"اليمن بلد بلا حاكم، ومقاطعة خالية، يمكن احتلالها وبالتالي إرسال كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات إلى إسطنبول"، من يقرأ هذا التصريح يتصور أنه قيل خلال الفترة الأخيرة، خصوصًا مع اشتعال الحرب هناك تحت رعاية تركية، إلا أنه ورغم أنه منسوب إلى الحاكم العثمانلي سليمان باشا الخادم في القرن السادس عشر الميلاد (توفي 1547)، لكن الحقيقة تكشف أنه أصبح أمرًا واقعًا حاليًا، وأنه كان مقدمة لاحتلال العثمانيين الدولة العربية قديمًا، قبل أن يعيد الأتراك في عهد إردوغان محاولات إعادة الاستعمار التركي بأوجه جديدة، ارتدت قناعات "المساعدات" واللقاءات الدبلوماسية.
الأراضي الزراعية في اليمن كانت مطمعًًا للأتراك، مع تشكيلها أهمية كبيرة لدى البلد العربي البالغ عدد سكانه نحو 27 مليون نسمة، إذ تساهم الزراعة بنحو 17.6% من إجمالي الناتج المحلي كأكبر قطاعات الاقتصاد القومي، كما يعمل به حوالي 73.5% من السكان سواء كانوا يعملون في الزراعة بشكل مباشر أو يعملون في الخدمات والحرف والصناعات المرتبطة بها، مثل صناعات: القطن والتبغ والخضراوات والأصواف والألبان والزيوت والجلود، والألياف والأخشاب.
بعد بداية الانتفاضة اليمنية ضد حكم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح (بدايات العام 2011)، والتي تحولت إلى حرب أهلية بسبب الميليشيات الحوثية التي سيطرت على العاصمة صنعاء، بعث إردوغان بمسؤولي حكومته من أجل إيجاد موضع قدم لهم في قطاع الزراعة بالبلاد، تزامنًا مع مزاعم وحجج "قوافل تقديم المساعدات الإنسانية".
إعلان رسمي عن المطامع
في فبراير 2014 ، التقى السفير التركي بصنعاء فضلي تشورمان بوزير الزراعة والري اليمني فريد مجور، وناقشا "التعاون المشترك بين البلدين خاصة في المجال الزراعي وسبل تعزيزه وتطويره"، وطرح تشورمان "إمكانية تدخل الجانب التركي في دعم عدد من المشاريع الزراعية في اليمن".
تشورمان كشف أنه تم إعداد الدراسات المستقبلية الخاصة ببعض المشروعات منها ما يتعلق بالألبان وأخرى في مجال تحسين إنتاجية البن وكذا تنمية الثروة الحيوانية وغيرها من الأنشطة والمشاريع، زاعمًا أن هذه الأعمال "تسهم في تعزيز دور القطاع الزراعي وتوفير الأمن الغذائي لليمنيين"، وركز على ما سماه "حرص بلاده على تقديم الدعم لليمن في هذا المجال وبما يعزز من جهوده في توفير الأمن الغذائي للمواطنين".
خلال اللقاء تسلم الوزير اليمني مجور رسالة من وزير الزراعة بتركيا تتعلق بدعوته للمشاركة في معرض البستنة الدولي الأول في أنطاليا التركية في عام 2016، بينما انبهر المسؤول اليمني بما عرضه الدبلوماسي التركي ودعا إلى "الاستفادة من التجارب والخبرات التركية".
وشدد مجور على "حاجة اليمن لتنفيذ العديد من المشاريع الزراعية لدعم جهوده في توفير الأمن الغذائي، من خلال تمويل تنفيذ مشاريع في مجال زراعة وإنتاجية البن وتنمية الثروة الحيوانية والاستفادة من مياه السيول ببناء السدود التي تعمل على حماية التربة من الانجراف وكذا توفير فرص عمل للأيدي العاملة وتوسيع وإضافة مساحات زراعية أخرى".
أذرع أخطبوطية
بالتوازي مع محاولات السيطرة على قطاع الصيد وغيره في اليمن (مثلما فعلت حكومة إردوغان في دول أخرى مثل الصومال والسودان وموريتانيا)، كانت محاولات الأتراك مكثفة لالتهام قطاع الزراعة (أراض زراعية وثروة حيوانية)، وغير ذلك، وترافق ذلك مع حجج المساعدات التي لا يضمن أحد أنها وصلت إلى مستحقيها، في ظل كشف تحقيقات دولية سرقة الحوثيين للمساعدات التي تقدم إلى الجوعى والفقراء والمقدر عددهم بنحو نصف سكان البلاد (نحو 16 مليون شخص).
