اعتراف مصري بوفاة الأحزاب السياسية

اعتراف مصري بوفاة الأحزاب السياسية

اعتراف مصري بوفاة الأحزاب السياسية


05/11/2024

محمد أبو الفضل

كانت الحكومات المصرية المتعاقبة عندما تختار النقاش حول قضايا مهمة تفتح حوارا مع قوى سياسية متعددة، في مقدمتها الأحزاب المعترف بها رسميا، وتزداد أهميتها كلما كانت القضايا ذات أبعاد داخلية حيوية، وتترك الفضاء العام ممثلا في الصحف للكتّاب والمفكرين ليدلوا بآرائهم، وقد تعقد القيادة السياسية اجتماعات مع عدد محدود منهم للمزيد من التنوير وتوسيع دائرة الحوار.

تقوم الحكومة الحالية بالعكس، حيث تمنح أولوية لفئة المفكرين، وغالبيتهم ترتاح لتقديراتهم سلفا أو هم قريبون من تصوراتها بدرجات مختلفة، وتمنح أهمية ثانوية للأحزاب، ومعظمها يدور في فلكها، وقلة تتبنى رؤى على يسارها أو يمينها.

في مصر نحو مئة حزب سياسي تحظى بشرعية قانونية، عدد قليل منها، ربما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة يمكن أن يتذكره المتابعون للتطورات السياسية، وبالطبع لا يعرف المواطن العادي شيئا عن هذا العدد القليل إلا في سياق مهامه الاجتماعية، حيث تولي الأحزاب هذا الدور مكانة متقدمة في برامجها، في اتساق واضح مع الدفة التي تقودها السلطة، إذ ترى أن الدور الاجتماعي للأحزاب يسبق السياسي، وهو ما أسهم في موتها إكلينيكيا.

يكتسب الحزب وجوده عند السلطة من حجم مساهماته في برامج الحماية الاجتماعية وليس من أفكاره السياسية، ما أوجد سباقا في المجال الأول، وتصحّرا في الثاني.

تعد النقاشات التي عقدها أو سوف يعقدها قريبا رئيس الحكومة مصطفى مدبولي مع الكتّاب والمفكرين جيدة في مفهومها النظري، إذ شملت طيفا ممن يحملون أفكارا متباينة منسجمة مع السلطة، وقلة على درجة من المعارضة النسبية لسياساتها.

وأثبتت الانتقائية التي ظهرت في آخر لقاءين هذه المسألة، ما عزز الانطباعات بأن الهدف منها “الشو الإعلامي” أكثر من الاستفادة من الأفكار، لأن الأخيرة يمكن أن تجدها الحكومة في وسائل الإعلام، شريطة أن تتيح لها مساحة جيدة من الحرية، وهي المساحة التي تحتاجها الأحزاب كي تمارس دورها المتعارف عليه، ممثلا في الشق السياسي واقترابها مباشرة من نبض الناس.

 وبقدر ما تتحمل الأحزاب جانبا من الخمول والكسل والتقاعس وعدم الشعور بأيّ أثر حقيقي لها في الشارع، فإن الحكومة تتحمل جانبا لا يقل أهمية، لأن التضييق على المجال العام يخنق الأحزاب ويجبر بعضها على البحث عن قنوات للحركة من خلالها، فكانت المساحة الاجتماعية الوحيدة المفتوحة، فدخلها البعض وعزف آخرون عنها.

في الحالتين، انعكست النتائج على شكل الأحزاب وصورتها أمام المواطنين، وتكشف أعداد العضوية التي تعد بالمئات أو الآلاف في أحسن التقديرات تفاؤلا بحجم الحضور والتأثير، ففي دولة مثل مصر تجاوز عدد سكانها المئة مليون نسمة لا يوجد سوى عدد قليل منهم ينخرطون في نشاط حزبي غير سياسي.

وهي مشكلة تبيّن المستوى الذي وصلت إليه مصر، والتي عرفت طريقها إلى الأحزاب قبل نحو قرن ونصف القرن، وتشكل فيها أول برلمان في المنطقة أيضا في هذا التوقيت، وبعد كل هذه العقود لا توجد أحزاب سياسية لها جاذبية، تقدم برامج يتسابق المتابعون والمواطنون على مناقشتها، بالتالي من الطبيعي أن يتلاشى دورها، ولا تجد الحكومة من تستطيع الحوار معه في قضايا مصيرية، فتلجأ إلى بعض الكتاب والمفكرين، باعتبارهم طليعة ثقافية وليست سياسية، فتأتي النتيجة باهتة أو غير مفيدة للهدف الذي تريده السلطة، وهو البحث عن أفكار حقيقية وليس شعارات.

اعترفت الحكومة بتوسيع دائرة الحوار مع المفكرين مؤخرا، ومن حيث تدري أو لا تدري، فإنها لا تملك أحزابا سياسية مؤثرة أو يمكن الحديث معها على أرضية وطنية مشتركة، لأن من يستطيعون تقديم رؤى ناضجة بعيدون عن سياساتها العامة، وتعتبرهم أصحاب برامج وأفكار شاردة أحيانا، وهي زاوية كاشفة، فمهما كانت عبقرية من تقبل الحوار معهم ستفقدها الصوت الآخر الذي يجب أن تنصت إليه في زمن التحديات الكبرى، والذي يعزز مكانتها ويوسع نطاق قدرتها على استيعاب جميع القوى السياسية تحت سقف وطني شامل، يمكن أن يصبح رافدا جيدا للأفكار، فالعبرة بما يقدم من أفكار في جلسات الحوار وليس انعقاده فقط.

استغرقت جلسات الحوار الوطني أكثر من عامين وضمت شخصيات وأحزابا قريبة من الحكومة ومعارضة لها معا، وعندما لم تستطع الحكومة استيعاب مطالب المختلفين معها انسحب عدد كبير منهم، خاصة أن جزءا كبيرا من مخرجاته لم تتحقق على أرض الواقع، وقبل أن يطوي الحوار الوطني صفحته ويتم الاعتراف رسميا بأنه استنزف أغراضه، جرى تدشين حوارات رئيس الحكومة مع الكتّاب والمفكرين، في محاولة لاختراع حلقة جديدة تستغرق وقتا حتى تُستهلك سياسيا، ثم يتم البحث عن حلقة أخرى يتم الدوران في فلكها.

كل ذلك والأحزاب التي يجب أن تشارك في الحوارات غائبة أو مُغيّبة، وهي مشكلة ستعاني من تبعاتها الحكومة والمجتمع، فالأولى لن تجد بوتقة تساعدها على توليد الأفكار وتحمّل المسؤولية في الأوقات الحرجة، والثاني لن يجد وعاء يلجأ إليه للتنفيس عن معاناته اليومية كبديل للحكومة، وقد يضطر للمزيد من العزوف أو اللجوء إلى قنوات معارضة وغير شرعية للانضمام إليها والاقتناع بأفكارها الهدامة.

يمثل اعتراف الحكومة الضمني بوفاة الأحزاب خطرا على دولة لم يعتد مواطنوها على الانصياع للصوت الواحد فترة طويلة، في وقت تواجه فيه أزمات مركبة، فالأحزاب وما تملكه من صحف كانت أداة لتنفيس الكبت السياسي والمجتمعي، وفي غياب ذلك ربما ينفجر الكبت في وجه الحكومة، وعليها أن تفتح مروحتها لاستيعاب القوى الوطنية تحت جناحيها.

ومهما كانت المعارضة غير مريحة للحكومة، فالقاعدة التي تنطلق منها المعارضة مخلصة في جوهرها ومفيدة للسلطة، وإذا نظرت الأخيرة إلى حصيلة السنوات العشر الماضية ستجد أنها خسرت الكثير عبر تضييق الخناق على الأحزاب، فهذه السياسة خلقت كيانات عديدة مشوهة، لا هي بالأحزاب ولا هي بالجمعيات الأهلية.

ولا يقاس الحراك السياسي بعدد الأحزاب، لكن بمدى فاعليتها، وهذه لن تظهر تجلياتها في فضاء مسكون بالهواجس والريبة، ما يجبر الناس على اللجوء إلى العمل الخفي ونشر الشائعات والنيل من إنجازات السلطة التي تعد مسؤولة وحدها عن الأزمات، وسوف تواجه تحديات أكبر مع تحول منصات التواصل الاجتماعي إلى “هايد بارك” في غياب الأحزاب وعدم القدرة على الوثوق في طبقة الكتّاب والمفكرين الذين اختيروا بعناية ومن دائرة ترتاح لها السلطة، وقد لا يرتاح لها آخرون، وما لم تحدث إصلاحات وانفراجات في المجال العام لن تحصل الحكومة على مبتغاها من حوارات تجريها مع من هم على مقاسها الثقافي ومزاجها السياسي.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية