لا يزال البشر يبحثون عن أبطال، وفي حال لم يجدوا واحداً، فإنّهم يخترعونه، وغالباً ما يأتي بصورة المخلص، الذي يريح الناس من المآسي أو الشرور أو القمع حين تُغلق كل أبواب الأمل في التغيير.
وفي هذا السياق يأتي المهدي، ومسيح آخر الزمان، وغيرهما، فهي قناعة قديمة لا تقتصر على الديانات السماوية، وظلت تتردد حتى اليوم، عن قدوم الإنسان الكامل، العادل، من غياهب الماضي ليصلح حال الأمة، فما هو أصل هذه الفكرة، وكيف تطورت عبر الأديان، ولماذا بقيت صامدةً حتى اليوم؟
مخلّص ينتظره الجميع
رغم قدم الفكرة، التي تعود إلى آلاف الأعوام، وتنتمي إلى العديد من الحضارات والديانات السماوية وغير السماوية، إلا أنها لم تتحقق أبداً، وهي تشبه شخصية "غودو" في مسرحية الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت، الذي ينتظره الجميع طوال الوقت رغم أنّه لا يأتي أبداً، ولعل سر قوة فكرة المهدي أو المخلص يكمن ربما في عدم مجيئه أصلاً.
في كتابه "فكرة المخلص"، الصادر عن دار "جداول" العام 2012، يتحدث الباحث محمد الصديقي عن "مدى قدم فكرة المخلص"، فهو رجلٌ عظيم سوف يعيد السلام والعدل إلى العالم، الأمل الذي رافق البشر منذ ظهورهم وبزوغ حضاراتهم.
اقرأ أيضاً: جهيمان العتيبي مُقتحم الحرم المكيّ والمبشّر بالمهدي
ويقول صديقي "تبدأ فكرة المنقذ بالتشكل منذ الحضارة الفرعونية القديمة؛ حيث كان المصريون يعتبرون ملوكهم من المنقذين والمخلصين، كما توجد بعض الوثائق الدالة على اعتبارهم الإسكندر المقدوني مخلصاً في مرحلةٍ لاحقة، بسبب تحريره لهم من الفرس وقمعهم واحتلالهم، حيث سئموا الثورات الفاشلة التي قاموا بها ضد الفرس، وانتظروا مخلصاً من الخارج".
لم يظهر المخلّص أو المهدي إلى هذا العالم لكن الفكرة تكمن ربما في انتظاره لا مجيئه
أما الفرس أنفسهم، فيملكون منقذهم الخاص، الآتي من قلب العقيدة الزرادشتية القديمة، ويشير صديقي إلى زرادشت و"سوشيانت"، وهو اسم فارسيٌ للموعود المنتصر، أو ما يمكن تسميته اليوم "المهدي المنتظر".
الفرس، أرادوا من فكرة المخلص أن "تحميهم من الزمن المحدد بين الولادة والموت؛ حيث يتعرضون خلال الحياة إلى الكفر والمرض والآلام والمصائب، إلى أن يأتي مخلصٌ في نهاية الزمان وينبعث من جديد فيلغي كل كوارثهم".
وتبدو فكرة المخلص هنا اتكالية، تعكس عجز الشعوب عن تخليص نفسها من كوارثها بصورةٍ ذاتية، إلا أن الفكرةً انتشرت في معظم الديانات، فسوشيانت، هو المسيح عند اليهود، وبوذا عند البوذيين، وكريشنا لدى الهندوس، و"فارقليط" عند النصرانيين، والمهدي لدى المسلمين.
وفي الديانة اليهودية، يأتي النبي موسى كمخلصٍ ومنقذٍ قاد شعبه نحو الخلاص بنقلهم من أرض مصر إلى أرض كنعان، بحسب الروايات التوراتية، كما يحل دور الملك "قورش الفارسي" مخلصاً ثانياً لليهود، بحسب ما يطرحه الصديقي، ووفقاً للعهد التوراتي القديم.
