"لم تمنعنا الظروف الصعبة يوماً من مواصلة المسيرة الديمقراطية، والالتزام بالاستحقاقات الدستورية، فقد نجحنا ـ بحمد الله وتوفيقه ـ بإجراء الانتخابات النيابية، بالرغم من جائحة كورونا، وهذا يؤكد عزيمة الأردنيين وإرادتهم".
بهذه العبارات المباشرة استهلّ الملك عبد الله الثاني خطاب العرش، الخميس 10 كانون الأول (ديسمبر) 2020، في افتتاح أعمال الدورة غير العادية لمجلس الأمّة التاسع عشر بعد انتخابات مجلس النواب الأردني التاسع عشر، التي جرت بتاريخ 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020.
اقرأ أيضاً: بعد الإمارات والأردن... البحرين تقرر فتح سفارة لها في مدينة العيون المغربية
من حيث الشكل؛ جاء الخطاب قصيراً؛ إذ تألف من (514) كلمة فقط، لكنّها مكثفة جداً اختصرت محتوى ومضمون الخطاب الذي جاء مختلفاً هذه المرّة بسبب الإجراءات الاحترازية الوقائية لجائحة كورونا، بمشاركة رمزية لأعضاء مجلس الأمّة، النواب والأعيان، والوزراء، بعد إجراء فحص الكورونا.
استهلّ الملك عبد الله الثاني خطاب العرش في افتتاح أعمال الدورة غير العادية لمجلس الأمّة بالتأكيد على مواصلة المسيرة الديمقراطية والالتزام بالاستحقاقات الدستورية
إنّ التحليل الأوّلي لمضمون الخطاب يؤشر إلى جملة من القضايا الرئيسة؛ منها ما يُعدُّ ركناً أساسياً في كافة خطابات الملك بمثل هذه المناسبات، وآخر طارئ لظروف خارج إرادة الدولة، وعلى رأسها جائحة كورونا. فالموضوعات التي تطرّقت إليها خطابات العرش في الفترة السابقة اشتملت على قضايا مثل: الدفاع عن الإسلام، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز الوحدة الوطنية، والمحافظة على المعايير الديمقراطية، ورفع مستوى المشاركة السياسية، وتوفير النصح والإرشاد، وإتاحة الفرص للشباب من خلال التعليم، وتحقيق وإدامة وتحسين نوعية حياة الأردنيين.
اقرأ أيضاً: إحباط محاولات داعش للسيطرة على المنفذ الحدودي بين العراق والأردن
أمّا في خطاب العرش الحالي، فقد جاء على رأس القضايا الرئيسة تأكيد الملك على مواصلة المسيرة الديمقراطية، والالتزام بالاستحقاقات الدستورية، ثمّ النجاح في إجراء الانتخابات البرلمانية، بالرغم من جائحة كورونا، بعزيمة وإرادة الأردنيين، حسب تأكيد الملك. ويمكن القول إنّ هذه العملية كانت بمثابة التحدي الأكبر للأردن، منذ بداية جائحة كورونا في شهر آذار (مارس) 2020.
أعتقد أنّ الملك تعمّد إبراز تحدّي إجراء الانتخابات كأحد أهمّ إنجازات الدولة في ظل جائحة كورونا، خاصّة إذا علمنا أنّ حصيلة إنجازات الحكومات الأردنية في إدارة أزمة كورونا لم تكن مرضية تماماً حتى الآن، وتحديداً حكومة عمر الرزاز السابقة التي طبقت مقاربة قاسية جداً لمواجهة أزمة كورونا تمثلت بأمننة إدارة الأزمة، منذ بدايتها في شهر آذار (مارس) 2020، حين طبقت مقاربة "الصحة العامّة على حساب الاقتصاد"، التي شلّت الاقتصاد الوطني لمدة 6 أشهر تقريباً حتى بداية شهر أيلول (سبتمبر) 2020، حينما تحوّلت إلى مقاربة "التوازن بين القطاعات" التي ما زالت سارية المفعول حتى الآن، لكنها تميزت باستمرار شلّ الاقتصاد الوطني المترافق مع ارتفاع عدد حالات الوفاة والإصابات الإجمالي.
الملك عبدالله الثاني: الأولوية في التعامل مع جائحة كورونا هي صحة المواطن وسلامته، وكذلك الاستمرار في حماية الاقتصاد الوطني
وعليه، يمكننا الإشارة إلى تأكيد الملك على أهمية هذه المقاربة، وتوجيه حكومة بشر الخصاونة الحالية للاستمرار بها، عندما قال الملك: إنّ "الأولوية في التعامل مع جائحة كورونا هي صحة المواطن وسلامته، وكذلك الاستمرار في حماية الاقتصاد الوطني، وهذا يستدعي وضع الخطط وبرامج العمل والقرارات المدروسة القابلة للتطبيق، وشراكة فاعلة مع القطاع الخاص".
