مشاركة تفوق التوقعات في الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد أصابت بلا شك حركة النهضة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في تونس، بخيبة أمل ويأس لا نظير لها، ولا سيّما بعد محاولات دؤوبة للحركة للتأثير على سير الاستفتاء إمّا بدعوات المقاطعة، وإمّا بتوزيع الرشاوى الانتخابية، في محصلة صفرية لمحاولات دامت أكثر من شهرين، ربما تود الحركة معها لو عادت بها عقارب الساعة إلى الوراء، غير أنّ الرئيس التونسي قيس سعيّد أوقف تلك العقارب أيضاً، مؤكداً أنّ التاريخ "لا يمكن أنّ يعود إلى الوراء".
تصريحات الرئيس التونسي جاءت عقب الإعلان عن نسب المشاركة في الاستفتاء على دستور جديد يتصدى للأحزاب ذات المرجعية الدينية، وفي مقدمتها حركة النهضة، التي يتهمها التونسيون بالمسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد خلال ما أطلقوا عليه "العشرية السوداء"؛ أي الـ10أعوام التي سبقت قرارات 25 تموز (يوليو)، وشهدت توغلاً للحركة الإخوانية في مفاصل الدولة التونسية، ضمن ما يُعرف بـ"خطة التمكين" التي حاولت أذرع الإخوان المختلفة في كافة دول العالم ولا سيّما في مصر تطبيقها.
نتائج مبشرة
الرهان كان، وما يزال، على وعي الشعب التونسي الذي نحّى جانباً دعوات النهضة المستميتة لمقاطعة الاستفتاء الدستوري، فقد أعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر، مساء أمس، نسب مشاركة "أولية" كبيرة في الاستفتاء على دستور "الجمهورية الجديدة" أحدث خطوط المواجهة بين سعيّد والحركة الإخوانية.
ووفقاً لإذاعة "موزاييك" التونسية، فقد قال بوعسكر: إنّ عدد المشاركين في الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد بلغ إلى حدود العاشرة ليلاً موعد إغلاق مكاتب الاقتراع (2.458.985) مقترعاً من إجمالي (8.929.665) مسجلين في قاعدة بيانات الهيئة؛ أي بنسبة مشاركة في حدود 27.54%، النسبة التي تُعدّ مهمّة للغاية مقارنة بالانتخابات الأخيرة التي جرت في 2019، خاصة أنّ التصويت حالياً اعتمد نظام التسجيل الآلي، فيما اعتمدت الانتخابات الماضية على التسجيل الشخصي المحيّن، وهو ما يفسّر الفارق في نسبة المشاركة.
نسب المشاركة ارتفعت تدريجياً على مدار الساعة، فقد سجلت في تمام الساعة الواحدة 11.8% بتصويت نحو (1.053.000) ناخباً، وبعدها بساعة ارتفعت نسب المشاركة إلى 12.6%، قبل أنّ تقفز بشكل ملحوظ في الساعة السابعة مساءً إلى 21.85%، على نحو بدد رهانات حركة النهضة والأحزاب المعارضة على ضعف الإقبال، لاعتبارات عدة من بينها دعوات المقاطعة، وانشغال التونسيين بإجازات الصيف، وغياب المنافسة، ومحدودية الحملة الانتخابية.
كفة سعيّد أم كفة النهضة؟
رجحت نسب المشاركة الكبيرة كفة سعيّد أمام حركة النهضة التي عملت على مدار الشهرين الماضيين على إحباط تمرير الدستور الجديد عبر وسائل عدة، منها دعوات المقاطعة، ومحاولات استمالة الناخبين برشاوى انتخابية تلعب على وتر الوضع الاقتصادي المزري، الذي كانت الحركة الإخوانية السبب الرئيسي وراءه، فضلاً عن اتهامات لها بالوقوف وراء محاولات التشويش على سير الاستفتاء إلكترونياً، أو من خلال إرباك المشهد الانتخابي في الخارج، فقد نقلت صحيفة "الحصاد" التونسية عن بوعسكر حديثه أول من أمس عن حدوث بلبلة واضطرابات "متعمدة" في عدد من مكاتب الاقتراع بالخارج.
وكشف بوعسكر أنّه تم إيقاف أطراف في تونس تواصلت مع هؤلاء الأشخاص بالخارج، وأنّ النيابة العامة التونسية تقوم بالتحقيق في ذلك، ممّا يطرح العديد من علامات الاستفهام حول ماهية تلك الأطراف، ومدى ارتباطها بالحركة المنتمية للإخوان المسلمين، الجماعة الأخطبوطية التي تتباهى دائماً بأنّ لديها أذرعاً في كل مكان بالعالم.
مشاركة تفوق التوقعات في الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد أصابت بلا شك حركة النهضة بخيبة أمل ويأس
لم ترجح نسب المشاركة كفة سعيّد فحسب؛ بل عكست أيضاً حجم السخط الشعبي ضد حركة النهضة وقادتها، فقد مثلت المشاركة المرتفعة ردّ فعل عكسي على حملات النهضة التي ركزت على استهداف سعيّد أكثر من تركيزها على نقد الدستور.
وعادة ما تعوّل الحركة الإخوانية على قدرتها على الحشد للضغط على الأنظمة وإحباط استحقاقات دستورية، غير أنّها مُنيت بالفشل الذريع، وعجزت عن الحشد لمظاهرة مناهضة للاستفتاء الدستوري السبت الماضي، حيث لم يُلبِّ دعوتها للتظاهر سوى بضع مئات.
ومنذ الإعلان عن صياغة دستور جديد نهاية أيار (مايو) الماضي، لم تتوقف الحركة عن استخدام كافة الوسائل للتأثير على نتائج الاستفتاء على دستور يتصدى للأحزاب ذات المرجعية الدينية، وفي مقدمتها النهضة وأذرعها المختلفة، تارة عبر دعوات المقاطعة وتحريض الشعب التونسي ضد سعيّد، وأخرى عبر التشويش على الاستفتاء، إمّا بمحاولات اختراق اتُهمت بها ضمناً، وإمّا بتوزيع الرشاوى الانتخابية لحث التونسيين على التصويت بـ "لا".
صلاحيات واسعة
رافق صياغة الدستور، منذ الإعلان عن بدء صياغته في نهاية أيار (مايو) الماضي، العديد من الانتقادات الشديدة، انطلق بعضها من أنّه يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، فيما ركز غالبيتها على محو الهوية الدينية للدولة، التي تضع حداً لتسييس الدين، على غرار ما فعلته حركة النهضة في السابق.
وتعليقاً على تقارير محلية وغربية حول الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية في الدستور الجديد وإرسائه نظاماً رئاسياً خالصاً بدلاً من كونه برلمانياً، قال سعيّد أمس: إنّ ''التاريخ لن يعود إلى الوراء... الرئيس يستمد مشروعيته من الشعب، وليس من مجلس النواب...، والمشكل في الفصل بين السلط هو التوازن بين السلطات''، وفقاً لإذاعة "موزاييك".
صوت الصناديق ثورة
نسب المشاركة "الأولية" التي تم الإعلان عنها أمس حملت في طياتها معاني رمزية، ومن بينها انتصار الرئيس التونسي قيس سعيّد في مواجهة حركة النهضة والمعارضة، الأمر الذي عكسته تصريحات بعض الناخبين التونسيين لوكالات الأنباء، فقد قالت آية الجميعي (طالبة 23 عاماً): إنّها "متفائلة"، بالرغم من "وضعية الفوضى" التي تعيشها تونس، وإنّها قرّرت المشاركة في الاستفتاء "الذي من الممكن أن يكون نقطة انطلاق من أجل تحقيق تغييرات حقيقية، بعد أنّ أرسى الرئيس سياسته، ويُقدر أنّها الأنسب لصالح البلاد".
وقالت بيّة (54 عاماً) عن السياسيين المعارضين: إنّهم "بقوا أكثر من (10) أعوام في الحكم دون أن يفعلوا شيئاً، فليتركوا الرجل يعمل، نحن نثق به، وسنسانده إلى النهاية"، في إشارة إلى حركة النهضة الإخوانية، وقال منذر قلاوي (رجل في منتصف العمر) في مقهى قرب مركز الاقتراع بحي التضامن الفقير في العاصمة: "نحتاج إلى رجل قوي يستخدم العصا من أجل استعادة تونس وفرض الانضباط".
سعيّد: الجماهير المتواجدة في كل المدن تؤكد أنّ الشعب التونسي يحقق اليوم الانتقال من حالة اليأس والتفقير والتنكيل
تصريحات الناخبين التونسيين لم تأتِ من فراغ، فقد أثبتت التجارب السابقة والأعوام الماضية أنّ الفوضى إحدى أدوات جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها المختلفة في كافة الدول، لفرض أجندتها، التي تعتمد على "ديمقراطية المرة الواحدة"؛ أي إنّه بعد فوزها في أي انتخابات تنقلب على ديمقراطية صناديق الانتخابات، وتبدأ في شرعنة أنماط جديدة من الحكم بعيدة كل البعد عن الإرادة الشعبية وترسيخاً لإرادة الجماعة. وعلى وجه التحديد، تعيش تونس إلى اليوم على وقع الأزمات الناجمة عن إدارة النهضة للبلاد خلال "العشرية السوداء".
وفي هذا الصدد، قال سعيّد مخاطباً الشعب التونسي أمس: "الجماهير المتواجدة في كل المدن تؤكد أنّ الشعب التونسي يحقق اليوم الانتقال من حالة اليأس والتفقير والتنكيل، لكن المهم، حسب تقديره، أنّ الذي هُمّش يشارك في صنع القرار، وخاصة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية".
وفي مواجهة دعوات النهضة لمقاطعة الاستفتاء على الدستور الجديد الذي يُقلّم مخالبها، علا صوت الصناديق ليتحوّل إلى ثورة على محاولات الحركة الإخوانية السطو على إرادتهم، فقد أشار سعيّد إلى أنّ الاستفتاء تعبير عن إرادة الأغلبية.
وقد نأى سعيّد بنفسه عن الهجوم على المقاطعين، وقال: إنّ "كلّ من اختار المقاطعة هو حر، لكن كان بإمكانه أن يشارك، وأن يقول: لا".
مواضيع ذات صلة:
- مستقبل حركة النهضة في تونس..ماذا بعد إحالة الغنوشي إلى قاضي مكافحة الإرهاب؟
- مشروع الدستور التونسي يفجر حالة من الجدل... ما موقف حركة النهضة؟