إيران المُنْهَكَة: أبعاد وسيناريوهات الأزمة الاقتصادية الإيرانية

إيران المُنْهَكَة: أبعاد وسيناريوهات الأزمة الاقتصادية الإيرانية


18/11/2020

تواجه إيران أزمة اقتصادية متواصلة منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو 2018، وفرضها عقوبات شاملة ضمن حملة "الضغوط القصوى" استهدفت كل القطاعات الأساسية في الاقتصاد الإيراني. وشهدت الأزمة خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الإيراني الجاري (أبريل –أغسطس 2020) تفاقمًا بفعل مؤثرات أخرى، أبرزها انتشار فيروس كورونا الذي أدى إلى خسائر فادحة على الصعيد الاقتصادي، لتكون هذه الفترة الأسوأ على صعيد أداء الاقتصاد طوال العقود الأربعة الماضية من عمر الثورة.

وبالنظر إلى تجربة السلوك الاجتماعي والسياسي الإيراني خلال العقود الماضية، يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية الإيرانية القائمة، سيكون لها تداعيات وانعكاسات على صعيد الحراك الاجتماعي، وأنشطة التيارات السياسية الرسمية وعلاقاتها؛ ما سيعمل تغيير في الاتجاهات السياسية في الفترة القادمة داخليًا وخارجًيا. وأدى الوضع المتأزم إلى موجة انهيارات متتالية، تمثّلت بانخفاض المؤشرات المهمة، وارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات قياسية؛ ما ينذر بتداعيات غير محمودة على الصعيد الاجتماعي والسياسي، ويفتح المجال أمام سيناريوهات عدة ثبُت حدوث بعضها في الأعوام الماضية، في ظروف مشابهة.

هذه الورقة حاصل مشروع بحثي خاص بمركز الإمارات للسياسات يهدف إلى تقييم حالة الاقتصاد الإيراني، بعد عامين من حملة "الضغوط القصوى الأمريكية"، ونصف عام من جائحة كورونا، واستقراء التداعيات السياسية والاجتماعية للأزمة الاقتصادية، ثم استشراف انعكاسات كل ذلك على خيارات واتجاهات النظام الإيراني الاستراتيجية في السياستين الداخلية والخارجية على مشارف الانتقال السياسي في الولايات المتحدة في نوفمبر 2020، وإيران في يونيو 2021، والتحولات الإقليمية.

الانهيار الاقتصادي من خلال المؤشرات

شهد الاقتصاد الإيراني تحسنًا ملحوظًا بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران ودول مجموعة 5+1 في عام 2015 تمثل في ارتفاع معدل النمو الاقتصادي إلى مستويات قياسية عند 12 بالمئة، وارتفاع قيمة العملة الوطنية بنسبة تتراوح بين 5 و10 بالمئة مقابل الدولار، وانخفاض معدل التضخم إلى نحو 8.9 بالمئة في 2016، إلى جانب تحسن مؤشرات اقتصادية مؤثرة أخرى.

انعكس هذا المسار بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعلانها "حملة الضغوط القصوى" على إيران. أما اليوم فتظهر كافة المؤشرات الاقتصادية خلال النصف الأول من العام الجاري بلوغ الاقتصاد الإيراني ما يمكن وصفه بنقطة اللاعودة؛ إذ باتت العودة إلى مستويات عام 2018 تستغرق ما لا يقل عن عقد من النمو الاقتصادي المتراكم، حسب تعبير المستشار الاقتصادي السابق للرئيس الإيراني مسعود نيلي.

1. النفط: بلوغ نقطة الصفر

بلغت مبيعات النفط الإيرانية في نقطة الذروة بعد الاتفاق النووي نحو 2.84 مليون برميل في نهاية 2016، بينما وصل إنتاج النفط في إيران إلى أعلى من 4.9 مليون برميل في واحد من أعلى مستوياته خلال أربعة عقود. وإذا كان العام الميلادي الماضي شهد انخفاضًا بنحو 41 مليار دولار في الإيرادات النفطية، وفقًا لمصادر في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، فإن النصف الأول من عام 2020 شهد تفاقم الأزمة على هذا الصعيد من خلال عدة مؤشرات:

استمر هبوط صادرات النفط خلال النصف الأول من عام 2020 لتبلغ مستويات قياسية على مدى العقود الأربعة المنصرمة. ورغم أن بعض المصادر أكدت أن إيران لا تزال تصدر فوق نصف مليون برميل، لكن تؤكد مصادر أكثر ثقةً، هبوط الصادرات إلى أقل من 100 ألف برميل، في حين أن مساعد الرئيس الإيراني، محمد باقر نوبخت، أشار إلى أن الصادرات استقرت في شهر يوليو وأغسطس عند 70 ألف برميل. ويعني ذلك أن الحكومة التي كانت قد خططت لبيع نحو مليون برميل من النفط في موازنة العام الجاري لم تحقق، إلا 6 بالمئة من تقديراتها بمعدل 100 إلى 150 مليون دولار شهريًا.

بالنظر إلى أسعار النفط العالمية ستتفاقم مشكلة الحكومة الإيرانية؛ إذ اعتمدت الحكومة 55 دولار سعرًا للبرميل، بينما تقدر معدلات أسعار النفط الإيراني بنحو 39.8 دولارًا في الأشهر الستة الأولى. وإن أخذنا بعين الاعتبار احتمال أن تكون الأسعار الحقيقية للنفط الإيراني أقل من هذا المستوى بفعل المخاطرات التي تواجه الزبائن أثر احتمال التعرض للعقوبات الأمريكية، فإن الفجوة بين الواقع الذي تم تحقيقه على صعيد الإيرادات النفطية، وبين التوقعات التي تعول عليها الحكومة في دعم الموازنة العامة ستكون واسعة جدًا.

شهد شهر يوليو من عام 2020 انخفاض الإنتاج إلى مستويات قياسية على مدار ثلاثة عقود، ليستقر عند 1.9 مليون برميل، مما ترك أثرًا كبيرًا على أداء مصافي النفط والشركات البتروكيماوية؛ إذ أشارت الأخبار إلى انخفاض الإنتاج في مراكز تكرير النفط والغاز وانخفاض الإيرادات الناجمة عن صادرات المواد البتروكيماوية في الأشهر الخمسة الأولى.

وفي المجموع تظهر الأرقام الصادرة عن مراكز رسمية أن الإنتاج القومي الإيراني شهد انكماشًا بنسبة 1.6 بالمئة خلال الربيع الماضي نتيجة انخفاض إنتاج النفط وصادراته.

حجم التجارة الخارجية

شهدت الأشهر الخمسة الأولى انخفاضًا كبيرًا في التجارة الخارجية الإيرانية؛ إذ بينما تشير الأرقام الرسمية إلى أن مجموع التجارة الخارجية الإيرانية خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي استقرت عند 35.54 مليار دولار، فإن إجمالي التجارة الخارجية الإيرانية خلال الفترة نفسها من العام الجاري استقر عند 24.6 مليار دولار، ليعني ذلك انخفاضًا بنسبة 31 بالمئة. وهو يقترب بوضوح من الأرقام التي أعلن عنها مساعد وزير الاقتصاد الإيراني مؤكدًا أن التجارة الخارجية واجهت انكماشًا بنحو 38 بالمئة خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام.

شهد العام الإيراني الجاري أداءً سلبيًا على مستوى التوازن التجاري؛ إذ بينما تشير الأرقام أن الصادرات الإيرانية استقرت عند 17.8 مليار دولار، والواردات عند 17.74 مليار دولار خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي؛ مما يعني توازنًا إيجابيًا طفيفًا عند 60 مليون دولار في التجارة الخارجية، فإن صادرات العام الجاري استقرت عند 10.9 مليار دولار، بينما استقرت الواردات خلال الفترة نفسها عند 13.7 مليار دولار؛ ما يعني عجزًا بنحو 2.9 مليار دولار في التوازن. ارتفع العجز في التوازن خلال الشهر الخامس نحو 700 مليون دولار؛ ما يعني ارتفاعًا في العجز التجاري. وإذا افترضنا استمراره بنفس المستويات، فذلك يعني هبوط إجمالي حجم التجارة الخارجية إلى 55 مليار دولار فقط (مقارنة بنحو 85 مليار دولار في العام الإيراني الماضي، ونحو 90 مليار دولار في العام الذي سبقه) وهو تقدير مقارب جدًا لتوقعات رئيس غرفة التجارة الإيرانية الذي أكد أن حجم التجارة الخارجية خلال العام الجاري لا يتجاوز 50 مليار دولار في أفضل التوقعات. وعلى صعيد التوازن التجاري، وبينما استقر مستوى العجز التجاري للعام الماضي عند 2.35 مليار دولار، فإن التقديرات تشير إلى عجز بنحو 6.6 مليار دولار خلال العام الجاري في حال استمرت التجارة على الوتيرة الحالية.

