
أدرك المؤسس والأب الروحي لجماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، منذ لحظة التأسيس في العام 1928، أهمية الاقتصاد كدعامة أساسية في بناء التنظيم، حيث لم يكن الهدف مجرد نشر الدعوة الدينية في مجتمع أغلبيته من المسلمين، بل إنشاء كيان قادر على التمويل الذاتي لضمان استمرارية الجماعة ونمو نفوذها.
ومن هذا المنطلق عمل الإخوان على تأسيس شبكة مالية متكاملة، تشمل مصادر تمويل متنوعة مثل الاشتراكات والتبرعات والوقف، إلى جانب إنشاء شركات تجارية ومدارس ومشاريع خيرية، ممّا عزّز مكانتهم داخل البلاد، وأتاح لهم حرية الحركة بعيداً عن الضغوط الحكومية. كما كان للإخوان رؤية اقتصادية تقوم على توظيف الموارد المتاحة بأفضل شكل لضمان التوسع الدائم واستقطاب المزيد من الأنصار.
التمويل الذاتي من خلال الأعضاء
حددت اللائحة الداخلية للإخوان التزامات مالية على الأعضاء، ويُطلب من كل فرد المساهمة وفق إمكانياته من خلال التبرعات، أو الاشتراكات الشهرية، أو الوقف. وقد أكدت اللائحة أنّ هذه المساهمات غير قابلة للاسترداد، وتُستخدم في دعم نشاطات الجماعة المتنوعة. وكان هذا النظام يهدف إلى خلق استدامة مالية من خلال الاعتماد على ولاء الأعضاء، إضافة إلى ضمان عدم تأثر الجماعة بالأوضاع الاقتصادية والسياسية للدولة. ولتعزيز هذا النهج كان على كل أخ دفع اشتراكه بانتظام، وسُمح للأعضاء بالمساهمة بأكثر من اشتراك إذا كانت لديهم القدرة. وشملت هذه المساهمات أيضاً تقديم الدعم العيني، مثل الأراضي أو الممتلكات التي تُستخدم في إنشاء المشاريع الخدمية.
إنشاء المؤسسات الاقتصادية
بدأ الإخوان نشاطهم الاقتصادي من خلال مشاريع صغيرة في مدينة الإسماعيلية، حيث بنوا مسجداً ومدرستين للبنين والبنات، قبل أن يتوسعوا إلى القاهرة. هناك شرعت الجماعة في تأسيس شركات مساهمة لإدارة المدارس والمراكز الاجتماعية والمشروعات التجارية. وبحلول عام 1948 كانت الجماعة قد أطلقت (9) شركات كبرى، إحداها برأس مال بلغ (100) ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت. وامتدت استثماراتهم إلى قطاعات أخرى، مثل الزراعة والصناعة، لتعزيز قدرتهم على الاستقلال المالي. وشملت هذه الاستثمارات إنشاء مصانع صغيرة لتصنيع المنتجات الغذائية والملابس، وكذلك شركات للاستيراد والتصدير، وهو ما وفر لهم مصادر دخل دائمة.
دعم رجال الأعمال
نجح حسن البنا في كسب تأييد العديد من التجار والرأسماليين المصريين، الذين رأوا في الجماعة وسيلة لتحقيق أهدافهم الاجتماعية والدينية. وقد لعبت هذه الفئة دوراً محورياً في تمويل الجماعة، إذ كان بعضهم يقدّم تبرعات سخية لضمان استمرار الأنشطة المختلفة، بينما ساهم آخرون من خلال الشراكة في مشاريع اقتصادية، ممّا منح الإخوان قاعدة مالية متينة. إضافةً إلى ذلك، تلقى الإخوان دعماً غير مباشر من الحكومة عبر التسهيلات التي منحتها وزارة المعارف لإنشاء مدارسهم، ممّا عزز من وجودهم في المجال التعليمي، ومنحهم واجهة شرعية أمام الدولة. علاوة على ذلك استثمر بعض رجال الأعمال المنتمين إلى الجماعة في قطاعات مثل البناء والتشييد، ممّا عزز من قدرة الجماعة على توظيف الأيدي العاملة وتوفير فرص اقتصادية لأعضائها.