تقرير لشبكة "سي إن إن" الأمريكية قبل أيام أكد أن المساعدات الغذائية والطبية التي تقدمها الأمم المتحدة للمحتاجين في اليمن نهبتها ميليشيات الحوثيين، المسيطرين على العاصمة صنعاء وعدد من المناطق الأخرى، وكشف التحقيق أن عددا من العائلات في عشرات المناطق اليمنية لم تصل إليها المساعدات التي تسجّلها ميليشيا الحوثي على الورق.
أحلام العثمانيين الجدد في استعادة السيطرة على اليمن الذي احتله أجدادهم في القرن السادس عشر ثم في القرن التاسع عشر قبل سقوط هذا الاستعمار في عام 1911 لم تتوقف ولم تنته باشتداد الحرب اليمنية خلال السنوات الأخيرة، ففي أواخر مارس الماضي أخذ السفير التركي لدى اليمن "فاروق بوزغوز" على عاتقه مهمة التوغل في مجال الزراعة باليمن؛ كما أوكلت إليه مهام عديدة، أناب فيها عن إردوغان مباشرة، والذي أكد أن "المسألة اليمنية مهمة"، ليكشف عن غرض أنقرة في بلاد سبأ.
بوزغوز التقى مع مسؤولين في وزارة الزراعة اليمنية، من بينهم وكيلا الوزارة "أحمد الزامكي"، و"علي الجنيد"، بالعاصمة المؤقتة عدن.
وكالة "سبأ" اليمنية قالت إن "الزامكي "و"الجنيد" استعرضا "الأولويات الزراعية المتمثلة بجوانب الري، والتدريب والتأهيل، والتنمية الريفية، وتقنية ما بعد الحصاد، وتسويق المنتجات الزراعية، وإدخال التقنية الحديثة في المجال الزراعي، والاستفادة من نقل الخبرات التركية في تحسين قطاع الزراعة"، وهي المصطلحات ذاتها التي تكررت في لقاء فضلي تشورمان مع المسؤولين اليمنيين في 2014 دون نتيجة أو على أرض الواقع بما يضمن "مصلحة اليمنيين والأمن الغذائي"، حسبما ردد مسؤولو حكومة أنقرة.
"بوزغوز" قال إن بلاده "تدعم اليمن في المجال الزراعي، وتدعم الحكومة الشرعية والشعب اليمني، ونأمل في انتهاء الحرب وعودة الأمن والاستقرار إلى البلاد"، فيما روجت وكالة "الأناضول" الرسمية لمزاعم استمرار تقديم "المساعدات والمشروعات الإغاثية".
مهام قديمة بوجه جديد
بعد توليه منصب السفير التركي لدى اليمن في بدايات العام 2019، كثف بوزغوز عن مهمة التوغل في قطاعات عدة باليمن، وحاول تغيير الصورة الذهنية السلبية المرتبطة بالسفير السابق تشورمان والذي شهد عهده كشف تورط حكومة بلاده في إرسال شحنات أسلحة من الموانئ التركية إلى اليمن قبل أن يتم ضبطها دون أن تدخل البلاد.
بوزغوز التقى أكثر من مسؤول يمني خلال الفترة السابقة، من بينهم رئيس الوزراء اليمني معين عبد الملك، وكذلك وزراء الداخلية أحمد الميسري، والإدارة المحلية علي بن علي القيسي، كما زار وزارات: المالية والتربية، بحث خلال هذه الجولات واللقاءات عن دور أكبر لحكومة إردوغان في اليمن الذي لا يزال يواجه شبح الحرب الأهلية مع استمرار سيطرة الحوثيين على صنعاء، واضطرار الحكومة إلى اتخاذ مدينة عدن عاصمة مؤقتة للبلاد.
الدبلوماسي التركي والذي كان نهجه وطريقته أقل حدة وأكثر حنكة من سابقيه، روّج خلال جولاته المكوكية المكثفة، ومنها لقاء رئيس الوزراء عبد الملك معين في قصر معاشيق بالعاصمة المؤقتة عدن- على مسماه "التعاون المشترك بين البلدين في عدد من المجالات، وفي مقدمتها الدعم الإغاثي والإنساني، وإسناد القطاع الصحي"، وكذلك مجالات الاقتصاد: زراعة وأسماك ومالية، فضلا عن القطاع الأمني.
رفض شعبي
لم تنل تحركات الأتراك في اليمن الرضا الشعبي، إذ ربطها كثيرون بأنها محاولات لدعم جماعة الإخوان المصنفة إرهابية، إذ نشط الأتراك في عدن والمحافظات الجنوبية، وسعوا بالطبع إلى السيطرة على الموانئ البحرية.
حكومة إردوغان وعلى لسان السفير بوزغوز حددت مناطق بعينها للانتشار في اليمن وإقامة مشاريع زراعية وأخرى تعليمية و"خدمية" ، وحددت من هذه المناطق: محافظتي عدن ومارب ومدينة سيئون، في وقت تصدى فيه اليمنيون لمشروعات في عدن، ورفضهم مرور شاحنات ترفع شعار "مساعدات إغاثي" خوفا من أن تكون محملة بالأسلحة كسابقاتها.
وعود وخسائر
قطاع الزراعة في اليمن خسر كثيرا بسبب الحرب الأهلية، وقدرت هذه الخسارة بأكثر من 6 مليارات دولار في منتصف عام 2015، مع غياب شبه تام للمنتجات النفطية، وجفاف مساحات مساحات كبيرة من حقول وبساتين الفواكه ومحاصيل الحبوب وتحديدا البن، فضلا عن غياب التسويق، وتوقف التصدير.
وتعتمد الزراعة في البلاد على الري بواسطة مياه الآبار الجوفية البالغ عددها 429 ألفاً و 182 بئراً، والتي تعتمد على مضخات الديزل، لكن بغياب هذه المضخات نتيجة الحرب تأثرت إنتاجية الأراضي وألحقت أضرارا فادحة بالبلاد، التي لم تنفع معها وعود حكومة إردوغان بالتدخل للإصلاح، لأن الغرض كان واضحًا، فالأتراك ما إن دخلوا بلدًا إلا وحاولوا نهبه أولا والترويج لأوهام خلافتهم البائدة ثانيًا، وتغذية العقول بأن إسطنبول ستكون عاصمة الخلافة وإردوغان أميرها.
مدير الإرشاد الزراعي في مكتب الزراعة بمحافظة ذمار، فؤاد الكواري كشف في تصريحات لهيئة الإذاعة الألمانية (دويتشه فيلله) في سبتمبر الماضي أن الزراعة في البلاد لم تتحسن بعد مزاعم التدخلات الدولية لإنقاذها، مؤكدا أن أزمة القطاع الزراعي كبيرة جداً، "فالمصاعب لحقت بمنشآت زراعية مثل مشتل البن والمجمع الزراعي في مدينة الشرق"، وأخرى أثرت على المزارعين من خلال انعدام وارتفاع أسعار المشتقات النفطية والمدخلات الزراعية كالبذور والأسمدة وعدم توفرها.
الكواري قدر نسبة الأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي في محافظته (ذمار)، التي تعد من أهم أبرز المحافظات الزراعية في اليمن، بنحو 80%، مشيرًا إلى عزوف العديد من المزارعين عن عملهم وتوقف تصدير المنتجات الزراعية، وما خلفه ذلك، من تأثيرات على الأمن الغذائي في البلاد، من ناحية ارتفاع أسعار السلع الغذائية وعدم توفرها بصورة منتظمة وبالذات في جانب الحبوب والخضار والفاكهة وحتى اللحوم والأسماك، كذلك عدم قدرة المستهلك عن الشراء نتيجة ضعف القدرة الشرائية، وعدم توفر السيولة النقدية وارتفاع سعر الصرف للعملات الأجنبية.
بالتوازي، أعلنت تركيا عبر الوكالة التركية للتعاون والتنسيق "تيكا" أنها نفذت منذ افتتاح مكتبها في اليمن عام 2012 نحو 93 مشروعا حتى ديسمبر الماضي، من بينها مشروعات زراعية، لم تسمها، وزعمت أن القطاع الزراعي جاء على رأس المشروعات إضافة إلى قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية.
عن "عثمانلي"