النمو والتضخم والسيولة

تشير الأرقام الصادرة عن جهات رسمية إلى استمرار الأداء السلبي للمؤشرات الأساسية في الاقتصاد، بحيث:

أكد المساعد الاقتصادي للرئيس الإيراني أن التوقعات تبين انكماشًا بنسبة 15 بالمئة في الناتج القومي المحلي نتيجة مزيج من الأسباب، على رأسها تفشي وباء كورونا، بينما تظهر الأرقام الصادرة عن مركز الإحصاء انكماشًا بنسبة 3.5 بالمئة في الناتج القومي المحلي الإيراني خلال الربيع فقط (ما يعني أن تشهد إيران انكماشًا اقتصاديًا بنحو 14 بالمئة في حال استمر الانكماش بنفس الوتيرة وانكماشًا بنسبة 8 بالمئة في حال تباطأ الانكماش إلى أقل من النصف خلال المواسم الثلاثة المتبقية). هذا في حين أن مركز البحوث التابع للبرلمان الإيراني توقع انكماش الاقتصاد الإيراني بما بين 7.4 بالمئة (وفق السيناريو المتفائل) و11 بالمئة (وفق سيناريو متشائم) ليخلص إلى سيناريو وسطي يتوقع انكماش الاقتصاد بنسبة 8.6 بالمئة. وإذا أضفنا ذلك إلى نحو 7 بالمئة و9.5 بالمئة من الانكماش خلال العامين الماضيين، فإن المجموع سيكون انكماشًا بنحو 25.1 بالمئة في حجم الاقتصاد الإيراني خلال ثلاثة أعوام فقط.

علاوة على ذلك، يتوقع الخبراء أزمة كبيرة في السيولة؛ ففي حين أن السيولة في حكومة روحاني تضاعفت 4 أضعاف (من 630 ألف مليار تومان إلى 2470 ألف مليار تومان) وفق رئيس غرفة التجارة الإيرانية، فإن العام الإيراني الماضي كان الأعلى في أربعة عقود على هذا الصعيد؛ إذ شهدت السيولة نموًا بنسبة 31 بالمئة في هذا العام (بما يعادل 590 ألف مليار تومان). لكن أداء الاقتصاد الإيراني يظهر أن نسبة الارتفاع خلال العام الإيراني الجاري تفاقمت، ففي حين أن معدل نمو السيولة في ربيع العام الماضي استقر عند 5.3 بالمئة (99.6 ألف مليار تومان) فإن مؤشر الارتفاع استقر عند 7.3 بالمئة في ربيع العام الجاري (180.5 ألف مليار تومان) لتظهر قفزة قدرها 81.2 بالمئة في حجم ارتفاع السيولة و37.7 بالمئة في سرعة ارتفاع السيولة مقارنة بالعام الماضي. ووفق هذه التوقعات أشار مركز دراسات غرفة التجارة الإيرانية إلى أن السيولة ستشهد خلال العام الإيراني الجاري ارتفاعًا بنسبة 32 بالمئة (نحو 700 ألف مليار تومان من الارتفاع في حجم العملة منها 310 آلاف مليار في الأشهر الخمسة الأولى من العام) لتستقر عند 3200 ألف مليار تومان.

على مستوى التضخم، وإذا افترضنا 6 نقاط مئوية من التضخم بإزاء كل عشر نقاط مئوية من ارتفاع السيولة، فإننا بإزاء 18.7 حتى 22.6 بالمئة نسبة التضخم الناتج عن السيولة فقط. علاوة على ذلك، في حين أعلن البنك المركزي أنه يخطط للحفاظ على معدلات التضخم دون 22 بالمئة في العام الإيراني الجاري، فإن مركز الإحصاء الإيراني أعلن في تقريره الموسمي استقرار التضخم عند 27.8 بالمئة في الربيع. كما تشير الأرقام الرسمية إلى أن الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري كانت الأعلى ضمن العقد الأخير على مستوى التضخم مسجلة نحو 15.2 بالمئة من التضخم، مقارنة بنحو 5.8 بالمئة من التضخم خلال الفترة نفسها من العام الماضي.

العجز في الموازنة العامة

أشار رئيس منظمة التخطيط والموازنة العامة في أغسطس الماضي إلى أن الحكومة استطاعت تحقيق 6 بالمئة من توقعاتها على صعيد الإيرادات النفطية، و75 بالمئة من توقعات الضرائب خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام ليتبين مع ذلك التوقعات بشأن العجز في الموازنة العامة:

تشير توقعات مركز دراسات البرلمان الإيراني إلى أن الموازنة العامة تعاني من عجز بنحو 185 ألف مليار تومان خلال العام الجاري ما يعادل نحو 33 بالمئة من حجمها. هذا في حين أن رئيس لجنة الاقتصاد في البرلمان الإيراني أعلن في يوليو الماضي أن التوقعات الواقعية تشير إلى ارتفاع العجز في الموازنة العامة إلى 240 ألف مليار تومان تحت وطأة انتشار فيروس كورونا لتكون نسبة العجز المتوقعة عند 44 بالمئة تقريبًا، وهي أعلى نسبة عجز متوقعة خلال أكثر من ثلاثة عقود. وتتوجه الحكومة نحو استنفاذ طرق للحصول على إيرادات بديلة لسد هذا العجز؛ منها توزيع سندات مالية، حيث تم توزيع 75 ألف مليار تومان منها حتى الآن، فيما تحاول الحكومة توزيع أوراق بنفس الحجم خلال النصف الثاني من العام، ويتم تكليف البنوك بالاستحواذ على أجزاء كبيرة منها. ومن جهة أخرى تحاول الحكومة بيع أصول تابعة لها في سوق الأسهم تقدر بنحو 70 ألف مليار تومان. كما تتوجه نحو خفض الضرائب على الوحدات الصناعية (دعما لها بوجه أزمة كورونا) واستبدالها بضرائب على البضائع ورفع إيراداتها من ضرائب القيمة المضافة. وتحاول اتباع سياسات انكماشية تتمثل في خفض الإنفاق العام ووقف مشاريع دعم الصناديق.

مجموع تلك السياسات، تحمل معها تداعيات ثانوية؛ ففي حين أن زيادة الإيرادات الناجمة عن ضريبة القيمة المضافة تضيف إلى معدلات التضخم لدى المستهلكين (الذين فقدوا 5.7 بالمئة من قوتهم الشرائية بسبب ارتفاع أسعار البضائع)، فإن سياسة توزيع الأوراق إذ تعمل على رفع حجم السيولة وارتفاع ديون الحكومة للبنوك، فإنها تعمل على دحرجة الديون نحو الحكومة المقبلة؛ ما يثير حفيظة المحافظين المهيمنين على البرلمان، وهو ما يترك أثرًا ملحوظًا على طبيعة المشهد السياسي والصراع بين الحكومة والمحافظين على أعتاب الانتخابات الرئاسية الذي ستجرى في منتصف يونيو 2021.

تداعيات ميدانية لانهيار المؤشرات الاقتصادية

تمثلت المؤشرات الاقتصادية السلبية على صعيد الحياة اليومية في ارتفاع مطّرد للأسعار وانخفاض القوة الشرائية للمواطنين وارتفاع نسبة الإيرانيين تحت خط الفقر، إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة في المجتمع:

شهدت أسعار الدولار في الأسواق الإيرانية ارتفاعًا مطردًا في ظل حكومة روحاني. ففي حين أن سعر الدولار انخفض إلى 3185 تومان في الشهر الأول بعد تسلم روحاني سدة الحكم، إلا أنه استقر عند 24200 تومان في بداية سبتمبر؛ ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 660 بالمئة في غضون سبعة أعوام. وخلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الإيراني، ارتفع سعر الدولار من 14000 ألف تومان إلى 242000 تومان؛ ما يمثل انخفاضًا بنسبة 71.5 بالمئة في قيمة العملة الوطنية.

استقر سعر الذهب في بداية سبتمبر عند 1.07 مليون تومان مقابل الغرام بعد أن كان عند 102 ألف تومان في بداية عهد روحاني؛ ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 980 بالمئة في سبعة أعوام. وشهدت أسعار الذهب ارتفاعًا بنحو 78 بالمئة في غضون الأشهر الخمسة الأولى من العام الإيراني الجاري؛ لتكون القفزة التي شهدتها أسعار الذهب والدولار هي الأقوى على مدى أربعة عقود ماضية.