أما في المسيحية، فإن الديانة بصورةٍ عامة، تقوم على عقيدة الخلاص، وأن المسيح المخلص، فدا الإنسانية بدمه وجسده، حيث إنه سوف يعود في نهاية الزمان، ليحاسب الأشرار والكفار، وينشر العدل.
اقرأ أيضاً: فيلم "واحد منا" وإماطة اللثام عن السلفية اليهودية
وبصورةٍ عامة، يوجد لدى المسلمين الشيعة والسنة معتقداتٌ حول رجلٍ من نسل النبي محمد، عليه السلام، سيظهر في آخر الزمان ليحكم بالعدل، ويعتقد بعض السنة ومعظم الشيعة مثلاً، أن من شروط حلول يوم القيامة، خروج المهدي آخر الزمان، ليحكم سبع سنين، يملأ فيها الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً.
وتاريخياً، يمكن تتبع تاريخ الحضارات والشعوب، والديانات أو المعتقدات التي ارتبطوا بها؛ حيث تُجمع معظم هذه المعتقدات، على وجودٍ رجلٍ منقذ من كوارث الطبيعة والحروب والموت، ويبدو أن هذا الرجل تطور، ليصبح ملكاً أو قائداً، ثم تم تأليهه وحياكة الأساطير حوله بمرور الزمن.
المهدي والغياب الأبدي
منذ ظهور العقيدة الزرادشتية، أصبح للعالم نهايتان، واحدة فردية شخصية، وأخرى هي القيامة، حيث ينتهي العالم ككل. ومع ظهور الإسلام، بدا أن الخلاص يتركز على كونه جماعياً، وفي بحثه الذي حمل عنوان "البحث عن منقذ"، يرى الباحث العراقي فالح مهدي، أن "الرسول محمد عليه السلام، كان أول المخلصين والمنقذين في الإسلام؛ حيث انتشل البشر من جاهليتهم، لتصبح أخلاقهم هي أخلاق النبي، وتربيتهم هي تربيته ذاتها".
لكل معتقدٍ أو ديانة مخلّصها الخاص من الكوارث والظلم والحروب حيث تبدو فكرة مشتركة وقديمةً جداً
ويوضح مهدي فكرة الرسول المنقذ بقوله "لقد صحبت ولادة الرسول إشارات وتنبؤات، مثل تلك التي صحبت ولادة من أصبحوا مخلصين، مثل كريشنا الهندي، وبوذا، وغيرهما"، حيث تتسم حياة المخلصين، في الموت والولادة والانبعاث إن وجد، بإشاراتٍ تسبق هذه المراحل. كما إنّ كلاً منهم "يحمل معجزته الخاصة، مثل كريشنا الذي تكلم وهو في المهد، أو زرادشت الذي كان يضحك فتهرب الأرواح الشريرة".
ويحاول الباحث القول، بحسب تحليله، "أنه توجد علاقةٌ تاريخية بين الانبياء والمخلصين".
اقرأ أيضاً: هل قرأ ترامب قصيدة يتحدث شاعرها عن أنبياء يقتسمون تاريخ المقدّس؟
غير أن المسلمين عموماً، لا يتحدثون عن أي عودة للرسول محمد عليه السلام ليخلص البشرية، فهو أدى رسالته من الله تعالى إلى البشر، وترك لهم الإسلام كخلاص.
لكنّ الإسلام الشيعي أو الإثني عشري، لا يكتفي بهذه الفكرة؛ حيث توجد سلسلة من الأئمة، عددهم اثنا عشر، ويأتي المهدي كإمامٍ أخير، ليخلص البشرية ويهديها، ولغوياً، تعود كلمة "مهدي"، إلى صيغة المفعول به من "هدى" أي، الذي هداه الله، وفقاً لابن منظور في معجم "لسان العرب".
أما شخصيته، فتتميز بالغياب؛ إذ لا توجد أدلةٌ واقعية وتاريخية على وجوده، ورغم ذلك، فإن له اسماً وتاريخ ميلاد ومكان ميلاد، أما اسمه المتداول بين الشيعة فهو "محمد بن الحسن العسكري ابن علي الهادي ابن محمد الجواد ابن علي الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب".
الفكرة لا تزال جذابة حتى يومنا هذا وتوجد بقوة في المذهب الشيعي وفي أفلام السينما الغربية
وولد المهدي في مدينة سامراء، منتصف شهر شعبان، من عام 255هـ، ويشاع أن والده أخفاه عن أعين الناس خوفاً عليه، وفقاً لكتاب "بحار الأنوار"، للإمام "المجلسي".
ويشير المجلسي، وغيره من أئمة الشيعة، إلى "أنه بعد وفاة المهدي، بحث العباسيون عن ابنه محمد الذي كان يبلغ من العمر خمسة أعوام لقتله أو اعتقاله، مما جعله، يختفي عن الأنظار هرباً من الملاحقة العباسية، وقد عُرفت تلك الفترة بفترة الغيبة الصغرى واستمرت من 260هـ -329هـ، وكان التواصل فيها ما بين المهدي وأتباعه، يتم عن طريق وكيل أو سفير للإمام، يقوم هو بنفسه باختياره".
اقرأ أيضاً: الشيعة والسنة.. الفتنة الكبرى في 100 سؤال
ومثل العديد من قصص المخلصين، يظهر المهدي حين تقترب نهاية الزمان، أما نهاية الزمان ذاتها، فترتبط بحسب الأئمة الشيعة، بوصول الظلم والقمع البشريين حدهما الأقصى؛ حيث سيظهر المهدي في مكة ويتوجه إلى الكوفة "وسوف يطلب البيعة من أنصاره وشيعته، وعندها سوف يبايعه الآلاف".
فكرة المهدي، ظلت أقوى عند الشيعة، وعبر التاريخ الإسلامي عموماً، تم استثمارها سياسياً ودينياً، لتشبه نوعاً من الأمل، بوجودٍ شخصٍ واحد، يأتي فجأة، لينجي البشر من مآسيهم، وهو مبعوثٌ من الله، يحمل بين يديه العدل ليبيد الشر. وكثيراً ما تم استثمار تلك الرواية لتشبيه قادةٍ سياسيين إيرانيين بها مثلاً، حيث كان الخميني شبيهاً للمخلص في العديد من الروايات، بل وكان يتواصل معه، مما يمنحه، ويمنح أي قائدٍ آخر، القدسية والأبدية، والحق في منع أي فردٍ من مناقشة أفكاره بشكلٍ عام.
فكرة المخلّص اتكالية تتضمن اعتماد الشعوب على الأمل والانتظار دون محاولتم تخليص أنفسهم ذاتياً
وفي حين يبدو أن فكرة المهدي، لم تتجاوز الشرق وآسيا قديماً، يمكن النظر حديثاً إلى أوروبا وأمريكا، من بوابة الفنون والسينما، حيث يأتي الكثير من الأبطال الفرادى، بصورةٍ حديثة، مدججين بالتكنولوجيا أو الأسلحة أو المعرفة، لينقذوا العالم من شرورٍ أو دمارٍ كبيرين، مثلما تطرح أفلام كسوبرمان، أو ماتريكس، أو 2012.
فكرة المخلص، قديمة جديدة، سعى البشر قديماً من خلالها؛ إلى الأمل والانتظار والتواكل، واستفادت منها السلطة في وأد أي محاولة ذاتية للشعوب لتنتفض ضدها كلما زاد ظلمها وفسادها، ومع أن الفكرة اليوم تبدو مغرقة في الخيال مع تقدم البشر وانتشار المعرفة والعلم وقيم الحرية والتغيير، إلا أنّها ماتزال جذابةً حتى الآن، ومرشحة للبقاء بطريقةٍ أو بأخرى.