وهذا هو التحدي الذي وضعه الملك أمام حكومة الخصاونة الحالية، لأنه يُدرك حجم التحدي الذي تشكّله أزمة كورونا للاقتصاد العالمي، والأردن جزء منه. ولذلك قال الملك: "إنّ العالم يواجه حالة من التراجع الاقتصادي بسبب أزمة كورونا، ونحن جزء منه، لذا، لا بدّ من الاستفادة من الفرص الواعدة لدينا، في الصناعات الغذائية والدوائية والمعدات الطبية والزراعة والعمل، وتحسين الخدمات، خاصّة في قطاعات الصحة والتعليم والنقل، وأن تكون الشفافية والمكاشفة والإنجاز نهج عمل الحكومة".
اقرأ أيضاً: لماذا أخفق الإخوان في الانتخابات البرلمانية الأردنية؟
أمّا أهم الموضوعات الأساسية الأخرى في خطابات الملك، والتي ركّز عليها خطاب العرش، فقد كانت تأكيد الثقة بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وهذا موضوع أثير لدى الملك شخصياً، ولا ينفكّ يتحدث عنه في الخطابات الموجهة للشعب الأردني، كيف لا، وقد قامت هذه الأجهزة من خلال تطبيق استراتيجية الأمننة بتنفيذ كافة بنود المقاربات الأردنية لمواجهة أزمة كورونا؟
ومن هنا أكّد الملك أنّ الثقة "تتجلى في أروع صورها في الثقة بالقوات المسلحة الأردنية، الجيش العربي والأجهزة الأمنية، وما تتميز به من كفاءة واقتدار. ونؤكد هنا أهمية دعم قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية، الذين هم المثل والقدوة في التضحية، ولهم منا، عاملين ومتقاعدين، كلّ التقدير والرعاية".
الأمر الأساسي الآخر في خطاب العرش هو الاهتمام بالقضية الفلسطينية والقدس، والوصاية الهاشمية على المقدّسات، التي تُعتبر ركناً أساسياً في كافة خطابات الملك الداخلية والخارجية.
اقرأ أيضاً: هل تسعى مصر والعراق والأردن لمواجهة التدخلات التركية والإيرانية بالمنطقة؟
وقد أكد في الخطاب على "أنّ تحقيق السلام العادل والشامل، على أساس حلّ الدولتين، هو خيارنا الاستراتيجي، وبما يضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ذات السيادة والقابلة للحياة، على خطوط الرابع من حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. أمّا حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه العادلة والمشروعة، فهو السبب الرئيسي لبقاء المنطقة رهينة للصراع وغياب الاستقرار".
وأضاف الملك: "إنّ الوصاية الهاشمية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية، هي واجب والتزام، وعقيدة راسخة، ومسؤولية نعتزّ بحملها منذ أكثر من 100 عام، فالقدس هي عنوان السلام، ولا نقبل أيّ مساس بوضعها التاريخي والقانوني، والمسجد الأقصى، كامل الحرم القدسي الشريف، لا يقبل الشراكة ولا التقسيم".
في التحليل النهائي لخطاب العرش؛ أعتقد أنّ الملك أراد إيصال رسالة مزدوجة: واحدة للداخل في الأردن؛ مفادها التأكيد على عزيمة وإرادة الأردنيين، وتأكيد الثقة بالقوات المسلحة والجيش والأجهزة الأمنية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة لجائحة كورونا.
ركّز خطاب العرش على القضية الفلسطينية والقدس، والوصاية الهاشمية على المقدّسات، التي تُعتبر ركناً أساسياً في كافة خطابات الملك الداخلية والخارجية
وفي الوقت نفسه، وضع رئيس الوزراء بشر الخصاونة وحكومته أمام تحديات أزمة كورونا وضرورة العمل على تخطيها بما يضمن التوازن بين كافة القطاعات الصحية والاقتصادية. وهذه معادلة صعبة جداً في ظلّ الظروف الحالية، ويمكن للمتابع فحصها خلال مناقشة النواب لمشروع موازنة الحكومة لعام 2021 بعجز متوقع 2.05 مليار دينار (2.89 مليار دولار). واحتمال قيام رئيس الوزراء بإجراء تعديل على وزراء حكومته الحالية. فهنا يمكن أن تتجلى مقاربة الدولة لكيفية الخروج من عنق الزجاجة وحالة الشلل الاقتصادي الذي أصاب كافة القطاعات الاقتصادية خلال فترة أزمة كورونا.
الرسالة الثانية للخارج؛ مفادها أنّ الأردن، رغم ظروف جائحة كورونا وتطبيق أقسى شروط مواجهة الفيروس من خلال تطبيق الأمننة، إلّا أنه ملتزم بمواصلة المسار الديمقراطي والمحافظة على الالتزام بالاستحقاقات الدستورية، وهو ما يتماشى مع حقوق الإنسان والديمقراطية السياسية، والمزاج الديمقراطي الذي عاد إلى النشاط في العالم بعد فوز الديمقراطيين بزعامة (جو بايدن) في الانتخابات الأمريكية. وفي الوقت نفسه التأكيد على تحقيق السلام العادل والشامل، على أساس حلّ الدولتين كخيار استراتيجي، والوصاية الهاشمية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية، باعتبارها واجباً والتزاماً، وعقيدة راسخة، ومسؤولية لن يقبل التنازل عنها.