شهد قطاع صناعة السيارات قفزة حقيقية في الأسعار خلال الفترة الماضية؛ حيث استقرت بين 380 بالمئة و700 بالمئة للسيارات إيرانية الصنع خلال الأعوام السبعة المنصرمة. إذ شهدت سيارة "برايد" الأكثر شعبية في إيران ارتفاعًا في سعرها من 18 مليون تومان إلى 81 مليون تومان في أغسطس (350 بالمئة من الارتفاع خلال سبعة أعوام) بينما ارتفعت من 38 مليون تومان إلى 79 مليون تومان (113 بالمئة من الارتفاع) خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري. وشهدت سيارة "بيجو" 405 ثاني أكثر السيارات شعبيةً ارتفاعًا من 33 مليون تومان إلى 140 مليون تومان في مطلع سبتمبر الجاري (324 بالمئة من الارتفاع خلال سبعة أعوام) بينما ارتفعت من 67 مليون تومان إلى 140 مليون تومان (109 بالمئة من الارتفاع) خلال الفترة نفسها.

يشهد سوق العقارات ارتفاعًا يوميًا في الأسعار؛ ففي حين أشارت مصادر نيابية إلى أن أسعار العقار شهدت ارتفاعًا بنحو 600 بالمئة خلال عهد روحاني، فإن الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري شهدت تصعيدًا لعملية ارتفاع الأسعار؛ إذ استقر معدل أسعار المتر المربع في العاصمة عند 23.3 مليون تومان في أول يوم من سبتمبر مسجلًا ارتفاعًا شهريًا بنحو 11 بالمئة (مقارنة بالأول من أغسطس) وارتفاعًا بنسبة 49.7 بالمئة في خمسة أشهر. وشهد ارتفاعًا سنويا قدره 78 بالمئة في نهاية الشهر الخامس الإيراني مقارنة بالعام الماضي. وعلى صعيد متصل، وبينما أكد الرئيس روحاني أن الحد الأقصى المسموح به لرفع أسعار الإيجار في العام الجاري سيكون عند 15 بالمئة، فإن الأرقام الصادرة عن البنك المركزي تشير إلى ارتفاع ربيعي في أسعار الإيجار عند 31 بالمئة مقارنة بربيع العام الإيراني الماضي.

كان الحد الأدنى للرواتب محط اختلاف خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الإيراني الجاري بين النقابات العمالية التي طالبت برفع الحد الأدنى، والحكومة التي لم توافق إلا على 33 بالمئة من الارتفاع السنوي، ليستقر الحد الأدنى للرواتب عند 2.51 مليون تومان، بعد أن كان عند 1.88 خلال العام الماضي. وبذلك يشهد الحد الأدنى من الأجور بالقيمة الوطنية ارتفاعًا بنحو 247 بالمئة خلال عهد روحاني، لكنه شهد انخفاضًا بالدولار من 277 دولار في 2016 إلى 108 دولار في العام الإيراني الجاري، ليشهد الحد الأدنى من الأجور انخفاضًا بنسبة 61 بالمئة خلال هذه الفترة. وتعادل هذه النسبة تقريبًا الأرقام الصادرة عن جهات رسمية حول القوة الشرائية للعمال؛ إذ أكد مركز بحوث البرلمان أن القوة الشرائية للعمال شهدت انخفاضًا بنحو 70 بالمئة خلال خمسة أعوام، وانكماشًا موسميًا قدره 5.3 بالمئة خلال ربيع العام الجاري، على أن تكون نسبة انكماش القوة الشرائية المحتملة عند 21 بالمئة خلال العام الإيراني الجاري. وتركت ظاهرة انخفاض القيمة الواقعية للرواتب وانخفاض القوة الشرائية لدى المواطن الإيراني أثرًا قويًا على خط الفقر وظاهرة سكان الصفيح والعشوائيات. ففي حين أن التقارير الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية الإيرانية تؤكد أن نحو 16 بالمئة من مجموع السكان (حوالي 13 مليون نسمة) يعيشون في مدن الصفيح، فإن الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الاقتصاد تظهر ارتفاع خط الفقر في العاصمة طهران من 2.5 مليون تومان إلى 4.5 مليون تومان خلال عامين (2017 – 2019) فقط لتؤكد أن نحو 18.5 بالمئة من المواطنين الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر. وفيما توقع مركز دراسات البرلمان الإيراني أن ترتفع نسبة الإيرانيين تحت خط الفقر من 16 بالمئة في عام 2017 إلى 45 بالمئة في 2021، فإن رئيس مجلس بلدية العاصمة أكد في عام 2018 أن 32 بالمئة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر، وأن نحو 9 بالمئة منهم يعيشون حالة الفقر المدقع، وهو ما أكدته دراسات صادرة عن مركز دراسات الغرفة التجارية الإيرانية. كما أعلنت نقابة بيت العمال الرسمية أن 85 بالمئة من العمال في إيران يعيشون تحت خط الفقر، بينما أكدت نقابة المتقاعدين في العاصمة طهران أن جميع المتقاعدين أصبحوا تحت خط الفقر خلال العام الجاري. كما أشار مركز دراسات منظمة التأمين الاجتماعي خلال الأشهر الخمسة الماضية أن الانهيار الاقتصادي، وضياع فرص العمل خلال الفترة نفسها تضيف نحو 5 بالمئة إلى مستوى القابعين تحت خط الفقر، بما يعني سقوط 4.2 مليون شخصا إلى ما دون خط الفقر خلال خمسة أشهر.

تشير أرقام رسمية، وأخرى غير رسمية، إلى عام كارثي على صعيد فرص العمل؛ حيث أكد وزير العمل الإيراني أن الحكومة استطاعت خلق 550 ألف فرصة عمل في العام الإيراني الماضي، إلا أن مركز الإحصاء الإيراني أكد أن الاقتصاد الإيراني فقد 1.5 مليون فرصة عمل في الربيع نتيجة الانكماش الاقتصادي الذي سببه انتشار فيروس كورونا، وأعلن أمين اتحاد الفنادق في منتصف أغسطس أن قطاع السياحة بحد ذاته فقد 800 ألف فرصة عمل نتيجة الفيروس الذي قضى على قطاع السياحي بشكل كامل. وأعلن مركز دراسات البرلمان الإيراني في تقرير له أن الاقتصاد الإيراني سيفقد نحو 2.8 مليون فرصة عمل (نحو 12 بالمئة من إجمالي فرص العمل في إيران) في العام الجاري ضمن أفضل السيناريوهات، بينما تتوقع أسوأ سيناريوهات أن يفقد الاقتصاد نحو 6.4 مليون فرصة عمل (27.6 بالمئة من إجمالي فرص العمل) ليخلص إلى أن السيناريو الوسطي يتوقع خسارة 3 مليون فرصة عمل في العام الجاري (نحو 13 بالمئة).

الأسباب التي خلقت الأزمة الاقتصادية

تنوعت الأسباب التي عملت على مفاقمة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها إيران، منها داخلية، واخرى ناجمة عن الضغوط الدولية التي يعاني منها النظام السياسي في إيران:

1. العقوبات الأمريكية: تأتي العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران في مقدمة الأسباب التي أدت إلى انهيار الاقتصاد الإيراني. حيث مرّ بتجربة مماثلة بين عامي 2008 و2011، لكنه شهد تحسنًا كبيرًا بعد عقد الاتفاق النووي مع مجموعة دول الـ 5+1 ليمرّ بفترة ازدهار تمثّلت في مستويات قياسية من النمو الاقتصادي وانخفاض مستويات التضخم. وشهدت مبيعات النفط الإيرانية قفزة بعد الاتفاق النووي، وصلت إلى 2.9 مليون برميل تقريبًا، وقفز حجم التجارة الخارجية إلى نحو 100 مليار دولار.

بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في مايو 2018، وفرضها عقوبات اقتصادية صارمة على إيران، انعكست مسيرة الاقتصاد؛ إذ فقدت إيران نحو 13 بالمئة من حجم اقتصادها خلال عامي 2018 و2019 (نحو 5.4 بالمئة في 2018 ونحو 7.6 بالمئة في 2019) بحسب صندوق النقد الدولي؛ بينما ارتفعت معدلات التضخم إلى 34.2 بالمئة في 2018، ثم إلى 41.1 في 2019، بحسب الصندوق نفسه، وانخفضت مبيعات النفط إلى نحو 200 ألف برميل في اليوم في ديسمبر 2019. وفي وقت انكمشت التجارة الخارجية نحو 22 بالمئة خلال عامي 2018 و2019، مستقرةً عند 78 مليار دولار بحسب مصادر مصلحة الجمارك الإيرانية، فإن معدلات البطالة ارتفعت إلى 16.3 بالمئة في عام 2019 من نحو 12.4 بالمئة في عام 2017؛ ما يعني القضاء على نحو 1.1 مليون فرصة عمل خلال عامين تحت وطأة العقوبات. واستمرار تأثير العقوبات على النفط؛ إذ يمكن إعادة جزء كبير من إجمالي 60 ألف مليار تومان من الانكماش في الإيرادات النفطية إلى العقوبات التي أدّت إلى هبوط الإيرادات والإنتاج النفطي إلى مستويات قياسية.

