ كل أغنية تشير إلى اسم من أسماء الحب، وتتقاطع مع رمزيته المعقدة.

 الشيء نفسه يمكن أن يُقال عن الفنان محمد سعد عبد الله الذي انفرد من بين فنانّي جيله بكتابة القصيدة والتلحين والغناء؛ ‏إذ لا تغيب عذابات الحب في أعماله، حيث إنّنا نستطيع تمييز أغنياته حتى لو غنّاها فنانون آخرون، وخضعت لتغيُّر في تجارب غنائية مختلفة؛ فهو يمضي بخطوات ثابتة بين الذل والإكبار في أغنيات متناقضة العاطفة (كلمة ولو جبر خاطر، أنا ما أطيق، إيش همني، احترت في ناس، أعز الناس، أشتي أشوفك، ما اشتيش أشوفك، من بلي بالهوى).

في الوقت نفسه، غمر البكاء مسيرة الفنان عبد الحليم حافظ، منذ أن "ابتدى المشوار" سنجد أنّ "طريقك مسدود يا ولدي" و"الناس بيلوموني"، فالحزن حاضر منذ موت والدته إلى عدم زواجه وانتهاءً بمرضه، ولا يبدو مريباً ما كتبته سعاد حسني في مذكراتها بأنّها الحبيبة المحبوسة في قصر السلطان، حيث تولى نزار قباني كتابة رحلتهما الشاقة في أغنية قارئة الفنجان، وما إن سمع حليم مطلع القصيدة (يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداء للمحبوب) حتى انهار وبكى، فالموت رفيق الحب، والبكاء الذي يربط بين جميع أغنياته مصيره المختوم على جبينه.

الشاعر العربي في الماضي اختار طوعاً التخلي عن محبوبته بالتغنّي بها، فكان بذلك يكسر العرف القائم، ممّا يعني أنّ حبّ الشعر عنده كان أقوى من ليلى وعبلة وبثينة وإلى آخره

بلغت المأساة ذروتها في علاقة وردة وبليغ حمدي، فقد نشأت قصة حبهما كتحقيق لقصيدة بشار بن برد بأنّ الأذن تعشق قبل العين أحياناً، إذ حرّضت أغنية "تخونوه" التي قدّمها بليغ للعندليب على هذا الحب في قلب وردة دون أن تراه، وبعد أن تقابلا، تأكّد له هذا الحب؛ حُبّه هو أيضاً لها، وعزم على الزواج منها إلا أنّ تدخل الأهل حال دون الزواج منها لأنّه "فنان". مع ذلك، ظلّ يحرّض في مقدمات أغنيات الست عن حبّه لوردة. وبعد عقد كامل، كتب أغنية "العيون السود" في اللقاء الذي تحقق بينهما، وأعادت علاقتهما مثل تعويذة سحرية. وسرعان ما سيجد نفسه في مواجهة عوائق الحب الكثيرة، فقد أعدّت له الحياة مصير جميع العشّاق: الفراق، واللوعة، والموت كمداً. اشتبكت تعبيرات اللغة القاتلة وسلطة الأب والمجتمع والفشل الشخصي بصورة موحدة فعاش فراقها غراماً، وكتب مقدمة أغنية "بودعك" وهو في فرنسا وأكملها منصور شادي، وطلب من وردة أن تغنّيها لكنّها ترددت، وقررت فيما بعد أن تغنّي الأغنية كأنّها شعرت أنّ هذا هو آخر تعامل إنساني وفنّي بينها وبينه، غنّتها كتأبين له، وودَّعته بلسانه، بكلماته ولحنه، بالطريقة التي أرادها.

غُمرت اللغة بتوصيفات مأساوية عن الحب، حيث إنّنا لا نستطيع أن نتبين إخفاقات الشعراء هل هي فشلٌ في الحب أم تحقيقٌ للحب؟ وإذا كانت مذلة الحب ليست هي المذلة بالمعنى الحرفي1، فهل يخضع المعنى لسلطة اللغة؟ أم أنّها ببساطة صور شعرية نتجت عن تجارب حب فاشلة؟

من المهم التذكير هنا بأنّ الشاعر العربي في الماضي اختار طوعاً التخلي عن محبوبته بالتغنّي بها، فكان بذلك يكسر العرف القائم، ممّا يعني أنّ حبّ الشعر عنده كان أقوى من ليلى وعبلة وبثينة وإلى آخره. في كتاب عبد الله الغذَّامي عن الأنثى واللغة، أشار إلى ملاحظة مهمة، وهي أنّ الفن يستوجب نقل المرأة من الواقع إلى الخيال، وإلّا تحولت إلى نموذج من بجماليون، حيث ما إن ينطق الجسد الأنثوي حتى يتلاشى جماله2. وعلى العكس من ذلك، يورد ابن قتيبة في كتابه عن الشعر والشعراء بأنّه قيل لأعرابي: ممّن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: عذريُّ وربّ الكعبة3. ويستخلص الشاعر "تحية بن جنادة" عبرته من درس العشق والموت، وحينما أعجزه الموت راح يطلبه ويتمنّاه لكي يكتمل عشقه، إذ إنّ العشق لا يكون صادقاً إلا بشرط الموت، فراح يطلب موتاً مجنوناً تموت فيه الحبيبة فييأس ثم يسلو عنها، ويقول:

من حبــها أتمنى أن يلاقينـــي    **     من نحــــو بلدتها نـــاعٍ فينعاها

كيما أقـول فراق لا لقــــاء له    **     وتضمر اليأس نفسي ثم تسلاها

ولو تموت لراعتني وقلت لها    **     يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها4

 من الواضح أنّ الحب في المجتمع العربي كُتب بلغة سامّة، ولأنّه يوجد في بيئة تجده مادة للوعظ وليس للتسامي، لا يبدو من قبيل المصادفة أنّ حكايات الحب المسرودة في أمهات الكتب العربية لم تكتب بضمير المتكلم وإنّما بضمير الغائب، فهو يبدو كمؤشر على مجتمع يحرّم الحب، هذا ما لم يكن فعلُ الكتابةِ نفسه، وعلى العكس من ذلك، حَظي الحب في القصائد المكرّسة للذات الإلهية بتقدير خاص، وصار السماويُّ معياراً للشعر والحب في آنٍ واحد. ولنتذكّر ما ألمح إليه ابن قيم عن دلالة تعداد مفردات الكلمة الواحدة، فهي تحمل دلالة اجتماعية وليست لغوية، فهل تأسّست تلك الصورة الانتحارية للحب بموجب تأثير سلطويّ، باعتبار أنّ اللغة انعكاس للمجتمع؟ وبالتالي، سيكون من البديهي موت التجارب العاطفية؛ لغوياً واجتماعياً وشخصياً، كما يمكن أن يُفهم منه حتى ميل الناس لعذابات الحب، فقد كُتب معظم الشعر العربي، وبالمثل روائع الأغنية العربية، من واقع غراميات فاشلة، حيث إنّنا قلّ أن نجد تجربة حب ناضجة، مثل دانتي وبياترس، أو بترارك ولورا، أو أراجون وإلزا، وغيره.    

 المصادر:

1-  أبوبكر سالم في مقابلة له، حيث استفاض للتدليل بأنّ ذلة الحب في قصيدة أحمد رامي لا يُقصد بها الذلة بالمعنى الحرفي.

2عبد الله الغذامي، الأنثى واللغة.

ابن قتيبة، الشعر والشعراء.

4عبد الله الغذامي، ثقافة الوهم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية