تُعد مؤلفات ابن تيمية (661-728هـ) بمثابة قبلة للسلفية الدعوية من جهة وللسلفية الجهادية من جهة أخرى، رغم اختلافهما في تأويل النصوص، فأصبح "شيخ الإسلام" مثار نزاع بين دعاة الفريقين؛ فهناك من يرى أنّ فتاواه كانت إصلاحية في زمن مواجهة التتار، وهناك من تراءى له أنّها كانت نواة سلفية الجزيرة العربية، ومن الباحثين من عدّ مؤلفات ابن تيمية اللّبنة الأولى لأدبيات السلفية الجهادية التي استشهدت به لتبرير عملياتها الاقتتالية.
فتوى ماردين
سُئل ابن تيمية، بعد أعوام من تبحّره في الفقه، عن بلدة ماردين (بلدة جنوب شرق الأناضول)، وما هو حكم المسلمين الذين يعيشون في ظل حكم التتار الذين كانوا يزعمون انتماءهم للإسلام رغم عدوانهم، فقال فتواه الشهيرة:
"كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه) (مجموع الفتاوى، 28/240-الفتاوى الكبرى 3 /533).
هناك من يرى أنّ فتاواه كانت إصلاحية في زمنه ومنهم من عدّها اللّبنة الأولى للفكر المتشدد
اسُتخدمت هذه الفتوى في اغتيال الرئيس المصري أنور السادات 1981، من خلال كتاب "الفريضة الغائبة"، لمؤلفه محمد عبد السلام فرج، وطوّعها الجهاديون في عملياتهم المسلّحة، واستند إليها تنظيم "داعش" في عملياته، فنسبت إلى فتاوى ابن تيمية تأسيس نواة الجماعات الجهادية في العصر الحديث؛ لأنّ حكومات البلاد العربية في نظر المجاهدين دار حرب تحكم بالقوانين الوضعية والدستور وتساند الحكومات غير المسلمة، فتصبح الدماء مستباحة، ويصبح الخروج على الحكام واجباً.
لكن هناك نقد تم توجيهه للجماعات الجهادية التي استندت لهذه الفتوى؛ لأن هذه الفتوى تناقض فتوى أخرى لابن تيمية، يقول فيها: "والصبر على جور الأئمة، أصل من أصول أهل السنة والجماعة" (مجموع الفتاوى 3/248).
اقرأ أيضاً: ابن تيمية.. لماذا مايزال يثير كلّ هذا الصخب؟
هكذا وجدت السلفية الجهادية المناهضة للحكومات العربية ضالّتها المنشودة في فتوى بلدة ماردين، بينما وجدت السلفية المؤيدة للحكومات ضالّتها في فتوى عدم وجوب الخروج على الحاكم، فأصبح ابن تيمية متنازعاً عليه بين سلفية موالية للحكام وأخرى مناهضة لهم.
هل أخطأت السلفية الجهادية في قراءة ابن تيمية؟
هذه الفرضية ذهب إليها بعض الباحثين، وكان من بينهم الباحث في شؤون الفكر الإسلامي، د. هاني نسيرة، ومن بين كتاباته في هذا الصدد "متاهة الحاكمية؛ أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية"، ويذهب د. نسيرة إلى التأكيد أنّ فتوى ماردين لم تذكر كلمة "يقاتل"، وإنما صحيحها هو: "يُعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"، وبالفعل هي وردت كلمة "يعامل"، في مصدر آخر، تحديداً في كتاب "الآداب الشرعية والمنح المرعية" لابن مفلح (قاضي وفقيه حنبلي 708-736هـ)، وهو من تلامذة ابن تيمية.
اسُتخدمت "فتوى ماردين" في كتاب "الفريضة الغائبة" لإقرار اغتيال الرئيس المصري أنور السادات
لكن مع فرض أو إثبات أنّ ابن تيمية استخدم لفظ (يعامل) بدلاً من (يقاتل) في فتواه، هل يغير ذلك في مضمون معاملة الخارج عن الشريعة الإسلامية؟
يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ج 28: "أجمع علماء الأمة على أنّ كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضة أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال والخمر والزنا والميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، والتي يُكفر الجاحد لوجوبها، فإنّ الطائفة الممتنعة تُقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً عند العلماء"، وقال ابن تيمية كذلك: "ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يُقاتل من خرج عن شريعة من شرائع الإسلام وإن تكلم بالشهادتين"، وقال كذلك: "والدين هو الطاعة فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله".