قرار مجموعة العمل المالي: يعدُّ قرار مجموعة العمل المالي (FATF) وضع إيران ضمن القائمة السوداء في مارس 2020 سببًا آخر من ضمن الأسباب؛ في حين توجهت إيران نحو تطبيع اقتصادها مع العقوبات الأمريكية من خلال الارتباط ببنوك صينية وروسية إلى جانب بنوك صغيرة أخرى تتجاهل العقوبات الأمريكية (نموذج ذلك استمرار بنك كونيليون الصيني في تقديم الخدمات للإيرانيين، ومحاولات إيران للانضمام إلى شبكة مير البنكية الروسية للالتفاف على شبكة "سويفت") فإن قرار منظمة (FATF) عقّد الأمور، وأدى إلى قرارات مهمة منها توقف بنك كونيليون الصيني عن تقديم الخدمات البنكية للإيرانيين، وتوقف مشروع الانضمام إلى شبكة مير الروسية، وتوقف بنوك وسيطة في كل من بيلاروس، وألمانيا، وكازاخستان، والعراق، وتركيا عن التعاون مع إيران.

ولا يمكن تقدير الأضرار الناجمة عن قرار (FATF) بشأن إيران بشكل دقيق؛ لكن من الواضح أنه يعمل حسب الخبراء على رفع تكلفة نقل الدولار إلى الاقتصاد الإيراني إلى مستويات فوق 15 سنتًا بإزاء الدولار الواحد؛ ما يعني أن تكلفة انتقال العملة من وإلى الاقتصاد الإيراني تبلغ ما بين 11.7 مليار دولار، و15.6 مليار دولار من حجم التجارة الخارجية الإيرانية (حسب معدل التجارة الخارجية في العام الماضي). وعلى افتراض أن نصف هذا الرقم ناتج عن قرار (FATF)، فإن ذلك يعني انكماشًا بنحو 1.8 بالمئة من حجم الإنتاج القومي السنوي، وفق أرقام عام 2019.

3. الفساد الاقتصادي: أعلن المساعد السياسي للحرس الثوري أن حجم الاختلاسات التي شهدتها إيران خلال عقد من الزمن كانت عند 80 ألف مليار تومان محاولًا بذلك التقليل من أهميتها من خلال مقارنتها بحجم الموازنة العامة خلال هذا العقد. لكنّ الرقم يعني وفق معدل أسعار الدولار في إيران نحو 44 مليار دولار؛ ما يعني بدوره معدل اختلاس سنوي عند 4.4 مليار دولار (نحو 1 بالمئة من حجم الإنتاج القومي السنوي وفق أرقام 2019).

وأدى عدم الشفافية في نظام الخصخصة والنظام البنكي الإيراني، ورصد العملة المدعومة لمقربين من الحكومة (تشير مصادر إلى توزيع 35 مليار دولار بالسعر المدعوم بناء على نظام المحسوبية من بينها نحو 4 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري) والقوانين الصعبة للتجارة إلى نفور رؤوس الأموال من الاقتصاد الإيراني. وأكد البنك المركزي أن نحو 27 مليار دولار من عملة الصادرات الإيرانية خلال الأعوام الثلاثة الماضية لم تعد إلى جسد الاقتصاد الإيراني؛ ما يعني عدم عودة 22 بالمئة من حجم الصادرات خلال هذه الأعوام إلى الاقتصاد،  وتشير مصادر رسمية منها مركز البحوث التابع للبرلمان الإيراني إلى ارتفاع وتيرة هروب رؤوس الأموال من الاقتصاد الإيراني خلال الأعوام الأربعة الأخيرة؛ إذ بينما يقدر حجم رؤوس الأموال الهاربة من إيران بنحو 150 مليار دولار خلال عقد من الزمن (بمعدل سنوي عند 15 مليار دولار أي نحو 3.4 بالمئة من حجم الإنتاج القومي) فإن الأعوام الثلاثة الماضية شهدت هروب نحو 87 مليار دولار (حيث شهد العام 2017 هروب نحو 30 مليار دولار وفق مصادر برلمانية، بينما شهد عام 2018 خروج نحو 30 مليار دولار، وشهد العام الماضي مغادرة 27 مليار دولار وفق وزارة الاقتصاد الإيراني)؛ ما يعني أزمة ثقة متزايدة بين الشعب وبين النظام الاقتصادي المدعوم من جانب النظام الحاكم. ورغم أن العقوبات قد تكون عملت على ارتفاع وتيرة هروب رؤوس الأموال إلّا أن ملاحظة عملية الهروب تظهر أنها ليست بصلة جوهرية بالعقوبات، فقد شهدت إيران في نقطة الذروة في انفتاحها على العالم في عام 2017 هروب أموال قدرت بنحو 19 مليار دولار. ويعني ذلك أن هذا الجزء من أسباب الأزمة الاقتصادية سيستمر لأعوام بعد توقف الأسباب الأخرى مثل العقوبات وانتشار فيروس كورونا.

4. تفشي فيروس كورونا: أدى انتشار فيروس كورونا أإلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في إيران منذ مارس الماضي. وشهد حجم الاقتصاد الإيراني خلال ربيع العام الجاري تقلصا بحجم 3.5 بالمئة، فيما تشير أرقام إلى احتمال تقلص حجم الاقتصاد بما بين 7.5 و11 بالمئة نتيجة انتشار الفيروس في البلاد؛ ما يعادل مجموع وزن أثر العقوبات على الاقتصاد الإيراني خلال عامي 2018 و2019. وبطبيعة الحال لا يمكن تفسير كل التراجع الذي شهده الاقتصاد خلال العام الإيراني الجاري كنتيجة لانتشار فيروس كورونا؛ إذ استمرت الأسباب الأخرى المذكورة في تشديد الخناق على الاقتصاد الإيراني، لكن حصة الفيروس الذي أثر على 32 بالمئة من زوايا الاقتصاد الإيراني وفق وزارة الاقتصاد، كانت لها دورًا أساسيًا في الأزمة؛ ففي حين أن تقديرات صندوق النقد الدولي كانت تشير إلى انكماش في الاقتصاد الإيراني بأقل من نقطة مئوية واحدة، فإنه أعاد تقديراته بعد انتشار فيروس كورونا ليؤكد انكماشًا محتملًا بنسبة 6 بالمئة، بينما أكد مركز بحوث البرلمان الإيراني أن حجم الانكماش سيكون عند 7.4 في أفضل السيناريوهات.

مجموع الأسباب الأربعة المذكورة، تركت أثرًا ملحوظًا على انهيار المؤشرات الاقتصادية في إيران خلال الأشهر الماضية، وتكريس ظاهرة "الانهيار المتتالي" التي يشهدها القطاع الاقتصادي مؤخرًا. وفي حين أن بعض هذه الأسباب يمارس تأثيره على الاقتصاد الإيراني منذ أعوام، فإن وضع إيران على القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي، إلى جانب انتشار فيروس كورونا تركا بصمتهما على الاقتصاد الإيراني خلال العام وتعميقها ومن منطلق فتح جبهات جديدة لم تكن ضمن منظور العقوبات. ويظهر ذلك أن أملا في تحسن جذري في الوضع الاقتصادي لا يمكن توقعه إلا في حال حدوث تغير جذري في غالبية هذه الظواهر، وهو ما لا يمكن رؤيته في الأشهر القريبة المقبلة. وفي ظل ذلك يمكن الحديث عن انعكاسات الأزمة الاقتصادية المتكدسة على صعيد الحراك الاجتماعي وعلى صعيد السياسة الرسمية مرجحة بعض الاحتمالات في المستقبل القريب والمتوسط.

تداعيات الأزمة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي

تجلت الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وعودة العقوبات على الصعيد السياسي في الاحتجاجات التي اجتاحت المدن الإيرانية في ديسمبر 2017 وأغسطس 2018، ثم نوفمبر 2018، ويناير 2020. كما تجلت في اعتصامات وإضرابات عمالية كان أهمها الإضرابات العامة التي اجتاحت المدن الإيرانية في 2018. وتمثلت في انخفاض مستوى المشاركة في الانتخابات البرلمانية في فبراير 2020، إذ استقرت عند 42 بالمئة في إيران، وعند 26 بالمئة في العاصمة طهران، بينما كانت في الانتخابات النيابية التي سبقتها عند 62 بالمئة في إيران و50 بالمئة في طهران.

ومن المفترض أن يترك تفاقم الأزمة الاقتصادية في العام الإيراني الجاري تداعيات على الصعيد الاجتماعي والصعيد السياسي كما أن من شأنه أن يترك أثرًا ملحوظًا على سياسة إيران الإقليمية، وذلك على النحو التالي:

1. التداعيات الاجتماعية

سيكون التأثير الأهم للأزمة الاقتصادية على صعيد الإضرابات والاحتجاجات؛ وبينما أشارت مراكز تابعة للشرطة إلى بلوغ الدعوات إلى الاحتجاج خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الإيراني الجاري ثلاثة أضعاف الدعوات في نفس الفترة من العام الماضي، فإن تقديرات مراكز مستقلة تشير إلى 200 احتجاج عمالي متوسط وكبير خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري بمعدل 40 احتجاجًا عماليًا كل شهر. ومن ضمن أهم الاحتجاجات خلال العام الإيراني الجاري، يمكن الإشارة إلى احتجاجات العمال في شركة (هفت تبه) في الأحواز، وشركة (هبكو) في أراك، وشركة إنتاج العدادات في قزوين، ومنجم كرمان للنحاس، بالإضافة إلى احتجاجات المعلمين، ومتقاعدي نظام التعليم في مختلف المدن الإيرانية، واحتجاجات المتقاعدين التابعين لشركة التأمين الاجتماعي، ومتقاعدي القطاع النفطي في عشرة مدن كبرى إيرانية، واحتجاجات سائقي الحافلات المدنية في طهران، وأورميه وأردبيل والأحواز واحتجاجات الباعة البساطة في العاصمة طهران والممرضين في طهران، ومدن أخرى مثل مشهد ورشت والأحواز وأصفهان وشيراز وكرمان.

وتميز صيف 2020 باحتجاجات نحو 15 ألف عامل في نحو 29 شركة من الشركات النفطية والبتروكيماوية، من ضمنها مشروع (بارس جنوبي) في عسلويه، ومصافي (كنكان) و(لامرد) و(بارسيان) في بوشهر، ومصفى (قشم) في هرمزجان، ومصفى (أصفهان)، ومصفى (عبادان)، ومشروع (الجفير) للنفط في الأحواز، ومحطة الطاقة النفطية في تبريز، ضمن واحدة من أكبر موجات الاحتجاج في القطاع النفطي بعد الثورة؛ حيث يمكن إعادة الأسباب إلى هبوط أسعار النفط، وانخفاض مستويات الإنتاج والتصدير؛ مما جعل النظام النفطي الإيراني غير قادر على دفع رواتب العمال.

وتشير دراسة الاحتجاجات أن الغالبية المطلقة من هذه الاحتجاجات كانت من نصيب الفئات العمالية، بينما شهدت غياب فئات الفلاحين والتيارات العرقية. ورغم أن بعض المدن الإيرانية، شهدت اجتماعات للمزارعين اعتراضًا على شح المياه، وعمليات نقل المياه، إلّا أن حجم هذه الاحتجاجات تقلص بشكل كبير مقارنة بعام 2018، وذلك في ظل ارتفاع معدلات هطول الأمطار، وتوقف أزمة شح المياه مؤديًا إلى غلبة الطابع العمالي على احتجاجات العام الإيراني الجاري.

ويمكن رؤية مؤشرات على احتمال اتساع رقعة الاضطرابات الاجتماعية (في ظل الأزمة الناجمة عن تفشي فيروس كورونا إلى جانب الأزمات الأخرى) في عدة محطات؛ منها حديث الرئيس روحاني في افتتاحية الدورة الجديدة من البرلمان، وتحذيرات مركز بحوث البرلمان الإيراني، واستعدادات الشرطة والحرس الثوري لمكافحة الاحتجاجات، وفق حديث لقائد شرطة مكافحة الشغب في مايو 2020. ومن الواضح أن النظام السياسي سوف يواصل محاولة تفكيك بؤر الاحتجاجات، والحيلولة دون تحولها إلى احتجاجات منسقة شاملة على غرار احتجاجات سائقي الشاحنات في عام 2018، إلى جانب توجه النظام نحو قمع المتظاهرين واعتقال قادتهم. وفي هذا الإطار يمكن تفسير محاولة البرلمان في الصيف الجاري وضع قانون يفرض قيودًا على نشاط شبكات التواصل الاجتماعي، يقوم بحجب تطبيقات "إنستغرام" و"واتساب"، إلى جانب "تلغرام"، و"تويتر"، و"فيسبوك" باعتبارها آليات للتنسيق لاحتجاجات شاملة.

2. التداعيات السياسية في الداخل الإيراني

لعلّ التطور المتوقع الأهم على الصعيد الداخلي يمثل بانخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة؛ حيث أشارت إليه دراسات ميدانية منها دراسة عن فرع استطلاع الرأي التابع لوكالة إيسنا الرسمية للأخبار، والتي أشارت إلى احتمال هبوط نسبة المشاركة في الاستحقاق الرئاسي القادم وانتخابات مجالس البلدية إلى نحو 40 بالمئة عند أقل مستوياته على الإطلاق. وتبين طبيعة الانتخابات في النظام الإيراني إلى أن المستفيد الأول من انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات سيكون التيار المحافظ الذي يحاول بسط هيمنته على السلطة التنفيذية ومجالس البلدية، بعد سيطرته على السلطة التشريعية، في انتخابات سجلت أدنى مستويات المشاركة بين الانتخابات التشريعية على مر العقود الأربعة الماضية.

وتشير دراسات إلى أن الأزمة الاقتصادية المستمرة، ومن خلال رفع نسبة الفقر في المجتمع الإيراني، ستقضي على الطبقة الوسطى باعتبارها معقلًا للأصوات الإصلاحية، لتكون النتيجة على المدى القريب في صالح المحافظين المستفيدين من عزوف هذه الطبقة عن التصويت، بينما سيؤدي ذلك على المدى المتوسط إلى انحسار الحراكات الإصلاحية، وزيادة احتمال صعود الحراكات الاحتجاجية الراديكالية.

وتعمل الأزمة الاقتصادية على استمرار الخلافات بين الحكومة والبرلمان. ومن ضمن معالم هذه الخلافات رفض البرلمان لمخطط الحكومة لبيع النفط في سوق الأسهم ورفض الحكومة بالمقابل لبرامج برلمانية لتقديم الإعانات للطبقات المتدنية من المجتمع. ومن المفترض أن تتواصل الخلافات بينهم حول معالجة الأزمة الاقتصادية المتزايدة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي يحاول المحافظون النجاح فيها من خلال التأكيد على فشل الحكومة في معالجة الأزمة الاقتصادية.

وعلى المدى البعيد، ستؤدي الأزم الاقتصادية إلى إضعاف موقع الحرس الثوري، والتقليص من حجم اقتصاده، إلا أنها في المدى القريب تفعل عكس ذلك؛ إذ في ظل استمرار العقوبات الأمريكية واحتمال تدويلها، وإفلاس العديد من الشركات الاقتصادية الإيرانية، وانسحاب الكثير من الشركات الأجنبية عن الاقتصاد الإيراني، ستشهد الفترة القادمة استمرارًا لمشروع الحرس الثوري لبسط هيمنته على الاقتصاد الإيراني من خلال الاستحواذ على المشاريع الكبرى في قطاع النفط (من بينها عقود بقيمة 1.5 مليار يورو أغلبها مع شركات تابعة للحرس الثوري لتطوير حقول نفط وغاز) وقطاع السيارات وقطاع النقل وقطاع بيع التجزئة.

3. التداعيات السياسية الخارجية

على المدى القريب، من المرجح أن يواصل النظام الإيراني صموده بوجه العقوبات الأمريكية بانتظار حسم نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وألا تشهد السياسة الخارجية الإيرانية تطورًا لافتًا في الأشهر القادمة. ولكن في حال استمرت الضغوط الناتجة عن العقوبات وتداعيات كورونا، فإن من المرجح جدًا ألا تستطيع إيران مواصلة سياسة الصمود، وأن تتجه نحو الاختيار بين الاندماج في الاقتصاد الصيني لتجاوز الأزمة، وبين الانفتاح على حوار شامل مع الغرب.

وعلى الصعيد الإقليمي، تبين التطورات في النصف الأول من العام الجاري تقلص الإمدادات الإيرانية للميليشيات الموالية لها في بلدان المنطقة؛ ففي حين أشار أمين عام منظمة حزب الله، حسن نصر الله، إلى أثر العقوبات على انخفاض الدعم الإيراني لتنظيمه، فإن مصادر ميدانية من قادة الميليشيات العراقية أكدت لوكالات أنباء عالمية أن المساعدات الإيرانية شهدت تقلصًا منذ بداية العام الميلادي الجاري بفعل العقوبات، مؤكدةً أن الأشهر الأربعة الماضية شهدت ارتفاع وتيرة تقلص الدعم نتيجة تفشي فيروس كورونا، وتفاقم الأزمة الاقتصادية الإيرانية، وإغلاق الحدود بين العراق وإيران.

وبطبيعة الحال، سوف يؤدي تقلص الدعم الإيراني للميليشيات إلى تغيير السلوك لدى هذه الميليشيات، أو لدى أجزاء منها على صعيد الاستراتيجيات والانتماء؛ إذ من شأن هذه الميليشيات (وخصوصًا في العراق وسوريا وفلسطين) أن تبحث عن مصدر دعم بديل للتمكن من صرف رواتب المنتسبين. وفي حين تشير الأنباء إلى بوادر مثل هذا السلوك لدى الميليشيات الموالية لإيران في سوريا (حيث أصبح لدى بعضها رغبة في الاقتراب من روسيا للحصول على مصادر دعم مالي) فإن من المفترض أن يؤدي نفس السبب إلى موافقة أجزاء من الميليشيات العراقية الموالية لإيران على خطة الاندماج مع الجيش العراقي الرسمي من أجل الحصول على مثل هذا الدعم. وعلى صعيد اليمن كذلك، يمكن تصور مثل هذا التغير في سلوكيات الميليشيات الموالية لإيران؛ إذ يؤدي تقلص الدعم الإيراني المالي خلال الأشهر الأخيرة إلى تراجع وتيرة عمليات هذه الميليشيات العسكرية، وتقلص عدد المنتسبين إليها، مع ترجيح احتمال انخراط هذه الميليشيات أو أجزاء مهمة منها في عملية سلام يمكن أن تتم إما بالتنسيق مع إيران، أو من دون التنسيق معها.

سيناريوهات الحالة الاقتصادية

في ظل اتجاهات المؤشرات الاقتصادية، يمكن الحديث عن السيناريوهات الأربعة الآتية:

السيناريو الأول: سيناريو متفائل؛ ويفترض أن تتمكن الحكومة الإيرانية من التغلب على الأزمة الاقتصادية في النصف الثاني من العام الإيراني الجاري، مستخدمةً في ذلك المصادر الداخلية المتاحة. ومن ضمن هذه المصادر الداخلية؛ مصادر صندوق الادّخار الوطني الذي أثبتت التجربة أن النظام الإيراني يلوذ إليه حين يشتد عليه الخناق، ورفع الضرائب، واستخدام إمكانات سوق الأسهم الإيراني، وإمكانات القطاع المصرفي للحصول على مصادر بديلة، يمكن استخدامها في تجاوز الأزمة الخانقة. وتعمل الحكومة على تطبيق هذا السيناريو بالتعاون مع البرلمان الإيراني، إلا أن السيناريو لا يأخذ بالحسبان أن جزءًا كبيرًا من الأزمة التي تعيشها إيران عائد إلى استحالة الحصول على مواد أولية لتحريك عجلة الاقتصاد، والصناعة، والبتروكيماويات، بوصفها مصادر دخل مهمة للبلاد؛ كما أنه لا يأخذ بالحسبان نفاذ مصادر صندوق الادّخار الوطني، والآثار التضخمية لاستخدام المصادر المصرفية في سدّ العجز في الموازنة.

السيناريو الثاني: انفتاح الاقتصاد الإيراني؛ وهو سيناريو أكثر احتمالًا في النصف الثاني؛ إذ يفترض الانفتاح على الاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصاد الغربي على وجه الخصوص عبر فتح قنوات حوار جادّة مع الولايات المتحدة، سواء في ظل حكومة ديمقراطية، أو في ظل ولاية ثانية لترمب. ومن الواضح وجود رغبة لدى حكومة البلدين تدفعهما باتجاه فتح باب الحوار، مستخدمة وساطات دولية متعددة، ويمكن اعتبار زيارة وزير الخارجية السويسري إلى طهران، والعرض الروسي طلائع لهذه الوساطات. ومن شأن مثل هذا الحوار إذا كان جادًا أن يخفف من الوطأة النفسية للعقوبات الأمريكية إلى حد كبير، كما من شأن أي اتفاق، وإن كان مبدئيًا، وصغيرًا بين إيران وأمريكا، أن ينعكس بشكل إيجابي، وواضح على الاقتصاد الإيراني. لكن هذا السيناريو يواجه عقبات مهمة، وإن كانت الحكومة الإيرانية راغبةً فيه، كما هي الولايات المتحدة. ومن أهم هذه العقبات معارضة القائد الأعلى الإيراني لإجراء أي حوار مع الولايات المتحدة، على الأقل في ظل وجود الرئيس ترمب.

السيناريو الثالث: لجوء إيران إلى الصين؛ يفترض السيناريو لجوء الاقتصاد الإيراني إلى الحليف الصيني من أجل تجاوز محنة العقوبات. ويمكن الحديث عن خطة الاندماج مع الاقتصاد الصيني في إطار خطة يبلغ مداها 25 عامًا، والتي يجري عنها الحديث في الأروقة الإيرانية هذه الأيام. ووفق هذا السيناريو فإن إيران تتجه نحو تطبيق اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين التي تمنح الصين حق الأولوية في الحصول على العقود الاقتصادية، والنفط الإيراني، مقابل أن تحصل إيران على ما يكفيها من السيولة لدعم بنيتها الاقتصادية، وتجاوز محنة العقوبات الأمريكية. وعلى الرغم من الأصداء والأحاديث الكثيرة حول هذه الاتفاقية إلا أن تطبيقها يواجه عدة عقبات، منها: المعارضة الإقليمية لمثل هذا الاندماج، والمعارضة الداخلية الشرسة للتقارب مع الصين، والمعارضة الأوروبية الأمريكية؛ ما يجعل الإيرانيين يفكرون مرة ثانية قبل تطبيقها، إلى جانب عقبات دولية مثل تصنيف إيران على اللائحة السوداء لمجوعة العمل المالي الدولية (FATF) الذي يحول دون تعاون الشركات والبنوك الصينية مع إيران على المدى القريب؛ ما يجعل هذا السيناريو صعب التحقق خلال الأشهر المقبلة على أقل تقدير.

السيناريو الرابع: استمرار الأزمة الاقتصادية الإيرانية؛ ويفترض هذا السيناريو أن تستمر الأزمة الاقتصادية التي يعيشها النظام الإيراني خلال الأشهر المقبلة في ظل استمرار العقوبات، ووضع إيران على اللائحة السوداء لـ (FATF)، وتأثير كورونا. وهو ما يعني استمرار انكماش الاقتصاد، وارتفاع معدلات التضخم، والبطالة، وعجز الموازنة، وفقدان مئات الآلاف من الوظائف، والتأخر في صرف الرواتب، وارتفاع معدل الفقر؛ ما ينذر باضطرابات اجتماعية. وتحاول الحكومة الإيرانية أن تدعم أكبر قدر ممكن من فئات المجتمع، ضمن برامج دعم نقدية وغير نقدية، لكن هذه البرامج غير كافية لإنهاء الأزمة الاقتصادية، وإخراج المجتمع الإيراني من الفاقة الدافعة إلى الاضطرابات، لنكون أمام اقتصاد يعاني من أزمة بنيوية مترسخة تعيد إنتاج نفسها لعدة أعوام.

سيناريوهات الحالة الاجتماعية

دفعت الظروف الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الأمريكية في الأعوام الثلاثة الفائتة إلى نشوء عدة ظواهر على صعيد الحراك الاجتماعي؛ من أهمها الاحتجاجات التي شهدها المجتمع الإيراني في عامي 2018 و2019 إلى جانب ظواهر أخرى تبقى مهمة بدرجات متفاوتة. ومن المفترض أن يعمل تفاقم الأزمة في العام الإيراني الجاري على انفتاح المجتمع الإيراني على السيناريوهين الآتيين:

السيناريو الأول: تصعيد الحراك الاجتماعي بشكل عام؛ ويفترض السيناريو تصعيدًا في إطار احتجاجات تعم الشوارع على غرار احتجاجات ديسمبر 2017 ونوفمبر 2018. ويفترض أن تؤدي الضغوط الاقتصادية الناجمة عن مجموعة الأسباب إلى انتفاضة الشارع في مختلف المدن، ولا تستطيع برامج الحكومة لدعم الطبقات الفقيرة من الحيلولة دون ذلك؛ بسبب ضعف البنية المالية للحكومة، ومعارضة الأغلبية المحافظة لمثل هذه البرامج. ويدعم ذلك الإضرابات العمالية التي يشهدها الشارع الإيراني، والتي أظهرت التجربة أنها سبقت الاحتجاجات في الأعوام الماضية، كما يدعمها الوعي المتوفر لدى السلطات الرسمية بالموضوع، وتأكيدهم على ضرورة إيجاد طرق للتصدي لها. ويواجه هذا السيناريو رغم احتمال حدوثه عدة عقبات، منها:

حالة الصمت التي يمر بها الشارع في ظل تفشي فيروس كورونا الذي أضعف فرص التحرك الاجتماعي.