الدور البريطاني في تمويل الجماعة
تشير مذكرات حسن البنا إلى أنّ الجماعة تلقت دعماً ماليّاً من شركة قناة السويس، فقد حصلت على تبرع بقيمة (500) جنيه، وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك الوقت. وبرّر البنا قبوله هذا التبرع بأنّ الشركة كانت تقدم مساعدات لمؤسسات دينية واجتماعية أخرى، إلا أنّ ذلك أثار جدلاً حول مدى استقلالية الجماعة، خاصةً أنّ هذا الدعم جاء من سلطة استعمارية كانت تسيطر على مصر. رغم ذلك استمر الإخوان في قبول الدعم من مصادر متعددة، سواء داخلية أو خارجية، لضمان استمرار توسعهم الاقتصادي، ومن خلال هذا الدعم تمكنوا من بناء المزيد من المقرات التعليمية والدعوية التي عززت من تأثيرهم المجتمعي.
الركائز الأساسية للنشاط الاقتصادي للإخوان
ارتكز النشاط الاقتصادي للجماعة على عدة محاور رئيسية:
- المساجد: استُخدمت كمراكز لجمع الزكاة والتبرعات، ولعبت دوراً محورياً في تمويل الأنشطة الدينية والاجتماعية، إلى جانب دورها في نشر الفكر الإخواني. وساعدت في إنشاء صناديق مالية لدعم الفقراء والمحتاجين، وهو ما عزز من صورة الجماعة كحركة اجتماعية ذات بُعد خيري.
- المشاريع الاقتصادية: شملت الشركات التجارية، والمدارس، والمراكز الطبية، والتي كانت تهدف ليس فقط إلى تحقيق الأرباح، ولكن أيضاً إلى توفير شبكة من الخدمات التي تعزز نفوذ الجماعة في المجتمع. إضافةً إلى ذلك توسعت الجماعة في إدارة الشركات العقارية والتجارية، ممّا وفر لها دخلاً ثابتاً.
- المنظمات الخيرية والإغاثية: لعبت دوراً مهمّاً في استقطاب الدعم المالي محلياً ودولياً، فقد تم توجيه جزء من التبرعات إلى أنشطة خيرية، ممّا ساعد في كسب تعاطف المواطنين ودعمهم. كما أنّ هذه المؤسسات قدمت خدمات صحية وتعليمية للفئات الفقيرة، ممّا جعل الجماعة تحظى بتأييد شعبي واسع.
- الاستثمارات الخارجية: شملت استثمارات في الخليج وأوروبا وأمريكا، ممّا عزز من قدرة الجماعة المالية، حيث تم تحويل جزء من الأرباح لدعم أنشطتهم في مصر ودول أخرى. كما أنّ هذه الاستثمارات أسهمت في تأمين موارد مالية في حالات الأزمات، ممّا منح الجماعة مرونة مالية عالية.
من خلال هذه المنظومة الاقتصادية المتكاملة استطاعت جماعة الإخوان المسلمين بناء شبكة مالية قوية، مكنتها من تمويل أنشطتها السياسية والاجتماعية. وقد شكل هذا النموذج الاقتصادي أساساً لامتداد نفوذ الجماعة في المجتمع المصري، وساعدها على البقاء والاستمرار رغم الضغوط السياسية المتكررة. وبهذا الأسلوب تمكنت الجماعة من الحفاظ على استقلاليتها المالية، وتوسيع أنشطتها في مجالات متعددة، ممّا جعلها واحدة من أقوى التنظيمات الإسلامية على المستوى الاقتصادي والسياسي في العالم العربي. إنّ هذه الاستراتيجية الاقتصادية لم تقتصر فقط على توفير الموارد المالية، بل مكنت الجماعة أيضاً من التحكم في قطاعات اقتصادية حيوية، ممّا جعلها قادرة على التأثير المباشر في المشهد السياسي والاجتماعي بمصر.