اقرأ أيضاً: ابن تيمية: شيخ الإسلام المتنازع عليه
وفتوى ابن تيمية هنا واضحة الألفاظ والمعاني، فمن يمتنع عن فرض الجزية، مثلاً، هو كافر، ومن يمتنع عن الصيام أو الحج كذلك، ...إلخ.
وقد صدرت هذه الفتوى (فتوى الطائفة الممتنعة) عن ابن تيمية، مع نبأ زحف التتار إلى دمشق، بعدما أعلن السلطان التتري، محمود قازان، إسلامه (ت 703 هـ)، والذي أسلم معه 100 ألف من عشيرته، وهنا أصبح الزحف على دمشق غزو طائفة مسلمة لأخرى.
في هذا الصدد، يقول الباحث محمد جمال باروت، في كتابه "حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية": إنّ فتوى (الطائفة الممتنعة) هي بديل عن فتوى التكفير؛ لأنّ التكفير في الإسلام له قواعده التمييزية بين تكفير المطلق وتكفير المُعين، لكن فتوى (الطائفة الممتنعة) تفتح الباب على مصراعيه لتكفير المعين.
لا شكّ في أنّ مواجهة التتار في دمشق (حتى وإن أعلنوا إسلامهم) كان سبباً محورياً في خطاب ابن تيميّة وفتاواه، فهو يدافع عن دمشق وعن أمة الإسلام ضد الخوارج التتار بحسب ما تراءى له، ولا يجب إغفال البعد النفسي، لأنّ ابن تيمية أصبح يدافع عن دمشق ضدّ المحتل، وفي باله أحداث هروبه وأسرته من التتار وهو في سنّ السابعة، من بلدة "حران" التي نشأ فيها، تفادياً لهجمات التتار.
الكافر الأصلي والكافر المنتسب
هذا لا يعني بالضرورة أنّ خطاب ابن تيمية خالٍ من الغلو أو إنه أثار الكثير من الجدل كما يرى بعض الإسلاميين أنفسهم، وهنا نحن لا نجتزئ خطابه، لكن نسعى إلى أن نرصد أهم فتاواه وأفكاره في سياقها الخاص والعام، ومن بينها ما كتبه عن الكافر الأصلي والكافر المنتسب.
فالكافر الأصلي في حكم ابن تيمية؛ يمكن عقد الهدنة معه، وهو من ولد على غير دين الإسلام، أما الكافر المنتسب، أي الذي أشهر إسلامه، ولم يلتزم الشرائع؛ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، والكف عن دماء المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله تعالى، وضرب الجزية على اليهود والنصارى، وغير ذلك، وهؤلاء يجب قتالهم بإجماع المسلمين كما قاتل الصديق مانعي الزكاة.
هناك سياق خاص في هذه الفتوى موجه إلى التتار الذين أسلموا، ويعدّهم ابن تيمية من الخوارج، أو من المسلمين غير الملتزمين بشرائع الله تعالى بشكل عام، ومن بين هذه الشرائع "الجزية"، وهذه الفتوى تحديداً تستخدم من الجهاديين في تنظيم داعش ضدّ غير المسلمين.
اقرأ أيضاً: "داعش" إذ يحرض على قتل الآباء والأقربين..هل المسؤول ابن تيمية؟
فالجهاديون يلومون الحكام لعدم فرض الجزية على الرعية، كما هو منصوص عليها في آية قرآنية صريحة، في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون﴾ (التوبة: 29)، لكن لم تعد هناك رعية في العصر الحالي؛ حيث تم استبدال الرعية بلفظ (مواطن)، والجزية ليست من مكونات دول المواطنة، بل يمكننا أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لنقول إنّ التجديد الديني حدث في القرن التاسع عشر؛ حين بدأت البلاد الإسلامية في إلغاء الجزية قانوناً، لتصبح مهمة الدفاع عن الوطن حقاً لكلّ المواطنين، على اختلاف العقيدة.
ابن تيمية وتحريم تهنئة المسيحيين
أما عن المسيحية؛ فقد ألّف ابن تيمية كتاباً بعنوان "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، وقدّم فيه، بحسب قوله، أدلة على تحريف الإنجيل، رداً على ما كتبه بولس الراهب، أسقف صيدا الأنطاكي، في حقّ النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فبحسب قول بولس الراهب: "النبي محمّد جاء مبعوثاً للعرب فقط وليس للعالمين".
اقرأ أيضاً: قضايا الحسبة في مصر: أئمة التكفير يعتقلون العقل النقدي
ولعلّ أشهر فتاوى ابن تيمية، والتي تستند إليها السلفية المعاصرة؛ فتوى عدم جواز تهنئة المسيحيين، فيقول ابن تيمية: "لا يحلّ للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء، مما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس، ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة وغير ذلك، ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء، ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد، ولا إظهار زينة، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأعياد" (مجموع الفتاوى 13/ 175)، لكن في الوقت ذاته؛ لا يجب أن نتناسى أنّ ابن تيمية تعرض للتكفير، بل حوكم في مصر كونه مبتدعاً، وسجن من بين عامي 705 و707هـ، بسبب إثباته الصفات الإلهية ومنها حقيقة جلوس الله عز وجل على العرش، فاتهمه القاضي المالكي في مصر (ابن مخلوف) بتجسيم الذات الإلهية؛ أي إنّ ابن تيمية عانى من الغلو والمحاكمة بدلاً من المناقشة والمناظرة في هذه الحالة، كما سجن في دمشق حتى وفاته العام 728هـ بسبب فتواه التي قال فيها: "لا يشدّ الرحال إلى قبر الرسول، وإنما يشد الرحال إلى المسجد"، ("مجموع الفتاوى" (1/ 304).
هل لابن تيمية وجه آخر؟
نجد أنفسنا أمام بضعة شواهد نستدل من خلالها على أنّ هناك جانباً آخر من ابن تيمية بخلاف الصورة الذهنية المصاحبة لفتاواه التي استندت إليها الحركات الجهادية، وفي هذا الصدد يقول د. محمد السيد جليند (رئيس قسم الفلسفة في دار العلوم بجامعة القاهرة)، في كتابه "الإمام ابن تيمية وقضية التأويل": إنّ "ابن تيمية لم يكفر مسلماً إلا في حدود الضوابط الشرعية، ومن بينها؛ إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة"، واستشهد الجليند بمقولة ابن تيمية بعدم جواز تكفير أهلة القبلة.
ثمة شواهد يُستدل بها أنّ هناك جانباً آخر من ابن تيمية بخلاف الصورة الذهنية المصاحبة لفتاواه
لكن ما يراه د. الجليند تسامحاً في خطاب ابن تيمية قد لا يعد قيمة تسامح في زمان ومكان آخر، فقضية التكفير المشروط، لم تعد قيمة للتعايش الإنساني في الزمن الحالي؛ بل هي قضية تفتيش في عقائد الناس وضمائرهم، ولربما كانت كذلك أيضاً في عهد ابن تيمية كما يرى الكثيرون.
ابن تيمية لم ينفِ التكفير، وإنما التزم شروطه، فالقول إنّ التزام شروط التكفير درب من دروب السماحة أمر ما زال مثيرا للجدل.
اقرأ أيضاً: "شغور الزمان".. حجة التكفيريين للخروج على الحكومات
يستند المدافعون عن ابن تيمية إلى القول؛ إنّ فتاواه جاءت في سياق التصدي لهجمات التتار، لكن ورد في فتاواه استشهادات لا علاقة لها بالتتار أو صدّ الغزو، منها:
♦ "من قال إنه يجب على كلّ مسافر أن يصلي أربعاً فهو بمنزلة من قال إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان، وكلاهما ضلال، مخالف لإجماع المسلمين، يستتاب قائله، فإن تاب وإلا قتل" ("مجموع الفتاوى" (22/ 31))، استشهاداً بقول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
♦ "الرجل البالغ إذا امتنع عن صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل" ("مجموع الفتاوى" (3/ 429)".
♦ "لو صلى صلاة بوضوء وأراد أن يصلي سائر الصلوات بغير وضوء: استتيب فإن تاب وإلا قتل" ("مجموع الفتاوى" (21/ 379)).
هكذا يظل ابن تيمية وأعماله مثيراً للنقاش والأخذ والرد والتوظيف من أطراف مختلفة، بتوجهاتها، الدعوية والجهادية، التي قد تبدو أحياناً متباينة، فكل فرقة تجد في كلامه سنداً صحيحاً.