سياسة الرقابة المكثفة التي تمارسها السلطات الأمنية على الأنشطة الاجتماعية، والسياسية.

البرامج التي تجري دراستها في أروقة البرلمان، والمؤسسات الرسمية، لفرض حجب واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، بوصفها الماكنة المحركة للاحتجاجات السابقة.

السيناريو الثاني: تصعيد الاحتجاجات العمالية فقط؛ ويفترض السيناريو تزايدًا ملحوظًا في وتيرة الاحتجاجات، ويرجح اقتصارها على الصعيد العمالي الذي يشهد منذ بدء العام احتجاجات على ظروف العمل، وتدني الأجور، وتسريح العمال. ووفق هذا السيناريو فإن الظروف الاقتصادية خلال الأشهر المقبلة ترجح تزايد مثل هذه الاحتجاجات، واتساعها، لتشمل قطاعات مختلفة، ومدنا أكثر، لكن الحكومة تحاول الحيلولة دون تفشيها في الشارع، وتحولها إلى احتجاجات شعبية من خلال برامج دعم الطبقات المعدمة، إلى جانب ضبط شبكات التواصل الاجتماعي، ومنع الحركات العمالية من التواجد في الشارع. كما أنها تحاول خنق هذه الاحتجاجات، وجعلها غير ذات توجه متكامل، من خلال تصديها لقادة هذه الاحتجاجات (لجعلها احتجاجات من دون قادة)، وتصديها لنشوء نقابات عمالية (لجعلها احتجاجات غير منظمة). وبالتالي فإن السيناريو يفترض أن يشهد العام الجاري مزيدًا من الحركات العمالية، واحتجاجات العمل.

سيناريوهات الحالة السياسية الداخلية

أدى التململ الاجتماعي الناتج عن الأداء المتعثر للمؤسسات الرسمية إلى عدة نتائج على المستوى السياسي الرسمي؛ من ضمنها انخفاض المشاركة الشعبية في الانتخابات البرلمانية إلى مستويات قياسية، وعزوف الشارع عن مرشحي التيار الإصلاحي، والتيار المعتدل، ونجاح المحافظين. ولذلك من المفترض أن تترك حالة الاقتصاد المتأزمة أثرها على السياسة الإيرانية الداخلية وفق السيناريوهات الآتية:

السيناريو الأول: الإطاحة بالحكم المدني، وصعود حكومة عسكر؛ ويفترض السيناريو أن يؤدي إخفاق حكومة روحاني في التصدي للأزمة الاقتصادية إلى زيادة الاحتجاجات الشعبية، وخروج الأمور عن سيطرة الحكومة؛ ما يقود إلى الإطاحة بالحكم المدني، وصعود حكومة عسكر، أو حكومة مدعومة من جانب العسكر. وهذا السيناريو، ويبدو مفرطًا في التشاؤم، لكنّ له ما يدعمه؛ إذ شهدت احتجاجات ديسمبر 2017 كثيرًا من النقاشات السياسية في إيران عن احتمال تدخل الحرس الثوري بشكل مباشر في إدارة البلاد. كما دعت وجوه محافظة إلى الإطاحة بحكومة روحاني؛ ما يجعل السيناريو مطلوبًا لدى فئات من التيار المحافظ. لكنه مع ذلك، يبقى سيناريو غير مرجح، فلا يوجد ما يستدعي قيام قادة الحرس بهذه المغامرة في ظل عدم حاجة الحرس لتحمل مسؤولية السلطة التنفيذية بشكل مباشر في هذه الظروف التي ستجعل قياداته عرضة للانتقادات والاحتجاجات الشعبية بشكل مباشر. كما أنه ليس خيارًا مقبولًا لدى خامنئي الذي دعا صراحةً إلى السماح لحكومة روحاني بمواصلة عملها حتى يومها الأخير.

السيناريو الثاني: صعود حكومة من التيار الإصلاحي، أو حكومة من شخصيات معتدلة؛ وينطلق السيناريو من تجربة إيران في عام 1997؛ إذ أدت الظروف الاقتصادية، والسخط الاجتماعي إلى صعود حكومة إصلاحية برئاسة محمد خاتمي. واستطاعت تلك الحكومة أن تعيد الدماء إلى شعبية النظام الإيراني وفق محللين. وفي ظل التشابه القوي بين الأزمة الاقتصادية في زمن روحاني، وفي زمن رفسنجاني (من حيث التضخم، والنمو السلبي، والغلاء، وارتفاع نسبة الفقر) وفي ظل التشابه بين الفترتين من حيث الحراك الاجتماعي، وزيادة وتيرة الاحتجاجات لأسباب اقتصادية، فإن السيناريو يبقى واردًا. وإن أخذنا بالحسبان حاجة النظام الإيراني إلى تهدئة مع العالم من أجل ضمان ديمومته، فإن خيار حكومة إصلاحية، أو ما يشبهها، يبقى خيارًا مطروحًا، خصوصًا في حال توجهت الضغوط العالمية نحو المطالبة بتطبيق مثل هذا السيناريو. لكن ثمة فروقًا بين الحالتين، تقصي هذا السيناريو إلى حدٍّ كبير، منها:

احتمال موت خامنئي (ما يجعل البلد على مشارف انتقال سيادي يشعل التنافس بين مراكز القوى الرئيسة).

الفارق الكبير بين حالة الحرس الضعيفة في عام 1997، وحالة الحرس المهيمنة في السنوات الجارية، وتوجهه نحو بسط هيمنته على الساحة السياسية بموازاة مشروع التيار المحافظ لبسط الهيمنة على السلطة التنفيذية.

الشعبية الضعيفة التي يحظى بها التيار الإصلاحي.

السيناريو الثالث: تغيير النظام السياسي من نظام رئاسي إلى برلماني؛ ويفترض السيناريو تحرك النظام الإيراني باتجاه تغيير النظم السياسي من نظام رئاسي، إلى نظام برلماني. ويدعم ذلك، الخلاف بين الحكومة والبرلمان حول برامج الدعم الاقتصادي، وهبوط شعبية الحكومة؛ ما يساعد في تغيير نمط الحكم، كمخرج للتيار المحافظ من ازدواجية الشرعية التي تحكم العلاقة بين مؤسسة "بيت القائد"، ومؤسسة رئاسة الجمهورية التي تستمد شرعيتها من أصوات الشارع. ويدعم هذا السيناريو عددًا لا يستهان به من وجوه التيار المحافظ، كما يجري الحديث عن تطبيقه بين عدد من نواب البرلمان. وعلى الرغم من أن السيناريو يظل مطروحًا، خصوصًا في ظل مباركة ضمنية من خامنئي، إلا أنه يواجه عقبات، منها:

قِلّة الوقت المتاح؛ إذ يستغرق أي مشروع بهذا الصدد ما لا يقل عن عام واحد، لأنه يتطلب تعديلًا دستوريًا؛ ما يجعله أبعد مدى من عمر حكومة روحاني التي بقي على عمرها 11 شهرًا فقط.

وهناك عقبة دستورية أخرى، إذ يتعين عرض مثل هذا التعديل ضمن استفتاء شعبي؛ وهو ما لا ترغب به مؤسسات النظام التي ترفض التعرض لاستفتاءات شعبية.

معارضة وجوه محافظة مهمة لهذا التعديل؛ من ضمنهم رئيس البرلمان الحالي الذي يرى إمكانية نجاحه في انتخابات رئاسية قادمة.

السيناريو الرابع: نجاح المحافظين في الاستحقاق الرئاسي؛ ويفترض هذا السيناريو نجاح المحافظين في الاستحقاق الرئاسي القادم، في ظل نفور شعبي من حكومة روحاني، وتدني نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة (على غرار الانتخابات النيابية)، وإقصاء المرشحين المستقلين والإصلاحيين. وهو السيناريو الذي تفضله وجوه المحافظين الأساسية، وتدعمه ظواهر أساسية منها؛ تأكيدات مراكز البحوث على احتمال تدني نسبة المشاركة، وأثر ذلك في فوز المحافظين، وتأكيد مجلس صيانة الدستور على عدم تزكية وجوه تم رفضها سابقًا؛ لتكون النتيجة صعود وجه من وجوه الحرس الثوري، أو شخصية مقربة من هذه المؤسسة إلى سدة الحكم، ليكتمل مشروع الحرس الثوري في بسط الهيمنة على مؤسسات الحكم على أعتاب الانتقال السيادي.

سيناريوهات السياسة الخارجية، والحالة الإقليمية

كانت إدارة الرئيس ترمب أعلنت أن الهدف من وراء حملة "الضغوط القصوى" الأمريكية التي تسببت في الأزمة الاقتصادية التي تعصف بإيران حاليًا، إنما هو دفع طهران لإعادة النظر في سياساتها الإقليمية والدولية، ويمكن تصور استجابة السياسة الخارجية الإيرانية لهذه المحاولات الأمريكية، وفق السيناريوهات الآتية:

سيناريوهات الحالة الإقليمية: ثمة سيناريوهين محتملين على صعيد السياسة الإقليمية الإيرانية في ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية:

السيناريو الأول: القضاء على برنامج التوسع الإقليمي الإيراني؛ يفترض السيناريو أن تقضي الأزمة الاقتصادية على برنامج التوسع الإقليمي الإيراني؛ إذ ينخفض مستوى دعم إيران للميليشيات الموالية لها بسبب الأزمة الاقتصادية التي قلصت الإيرادات الإيرانية، وجعلت يدها مغلولة في تقديم الدعم المادي، وتوفير العتاد العسكري لهذه الميليشيات، ليحدث شرخ كبير في ولاء هذه الميليشيات لإيران، وبحثها عن ولاءات جديدة تقدم لها مصادر مالية؛ ما يترك أثرًا واضحًا على تغيير استراتيجيتها. كما يحدث تقلص كبير في نفوذ هذه الميليشيات بين أتباعها، وفي المجتمعات الحاضنة لها. وتفيد مؤشرات أولية باحتمال حدوث مثل هذا السيناريو في كل من العراق وسوريا واليمن؛ ما يمكن القول إنه طليعة تأثير العقوبات في تغيير سلوك إيران الإقليمي، وانحسار نفوذها. لكن السيناريو لا يأخذ بالاعتبار أن جزءًا كبيرًا من النفوذ الذي تتمتع به إيران لدى المجتمعات الحاضنة، ولدى الميليشيات الموالية لها، يأتي من منطلقات عقائدية، واشتراكات مذهبية (إذ تنظر هذه الميليشيات إلى إيران بوصفها ملاذاً شيعيًا لها)؛ ما يعني أن الضغوط الاقتصادية لا تؤدي بالضرورة إلى انحسار كامل للنفوذ الإقليمي الإيراني.

السيناريو الثاني: إيجاد طرق بديلة للدعم المالي (الدعم الذاتي)؛ يفترض هذا السيناريو أن ينخفض مستوى دعم إيران للميليشيات بسبب الضغوط الاقتصادية، لكنه يفترض أن تعمل إيران والميليشيات الموالية لها على إيجاد طرائق بديلة للدعم المالي، يمكن وصفها بالتحول نحو الدعم الذاتي. ويمكن رؤية نماذج أولية من هذه المحاولات لدى الميليشيات العراقية التي حاولت السيطرة على المنافذ الحدودية للحصول على مصادر مالية، أو في حالة الميليشيات الشيعية التي دخلت مجال تجارة الممنوعات للحصول على دعم مالي ذاتي. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو الذي تفكر فيه الجهات الإيرانية بوصفه السيناريو المفضل للحفاظ على قوة هذه الميليشيات، وتماسُك خطوطها، يمكن أن يعمل إلى حدّ لافت على الحؤول دون انهيار النفوذ الإيراني على هذه الميليشيات، وعلى المجتمعات الحاضنة لها؛ مع ذلك فهو لا يمكن أن يحول دون انحسار النفوذ لدى أجزاء من هذه التنظيمات، وبخاصة المنظمات السنية مثل حماس، إلى جانب بعض المنظمات الشيعية.

سيناريوهات السياسة الدولية: أما على صعيد التوجهات الإيرانية تجاه العلاقة مع القوى الدولية، والنظام الدولي، فيمكن تصور انفتاح السياسة الخارجية الإيرانية على السيناريوهات الثلاثة الآتية:

السيناريو الأول: انفتاح الجانب الإيراني على الإدارة الأمريكية الجديدة؛ وهو السيناريو الذي تفضله الإدارة الأمريكية وحلفاؤها، ويتمثل في أن تؤدي الضغوط الاقتصادية الناتجة عن العقوبات، وغيرها من المؤثرات، إلى انفتاح الجانب الإيراني على الإدارة الأمريكية، وانخراطها في حوار مع واشنطن حول ملفات إقليمية ودولية، يتبعه انفتاح من الولايات المتحدة على إيران. وهناك مؤشرات ترجح تحقق هذا السيناريو أبرزها نشاط الوساطات الدولية التي تحاول التقريب بين الموقف الإيراني والموقف الأمريكي، وعلى رأسها هذه الأيام الوساطة الروسية. لكن هذا السيناريو يواجه عقبة معارضة الحرس الثوري بوصفه المؤسسة التي تمتلك صلاحيات واسعة في السياسة الخارجية.

السيناريو الثاني: توجُّه إيران نحو الصين؛ وهو السيناريو الذي تفضله جهات محافظة داخل النظام الإيراني؛ ويفترض أن تعمل الضغوط الناتجة عن العقوبات والمؤثرات الأخرى، على دفع إيران باتجاه التحالف مع الصين من خلال الانخراط في اتفاقيات للتعاون الاستراتيجي لا على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما على المستوى السياسي، والعسكري. وهو السيناريو الذي تظهر إيران اهتمامًا كبيرًا به على المستوى الرسمي؛ ما يرفعه إلى مستوى السيناريو المنشود. مع ذلك، يظل افتراضيًا واستعراضيًا؛ إذ لا تظهر المواقف الصينية أي تركيز عليه، ولا يقابل الاندفاع الإيراني تجاه الصين حماس مماثل من الجانب الصيني. وهو أمرٌ متوقع بالنظر إلى الاعتمادية المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة. هذا في حين أن وضع إيران على قائمة FATF السوداء إلى جانب احتمال تدويل العقوبات يستبعدان انخراط القطاع الخاص الصيني في اتفاقيات التعاون المفترضة مع إيران، خشية تعرضه لعقوبات أمريكية. وبالتالي فإن فرص تحقق هذا السيناريو تبقى ضعيفة، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار احتمال معارضة داخلية، وإقليمية، ودولية للاتفاق، وهو ما سيجعل الصين مترددة بشأن الانخراط فيه.

السيناريو الثالث: استمرار انهيار الاقتصاد الإيراني؛ ويفترض هذا السيناريو أن يستمر الانهيار تحت وطأة المؤثرات المذكورة، وأن يساعد تدويل العقوبات على تكريس الأزمة، لتكون النتيجة دولة ضعيفة إقليميًا ومتماسكة (وفي نفس الحال متهالكة) داخليًا. وما يرجح هذا السيناريو على المستوى الدولي، أنهُ يستجيب لمصالح عدة جهات دولية، من بينها روسيا التي يصب في مصلحتها انحسار النفوذ الإقليمي لإيران (خصوصًا على صعيد الملف السوري)، والصين التي تستفيد من ضعف الموقف الإيراني لإملاء شروطها الاقتصادية عليها مقابل دعم موقفها الدولي، والولايات المتحدة التي يساعدها ضعف إيران على تطبيق برنامجها لتحجيم نفوذ إيران الإقليمي. كما ستستفيد الجهات الإقليمية من إيران الضعيفة التي لا تقوى على زعزعة الأمن الإقليمي، وممارسة سياسة التوسع. لكنها ستبقى متماسكة داخليًا ضمن أقل الحدود، بما يمنع الفوضى والانهيار. وقد أثبت الفترة السابقة أن إيران تنفتح على التعاون مع جيرانها العرب في حال تزايد العقوبات، في حين أنها تزيد من مستوى التعاون التجاري مع العالم على حساب جيرانها العرب في حال انتهاء العقوبات؛ ما يعني أن البلدان العربية ستكون مستفيدة من حالة العقوبات التي تفتح أبواب إيران عليها، وتزيد من حجم لجوء رؤوس الأموال الإيرانية إليها.

عن "مركز الإمارات للسياسات"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية