على الرغم من إقالة الرئيس السوداني عمر البشير وزيرَ الصحة بسبب ارتفاع أسعار الدواء، إلا أنّ ذلك لم يمنع المحتجين السودانيين عن عزمهم تسيير مسيرة ضخمة إلى القصر الرئاسي، في وقت تبدو فيه الأزمة مفتوحة على الاحتمالات كافة.
اقرأ أيضاً: ماذا يحدث في السودان؟
وبخلاف ما كانت تتوقع حكومة الرئيس عمر البشير بأنّها محض (غيمة صيف) عابرة وتتبدد، كونها عفوية ولا توجد جهة تتبناها وتديرها وتشرف على تنظيمها، فإن المظاهرات في السودان أخذت تتبلور يوماً بعد يوم وتصبح أكثر تنظيماً وتكتسب شرعية الشارع وتجبر أحزاباً موالية (متحالفة) مع الحكومة على الانسحاب والانضمام إلى المُحتجين السلميين الذين ارتفعوا بسقف مطالبهم من كبح لجماح أسعار السلع والخدمات ومعالجة النقص الحاد في السيولة النقدية وإيقاف انهيار النظام المصرفي، إلى المطالبة بتنحي البشير ونظامه عن حكم البلاد دون قيد أو شرط.
ويطالب المحتجون بتشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني تحكم لأربع سنوات؛ تعد من خلالها لانتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وتوقف الحرب الأهلية الدائرة في بعض مناطق البلاد، فضلاً عن تنظيم مؤتمر دستوري وإعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية وتطوير المنظومة العدلية والكثير من البنود الأخرى التي وردت في ما يُسمى بإعلان (الحرية والتغيير) الموقع عليه من قبل تجمع المهنيين السودانيين، وقوى الإجماع الوطني، وقوى نداء السودان والتجمع الاتحادي المُعارض.
ضربة البداية
19 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، خرجت مسيرات جماهيرية هادرة في مدينة عطبرة (شمالي السودان)، ومن ثم مدينتي بورتسودان والقضارف شرقي السودان؛ احتجاجاً على رفع أسعار الوقود، وبسرعة لم تتوقعها الحكومة السودانية ولا أجهزتها الأمنية، حيث أحرق المتظاهرون مقرات الحزب الحاكم رداً على العنف المفرط وغير المسبوق الذي جابهتهم به القوات الأمنية.
"الجبهة الوطنية للتغيير": نظام البشير لا يستطيع التغلب على الأزمة بسبب عزلته السياسية والاقتصادية والإقليمية والدولية
في الأيام التالية اتسعت دائرة الاحتجاجات وشملت كل أنحاء البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً، لتشمل العاصمة بمدنها الثلاث، الأمر الذي أجبر الحكومة، ولأول مرة، على الاعتراف بالأزمة، وقالت إنها بصدد إيجاد حلول عاجلة لها؛ لكنها تصدت للمحتجين حد القتل بالرصاص، ما فاقم التظاهرات وأزكى أوارها.
لاحقاً أجبرت الحكومة على الاعتراف بقتل المتظاهرين، حيث قالت، عبر بيان لوزارة الداخلية، إنّ عدد القتلى بلغ ثمانية أشخاص فقط، فيما أكد تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية (أمنستي)، أنّ عدد القتلى من المتظاهرين السلميين وصل إلى ما لايقل عن 37 شخصاً، ولكن مصادر متطابقة من المعارضة السودانية ومنظمات المجتمع المدني أكدت أنّ عدد القتلى تجاوز الأربعين؛ وأن مئات المُحتجين والناشطين السياسيين اعتقلوا دون محاكمات، أفرج عن بعضهم، ولا يزال جُلّهم رهن الاعتقال.
السودان خسر نحو ثلاثة أرباع ثروته النفطية
تقول المحللة السياسية سامية الجاك لـ "حفريات" إنّ العام المنصرم، شهد ارتفاع أسعار معظم السلع بأكثر من ثلاثة أضعاف، فيما هوت قيمة الجنيه السوداني إلى حد غير مسبوق، مشيرة إلى أنّ "السودان خسر نحو ثلاثة أرباع ثروته النفطية عقب انفصال جنوبه 2011، وأنّ الحكومة لم يكن لديها خطط لمعالجة هذا النزيف، لكنها ظلت تدعي على لسان رئيسها ومسؤوليها الكبار بأنّ انفصال الجنوب لن يؤثر على اقتصاد البلاد سلباً بل ستكون نتائجه إيجابية".
اقرأ أيضاً: لماذا أثار تغيير في الدستور السوداني الجدل؟ وهل اقترب البشير من تمديد حكمه بالبلاد؟
وأضافت الجاك بأنه منذ انفصال الجنوب 2011 يعاني السودان أزمة اقتصادية لا مثيل لها في دول العالم كافة، "إذ بلغت نسبة التضخم 70%، بعد أن فقدت الحكومة النفط الذي كان يؤمن 80 % من موارد العملات الأجنبية، وترافق كل ذلك مع ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بعد تطبيق موازنة 2018، التي أقرت زيادة سعر الدولار بعد نحو عامين من التدهور المستمر للجنيه السوداني، إلى 47.5 جنيهاً للدولار عبر آلية أطلقت عليها الحكومة اسم (صناع السوق)، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في التحكم بسعر الدولار؛ وهذا ما كان متوقعاً".
واعتبرت المحللة السياسية أنّ هناك حالة إخفاق وفشل كبيرين في إدارة اقتصاد البلاد أدّيا إلى تفشي الفساد المؤسسي الذي ضرب بجذوره عميقاً داخل قيادة الحزب الحاكم وأعضائه بجانب ارتفاع نسبة الفقر والبطالة وانعدام الدعم لصغار المنتجين والمستثمرين، في الوقت الذي تذهب فيه موارد الدولة الإنتاجية والمالية إلى جيوب كبار المسؤولين وعائلاتهم، مؤكدة إنه "لا يمكن فصل الكارثة الاقتصادية عن النظام السياسي فهو الذي أنتج هذه الأوضاع المزرية".
سياسة ثبت فشلها
من جهته، قال الخبير الاقتصادي إبراهيم الأمين لـ "حفريات" إنّ الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها حكومة معتز موسى رئيس الوزراء السوداني للسيطرة على سعر صرف العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني، ممثلة في آلية صُناع السوق "أثبتت فشلها"، كما أنّها لن تنجح أبداً، "لأن المشكل الأساسي الذي ينبغي الالتفات إليه ومعالجته قبل الشروع في أي إجراءات اقتصادية هو الفساد، وما لم يتم تحجيمه ومحاصرته، فإنّ الأوضاع الاقتصادية لن تنصلح وتتقدم إلى الأمام".
أكد الرئيس السوداني في وقت سابق، خلال خطاب متلفز، أنّ بلاده توشك على تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تمر بها
وأشار الأمين إلى أنه ما إن أعلنت الحكومة قرارها بإدارة سعر الصرف عبر رؤساء المصارف وبعض التجار والخبراء بعيداً عن البنك المركزي بحثاً عن استقلالية الآلية الجديدة بهدف وضع سعر مجزٍ يُساعد في محاربة السوق الموازي الذي يتحكم فيه بعض التجار بعيداً عن الدولة، حتى زاد سعر الدولار عن السعر الذي حددته آلية الحكومة بـ(47.5) وعلى إثر تلك القرارات اتجه كثير من المواطنين إلى البنوك والمصارف للشراء والبيع إلا أنهم فوجئوا بعدم وجود سيولة نقدية في البنوك، وهكذا ارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في السوق الموازي إلى معدلات قياسية، متخطياً السعر الذي حددته الحكومة بكثير.
ويبدو أنّ حكومة معتز موسى، كما يرى الأمين، لا تفهم حتى معنى (صناع السوق)، فصانع السوق هو عبارة عن شركة أو مجموعة من الشركات تكون دائماً على أهبة الاستعداد لشراء الأصول المالية أو بيعها بسعر محدد واضح على المدى الطويل. وتشترك هذه الشركات في المعاملات التجارية مباشرة إما بصفتها بائعاً أو مشترياً. كما تحدد أسعار بيع أو شراء أدوات التداول الخاصة إلى حدٍ بعيد. ويتمثل الدور الأساسي لصانع السوق في توفير السيولة أو خلق فرص أمام المشاركين الآخرين في السوق لشراء مجموعة كبيرة من الأسهم والعملات والعقود الآجلة وأدوات التداول الأخرى بطريقة شرعية أو بيعها بسعر محدد واضح. كما يخاطر صناع السوق بأموالهم نظراً لكونهم الطرف الآخر دائماً في أي صفقة، ولذا فهم يلعبون دوراً دائماً في وضع العديد من الإستراتيجيات لضمان (التحوط) ضد الخسائر. "أما ما حدث في السودان فلم يكن كذلك، فانهارت كل الأوضاع وانهارت الآلية أيضاً".
منظمة الشفافية: الفساد ضارب في العمق
تبدو الأوضاع السياسية في السودان أكثر تعقيداً مما يتصورها كثيرون؛ فالاقتصاد منهار تماماً والفساد مستشرٍ بدرجة لا يمكن تصورها، حيث تصنف منظمة الشفافية الدولية منذ سنوات آخرها العام المنصرم 2018 السودان كرابع أكثر الدول فساداً على مستوى العالم، وأن "الفساد ضارب في عمق أجهزة الدولة بما فيها الأجهزة الأمنية والحزب الحاكم و مؤسسة الرئاسة وأسر كبار الوزراء والمسؤولين وأقربائهم، ما يصعب القضاء عليه".
وتعتقد القوى السياسية المشاركة في الاحتجاجات أنّ الحل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة، هو الضغط المستمر على الحكومة للإطاحة بها، حتى يتسنى محاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة وضخها في اقتصاد البلاد وإنعاشه مجدداً، فالأزمة، في اعتقاد المحتجين، لا تتعلق بالخبز والوقود فقط، وإنما هي أزمة سياسية سببها النظام القائم الذي يجب أن يرحل. وقالت "الجبهة الوطنية للتغيير"، المكونة من 22 جماعة سياسية بعضها قريب من الحكومة، في بيان الأسبوع الماضي، إن نظام البشير، لا يستطيع التغلب على الأزمة "بسبب عزلته السياسية والاقتصادية والإقليمية والدولية، ولا سبيل لتغيير الوضع الحالي إلا بإقامة نظام جديد يحظى بثقة الشعب السوداني".
اقرأ أيضاً: أحلام صغيرة من شرق السودان!
وقبل إقالته وزير الصحة، أصدر الرئيس السوداني عمر البشير قراراً بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول الأحداث التي يشهدها السودان منذ أسبوعين، برئاسة وزير العدل محمد أحمد سالم.
وكان البشير أكد في وقت سابق، خلال خطاب متلفز، أنّ بلاده توشك على تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تمر بها، مشيراً إلى أنّ مؤسسات الدولة وضعت خريطة طريق للخروج منها قريباً. ووعد أن يشهد العام 2019 زيادة في الرواتب والإبقاء على دعم الكثير من السلع. وأشاد البشير بالشعب السوداني و"صبره على تردي الأوضاع المعيشية"، متعهداً بإجراء الانتخابات في 2020 "في أجواء حرة نزيهة"، داعياً كل القوى السياسية إلى "الإعداد الجاد" للمشاركة فيها.